مسرحية مغربية تستعيد ملحمة جلجامش

TT

يفتتح المشهد الأول من مسرحية «رأيت كل شيء»، التي قدمتها فرقة «مسرح التأسيس» من مدينة تازة أخيراً بقاعة باحنيني بالرباط، بجوقة من الناس هم سكان مدينة أوروك التاريخية، يعددون أمجاد جلجامش وإعماره لمدينة أوروك ودفعه لسكان المدينة نحو القتال والجهاد من أجل أن يستتب الأمن بالمدينة، تعرج من خلاله الجوقة عن طريق وصلات غنائية على ما يحدث الآن في مختلف المدن العراقية: بغداد، الفلوجة، البصرة...، كما لو أن التاريخ يعيد نفسه، ويحتاج العراق بالتالي الى شخصيات قوية مثل جلجامش وأنكيدو، اللذين استطاعا بفضل شجاعتهما وتعاونهما هزم الوحش «خمبابا» وانقاذ العالم من شروره.

تتوالى مشاهد المسرحية وفصولها بديكورها الحزين ذي الألوان الخريفية واضاءتها الخافتة، وتحكي شخوص المسرحية: أب جلجامش، كاهنة الحب، أنكيدو وجلجامش نفسه، الذي شخصه باقتدار مخرج المسرحية محمد بلهيسي، قصة لقاء جلجامش راعي أوروك المنيعة بأنكيدو الذي كان يعيش مع الحيوانات ويرد معها الماء، ليتحول بفضل الحب ومجهودات كاهنة الحب الى هيئة الانسان. رقصة قتلهما للوحش وموت أنكيدو وارتياده أصقاع الأرض بعد ذلك بحثا عن نبتة الخلود والحياة ليمنح شيوخ أوروك حياة خالدة ومديدة ويعتقهم من تعب الشيخوخة والمرض ومن هول الموت. ولكنه بعد عناء البحث يعود جلجامش الى مدينته خائبا بعدما أخذت الحية نبتة الخلود في غفلة منه. يعود والموت يتربص به مثل حيوان ضعيف.

«رأيت كل شيء» رحلة للمعرفة الحقيقية بقدرات الانسان، وبقوته وبضعفه، وبمعنى الصداقة وحرقة غيابها، كما أنها تمجيد لنواة الحضارة والتفكير البشريين، وتكريم للحضارة الانسانية الأولى، حضارة بلاد الرافدين.

إلا أنه على الرغم من هذا، فإن المتتبع للمسرحية لا يسعه إلا أن يستحضر عراق اليوم، الذي أنهكته الحرب الاستعمارية الجديدة التي ترغب في القضاء على حضارته وتاريخه المجيد. وهو نفس الهاجس الذي حرك مؤلف المسرحية الباحث المغربي سعيد الناجي، الذي لم يستطع البقاء صامتا أمام هول الكارثة، وفضل استدعاء النصوص الأسطورية البالية التي شحذت ذهنه في أزمنة سابقة، واستطاع بالتالي تحقيق أمنيته القديمة بكتابة المسرحية، وعرضها بدعم من وزارة الثقافة المغربية ومن انجاز فرقة «مسرح التأسيس» بتازة، في دراماتورجيا واخراج لمحمد بلهيسي وسينوغرافيا لمحمد خمروش وتشخيص لكل من: محمد بلهيسي، محمد نجيب اطريمس، يوسف الوطاطي، عبد السلام برينسي، رشيد السهلي، محمد أبو الكروم، منار الذهبي، نبيلة حرفان، صباح بن الصديق وأحلام المختاري.

وفي هذا الاطار يقول سعيد الناجي في تقديمه لمسرحيته «رأيت كل شيء» الصادرة هذا العام في كتاب عن «دار ما بعد الحداثة» بفاس، إن هذه المسرحية «جاءت وفية لمصدرها الأسطوري، لأنني أعتبر الأسطورة غنية بالمعاني والعبر ما يستطيع أن يضيء ليلنا هذا، وبما يستطيع أن يشع في الحاضر والمستقبل. لم يكن ظهور أنكيدو في الحقيقة قدرا أوقفت به الآلهة تقدم جلجامش، ولكنه كان تتويجا لمسار قطعه جلجامش نحو التقدم والتحضر، وكأن الملحمة ـ وهذا ما تحاول المسرحية إبرازه ـ تقع في بداية التفكير الانساني، ووعيه بمزايا الجدل والحوار والتشاور. إن قدوم أنكيدو هو خروج من المفرد الى الجماعة، ومن الفكر الوحيد إلى الفكر المشترك، ومن احتكار المعرفة إلى اقتسامها، ومن مفهوم القوة باعتباره سيطرة الواحد القوي إلى اعتبارها سلطة للمعرفة والتشاور والتعاون. شكلت الملحمة أول تدخل قوي وفلسفي لحضارة بلاد الرافدين، ولخصت مسار تطور حضاري بدأ قديما منذ الحضارة السومرية، وهي بذلك تشكل خزانا من المعاني، هكذا، تقع ملحمة جلجامش في بداية تشكل الحضارة الانسانية وقيامها على مبادئ المعرفة والوعي والاتحاد والتنافسية الشريفة التي تمجد الاختلاف.