مثقفون عرب: تراثنا أكثر رحابة من الرقباء المعاصرين

منى فياض: من يجبر الآخر على قراءة أو عدم قراءة ما يراه مناسبا له؟ * غرايبة: خطاب يكرس التخلف تحت حجة اختراق المحرمات

TT

برزت في الحلقات الأربع التي نشرناها من ملف «الأدب المكشوف.. جرأة أم ابتذال» نقاط كثيرة متباينة، فيما يخص المصطلح القديم ـ الجديد، وتعريفه، وحرية الإبداع عموماً، وحدود هذه الحرية نسبة للقيم الاجتماعية السائدة. لكن ما أجمعت عليه أغلب المساهمات هو أن أدبنا القديم كان أكثر رحابة، وكانت مجتمعاتنا العربية أكثر تقبلاً وتسامحاً لهذا النوع من الأدب الإنساني، بشرط واحد قديماً وحاضراً ومستقبلاً: أن يكون إبداعاً حقيقياً يستمد قيمته الفنية من داخله، ولا يتوسل الشهرة أو الرواج الرخيصين بمختلف السبل.

تقول الكاتبة والباحثة الاجتماعية اللبنانية منى فياض في إجاباتها عن اسئلة «الشرق الاوسط»: يبدو لي من صياغة الاسئلة وكأن هناك موقفاً سلبياً مسبقاً من هذا النوع من الكتابة التي سميت «الأدب المكشوف»، هل عكس المحتشم أم المهذب مثلا! وهذا بالذات يعطينا فكرة عن المنحى الذي تتشكل عبره رؤيتنا في الراهن، لهذا النوع من الكتابات.

أود هنا الإشارة إلى أنه موقف «حديث»، ويبدو أن حداثتنا أحدثت نوعاً من الانغلاق والتزمت في كل ما يتعلق بالجنس أو الجسد أو الإيروسية، لماذا أسميها «حداثة»؟ لأن الموقف «الكلاسيكي» أو التراثي العربي لم يكن يتفق مع هذه الآراء التي استجدت في القرنين الماضيين. وهذا ما يذهب إليه بوحديبة في كتابه «الجنسانية في الإسلام»، إن للجنس أهمية كبيرة في الإسلام.

الإيروس يعد شيئاً جوهرياً في هذه الرؤية. والمؤلفات الإيروتيكية في التراث العربي لا تعد ولا تحصى، وهي بانتظار من يحققها لإعادة نشرها الممنوع والمغفل، وعلى الباحث الذي يريد الاطلاع الآن على بعض الطبعات النادرة لهذه الكتب، التوجه إلى المكتبات الأوروبية (مثل المكتبة الوطنية الفرنسية) التي حفظتها للبشرية. ومع أن الإيروسية مرتبطة بالحياة الثقافية للمجتمعات العربية ـ الإسلامية (تاريخياً) بشكل وثيق، فنجد، عدا المؤلفات المفردة لهذا الموضوع، الكثير من المقاطع الإيروسية متسللة إلى أي عمل من الأعمال الأدبية والحقوقية والتاريخية.. هناك على ما يبدو علم إيروتيكي عربي معمق ومرهف تمت بلورته عبر العصور ولم تتم دراسته بعد، فمن الأرواح المؤمنة إلى القضاة الجادين إلى علماء الفقه وعلماء الدين والشيوخ الكبار.. جميعهم قاموا بدراسة الإيروسية من دون عقد. وليس أدل على ذلك من «طوق الحمامة» الذي ألفه الشيخ الجليل ابن حزم. وأشير إلى هذا الأمر لأن الباحثين الغربيين يعرفون معنى ذلك أكثر مما نفعله نحن، فسيرولنيك (أحد أهم الباحثين النفسيين والإيتولوجيين الحاليين في فرنسا) يكتب أن تاريخ الحب الذي كتب عنه في الغرب بإسهاب كان من اختراع العرب في القرن الحادي عشر الميلادي.

وبينما أفرد ابن حزم مؤلفاً خاصاً للتحدث عن الحب وشجونه، صرنا نجد أنه موضوع غير جدي بما فيه الكفاية ولا يمكن أن نعده من الأمور الجليلة التي قد تشغل رجل سياسة كي يفرد له مؤلفاً. فهذه هي النظرة التي سادت تجاه الحب في العصور المتأخرة.

كن المنع يصل إلى حد إلغاء التربية الجنسية من البرامج التعليمية في بلد منفتح مثل لبنان، ويطال كل من يلامس هذه المواضيع التي تعد من المحرمات، خاصة عندما يتم التطرق إلى الحب والرغبات الإيروسية والعشق، وهو أمر لا نزال مقصرين فيه ولا نجرؤ عليه، ويتعرض من قد يلامس بعض جوانبه إلى المحاكمة والاتهام (كتاب عبده وازن في لبنان أو مَثَل الكويت في قضية محاكمة ليلى العثمان وعالية شعيب) واللائحة تطول.

السؤال الذي يمكن أن يشغل الفكر: كيف وضمن أية آليات تحول هذا الاختراع العربي الذي أسال من قرائح الشعراء الشيء الكثير، كيف تحول إلى موضوع تحريم وقمع؟

المشكلة في بلادنا عميقة وهي تطال بنية الشخصية العربية التي تقمع وتكبت كل ما يساعد على تفتحها وبلورتها. وهي تتعلق بالتحول الحاصل في تعاملنا مع الحب والجنس لجهة تحقيرهما واستبعادهما من مستوى التداول الطبيعي إلى الزوايا المعتمة المخجلة. وهذا كله يصلح كمواضيع جدية للدراسة.

ومن هنا لا أرى مانعاً من وجود هذا النوع من الكتابات أو أية كتابات أخرى وحتى لو أراد أصحابها العمل على ترويج كتبهم! أليس الترويج هو الطاغي في كل الميادين؟ لم لا على صعيد الكتب؟ ثم إن ترويج «أي كتاب» في هذا العالم العربي المترامي الأطراف والذي تطغى عليه الأمية بحيث أنه يترجم كتاباً واحداً في السنة لكل مليون مواطن؟ لهو أمر مفيد ولن يتسبب في أي أذى على ما أعتقد. ثم من يجبر الآخر على قراءة أو عدم قراءة ما يراه مناسبا له؟ وأجد أنه في حال تكاثر الكتب التي نسميها «جريئة»، سوف لن تعود تثير الكثير من الاهتمام وتصبح «عادية». ان اعتماد حرية الرأي والتعبير والكتابة في عالمنا العربي هو من أبسط حقوقنا كمؤلفين وكتاب. أما القارئ فيختار ما يريده وينبذ ما لا يريد، ولكن لا يمكن السماح لفئة (أكانوا قلة أم كثرة) ان تفرض قانونها القمعي الخاص، والذي يبدو أنه يتعارض حتى مع التقاليد التراثية نفسها.

سبق أن أشرت في كتابي «فخ الجسد» إلى تحليل فوكو حول مسألتي القمع والمنع وإرجاعهما إلى الحقبة الفيكتورية. المنع والتحريم اللذان طالا الحياة الجنسية في العصر الفيكتوري.

هناك ميل الآن في المجتمع الحديث إلى عدم الإفصاح عن التجربة الجنسية والعاطفية لأنها تعد من الأمور الحميمة التي تتعلق بذات أو أنا الشخص الداخلية الحميمة، وبالتالي لا يعود الشخص مستعداً للإفصاح عنها إلا في حضور من يثق به أو من يكون متخصصاً في الموضوع. أي أنها مرحلة القمع الذاتي، وبالتالي هناك تعامل جديد مع الأنا. بينما كان من أسهل الأمور فيما مضى التعبير عن كل تجارب الشخص بسهولة وانسيابية.

من الأردن، يرى الكاتب الأردني هاشم غرايبة، فيما يخص السؤال الأول، أن المحرمات المعرّفة تاريخياً هي الجنس والدين والسلطة. ويتساءل بدوره: هل يمكن تجنب هذه المحرمات؟ ويجيب: «الكاتب العربي واقع بين حدين قاسيين: رغبته في التحرر والانعتاق والتعبير عن ذاته ومكنون الحياة من حوله امام وسائل القمع بختلف أشكاله، ونظرة الآخر له (تحديداً النظرة الاستشراقية من قبل الغرب) من حيث الرغبة بإلزامه بصورة نمطية متخلفة تحتفي بالكتابات العربية في ثلاث حالات فقط:

أ - الكتابات المناهضة للإسلام، ب ـ المناصرة للصهيونية، ج - الكتابات التي تحتفي بمظاهر التخلف الاجتماعي وتضخم صورتها.

بين هذين الشرين يصبح المناخ ملائماً لإقحام الجنس ومجافاة الدين خارج سياق التطور الطبيعي والفني والإبداعي للآداب والفنون العربية.

الفنون والآداب العربية مقصرة في دخول الكثير من حقول الإبداع: أين أدب الخيال العلمي على سبيل المثال؟ انه غائب بسبب القصور العلمي والتقني في سياق الحياة العربية! فما معنى الاستعجال باختراق موضوعة الجنس والدين قبل نضوج مبررات وجودها؟ مثل هذه الاعمال في غالبيتها هروباً من مواجهة الواقع وليست اختراقاً له بقصد تغييره.

وإجابة عن السؤال الثاني، يقول: «الحرية عندي هي وعي الضرورة، والضرورة تتأتى من وعي المبدع لدوره في تغيير الواقع الآسن من خلال الحركة الخلاقة نحو الافضل والأجمل. وهذا يتطلب ان يغمس ريشته النقدية في الجروح النازفة لا ان يلهينا بفنتازيا الجنس ومعارك الحرام والحلال الهامشية من خلال خطاب متعال يكرس التخلف تحت ستار انه يحفر في المسكوت عنه. ليست المسألة جدول اولويات، والمسكوت عنه ينبغي ان يفتح على مصراعيه ولكن بهدف ان ينهض بالواقع العربي المتخلف لا بهدف عرض سوءاتنا من دون مبرر إلا الشهرة الشخصية للفرد او إرضاء السيد الذي هو أحد مسببات هذا الواقع المتردي، وتحديداً الآخر الذي أجهض كل المشاريع النهضوية على أرضنا، وحين جاء يحررنا لم يجد صورة تمثل حداثته على ارضنا الا العباءة التقليدية في أفغانستان والعراق».

وفي ما يخص السؤال الثالث عن الاعمال الروائية التي اشتهرت بسبب الموضوعات التي تناولتها، وليس لقيمتها الفنية، يقول غرايبة:« لا أنحي باللائمة على منشئها بقدر ما ألوم معترضيها. «آيات شيطانية» لو لم تصدر الفتوى ضدها لسارت كما باقي أعمال الروائي سلمان رشدي ولما ناقشها نقاد الادب واستقر بها المقام على رفوف المكتبات كباقي الاعمال الروائية للكاتب.

* الكبيري: ينبغي الاهتمام أولا بمعضلة القراءة في الوطن العربي

* يقول الكاتب المغربي أحمد الكبيري صاحب رواية «مصابيح مطفأة» إن «الكتابة الابداعية عموما، سواء أكانت نثرا أو شعرا، لابد أن تجد لها قراء وجمهورا عاشقا وإلا كانت كتابة بلا مستقبل ولا آفاقا. والكتابة الروائية على وجه الخصوص لكي تحقق هدفها، وهذا على الأقل من وجهة نظري المتواضعة، لا بد من توفرها على ثلاثة عناصر أساسية، وهي أن تكون ممتعة وتحمل رسالة وتحقق تواصلا بين الكاتب وجمهور القراء. وما دام موضوعنا هو لجوء بعض الكتاب الشباب في العالم العربي لتوظيف الجنس في أعمالهم الابداعية فقط ليحققوا بذلك الشهرة لأنفسهم وسرعة الانتشار والذيوع لأعمالهم، كما يزعم بعض النقاد، أود أن أركز على مناقشة هذه النقطة انطلاقا من تجربتي المتواضعة مع كتابة الرواية، وما الذي يعنيه بالنسبة لي أن يحمل المرء صفة كاتب».

ويضيف الكبيري «في اعتقادي، سواء تم اعتماد الجنس في الأعمال الابداعية كموضوع وتيمة أساسية للنص، أو كعنصر من العناصر الرئيسية أو العرضية فيه أو كلغة عارية مكشوفة، لا بد قبل إصدار أي حكم قيم يختزل العمل كله في أن الكاتب أو الكاتبة إنما لجأ أو لجأت لذلك، فقط بنية إثارة الانتباه وتحقيق الرواج والشهرة، ينبغي التوقف قليلا عند مسألتين أساسيتين:

المسألة الأولى وهي أن يكون الكاتب تطرق في عمله الابداعي للجنس كعنصر من العناصر الأساسية المكونة للنص سواء كموضوع يشتغل عليه، أو كلغة أملتها الضرورة الفنية لتحقيق التأثير المطلوب في القارئ. لكن مع احترامه لشروط الكتابة الفنية والجمالية وكذا رسالتها الانسانية، وهنا في اعتقادي يكون الجنس كعنصر من عناصر الحياة الطبيعية التي يعيشها كل واحد منا، ويتعين علينا القبول به والتعامل معه بعيدا عن كل تزمت وعن كل جهامة زائفة.

والمسألة الثانية، هي أن يكون الكاتب راهن على الجنس فقط كعنصر للاثارة والتميز ولفت الانتباه إليه، من دون مراعاة القواعد الفنية وشروط الابداع الحقيقي. وهنا إذا ما استطاع هذا الكاتب أن يحقق الرواج والشهرة، نكون أمام حالتين:

الحالة الأولى وهي إما أن جمهور القراء والمتلقين ما زال يجد في نفسه الحاجة الى هذا النوع من الكتابة ويستجيب لها ويعمل على الترويج لها، على الرغم من تفاهتها وسطحيتها. وهنا نكون أمام خلل ما، يتعين معه على كل الفاعلين في الحقل الثقافي والتربوي والنقاد على وجه الخصوص، أن يتدخلوا لرفع مستوى الذوق عند هذا الصنف البليد من القراء.

والحالة الثانية، وهي أن يكون القارئ قد خدع في كاتب تافه عن طريق الترويج المجاني لعمله والنفخ فيه عبر أبواق ومنابر بلا مصداقية مدعومة من جهات يهمها أن تكرس ثقافة المسخ والابتذال. وفي هذه الحالة، سيسقط العمل وكاتبه بنفس السرعة التي ارتفعا بها، لأن القارئ سيكتشف سريعا ومن تلقاء نفسه الخدعة التي وقع فيها، وبالتالي لن يقبل بالاستمرار في اللعبة مغفلا». ويخلص الكبيري إلى أنه «إذا كانت الصدفة من شأنها أن تخلق مجرما خطيرا، فإن الدعاية المجانية والأبواق المأجورة والأقلام المرتشية لن تعطينا كيفما كانت الظروف والأحوال كاتبا عظيما. وأعتقد، أن المهم الذي ينبغي الاهتمام به، في زمن الفضائيات والإنترنت والتعري بكل أشكاله، هو كيف نتجاوز معضلة القراءة في الوطن العربي وكيف نبلور ثقافة جديدة تكون قادرة على مقاومة هذا الخراب الذي يحيط بنا من كل جانب. وبعدها سيكون الذوق العام هو الحكم الفاصل بين الغث والسمين مما يكتب وينشر».