فنون مركّبة تؤكد هامشية الإنسان

«ميتابوليس» عرض خارج التصنيفات في بيت الدين بالشراكة مع زها حديد ويعيد تركيب المكان باسلوب تفكيكي

TT

من النادر أن يشهد لبنان عرضاً مستقبلياً كالذي رأيناه في «بيت الدين» الأسبوع الفائت. فعرض «ميتابوليس» أو(ما وراء المكان) بأسلوبه التفكيكي، يعيد تركيب العالم من جديد، خارج التصنيفات الفنية المعهودة، فلا هو سينما ولا رقص ولا مسرح ولا تجهيز، بل هو كل هذه الفنون مجتمعة في ساعة واحدة، يدخلها المتفرج مترقباً ويخرج منها محترقاً بالأسئلة والحيرة. فقد استطاع مصمم الرقص البلجيكي فريدريك فلامان بالتعاون مع المهندسة العراقية العالمية الصيت زها حديد ان يجعلا من عملهما المشترك رائعة فنية لا تخلو من الفلسفة والعمق والبحث والتأمل.

صحيح أن زها حديد باسمها اللامع الذي ارتبط بجائزة «بريتزكر» ـ وهي واحدة من أهم جوائز الهندسة في العالم ـ قد خطفت الأضواء أثناء ذاك العرض الوحيد، وأن الحضور احتفى بها وصفّق طويلاً وبحراره لإنجاز بدا وكأنها وحدها صاحبته، لكن الحقيقة أن هذا العرض المشغول جسدياً عبر أجساد الراقصين وأفانين تصوراتهم، وهندسياً من خلال الديكور، وسينمائياً عبر الشريط الذي كان يعرض على الجدار الخلفي للخشبة، وموسيقياً بسبب ما يشبه الموسيقى التصويرية التي رافقت الراقصين والشريط السينمائي معاً. هذا العرض هو ثمرة جهد جماعي كبير، ما كان ليولد على النحو الذي رأينا لولا جملة معارف، بينها المهارة التقنية، التي تضافرت لتجعل من البناء الأخير خلطة سحرية. مؤكد أن الذين ذهبوا ليروا رقصاً حديثاً، كما كان يتوقع البعض، صدموا لأن الراقصين بدوا وكأنهم مجرد قطع في الآلة الكبيرة التي ركّبت على المسرح. فالراقصون مجرد أقزام أمام ظلهم الضخم المنعكس على الخلفية البيضاء، ظلالهم ترقص مثلهم تماماً لكنها أبرز منهم للمشاهد وأقوى حضوراً وتأثيراً في النفس. تغيرت لعبة الظل تكراراً، لكن الراقصين الحقيقيين بأجسادهم التي كان يفترض أن تلعب دور البطولة بقوا ممسوخين أمام صورهم المنعكسة على الشاشة. فتارة يصبح الظل هو البطل وتارة تكون الصورة هي الأبرز. وهكذا يبقى الأصل هشاً ضعيفا. الأقواس او المنحنيات المعدنية الثلاثة التي كانت تتحرك على الخشبة وعليها يتحرك الراقصون ويقومون بصولاتهم وجولاتهم كانت تسمح بتشكيلات مختلفة، لكن الأهم من ذلك كله الكاميرا التي كانت تلتقط أحدهم أو جزءاً منه لتعكس القطعة التي تريد من جسده وترينا حركتها بحجم عملاق. فها هي أرجل احد الراقصين بحيويتها البارعة تأخذ حيزاً ضخماً على الحائط الخلفي. أصبح العرض في هذه اللحظة منصباً على شطارة رجلي الراقص، بينما لا يميز المتفرج عن بعد غير جسم ضئيل لرجل يتحرك على قوس معدني. صورة الراقص قد نراها مقلوبة، طائرة تائهة، كل هذا لا يشبه الأصل إلا بقدر ضئيل، رغم أن الكاميرا لا تفعل سوى تصوير هذا الأصل أو ما تختاره منه. من الصعب ان تتخيل هذه اللعبة البسيطة والذكية من دون أن تفكر بأن البشري أصبح وهماً والوهم/الصورة هي الحقيقة التي تستولي على الأذهان.

ومن العسير أن يقدّم «ميتابوليس» ببضع كلمات، فظلال الراقصين عراة الجذوع، وانعكاس صور الراقصات سرعان ما تستبدل، حين يحتاج الأمر، بشرائط سينمائية مشغولة رقمياً بما يتناسب ولوحات المؤدين أنفسهم، فحين نرى الراقصة وقد لفّت جسدها بشرشف تعبث بجوانبه وتفتحها لتستطيل، نرى أيضاً وقد انعكست ضخمة على الخلفية البيضاء أو الزرقاء قد استحال شرشفها إلى شاشة ترى هي بخفض رأسها باتجاهه ونرى معها شريطاً يكاد يلخّص آلام العصر ومغامرات أهله السوداء.

ثمة سوداوية فائضة في العمل، وموسيقى لا تبغي الإراحة أو تسكين النفوس وطمأنتها وإنما حثها على النظر في القلق والبؤس العصريين.

في بعض الأحيان غابت صورة المؤدين عن الشاشة لتصبح الخشبة وحركة الراقصين عليها وكأنما تجد اكتمالها العضوي في الشريط السينمائي الذي تم تحضيره رقمياً بمهارة عالية. فها هو أحد الراقصين ينام على قطعة قماش مربعة ويدور جسده عليها لنراه مكبراً عشرات المرات في الشاشة وهو يهوي في بئر سحيقة لا قرار لها. كان باستطاعتنا أن نجوب عذابات الدنيا وفوضاها من خلال الفيلم الفني: الحروب، المجاعات، الدمار، الهدم، البناء، الجسور، المشردون. وفي مشهد يشي بنهاية كارثية تفرّج المؤدون وقد أداروا لنا ظهورهم على مبنى بعرض الخشبة ينهار ويسقط كعلبة كرتون وينبعث منه غبار كثيف، وكأنما قضي على كل أثر لحياة. ولا ينتهي هذا العرض المتشائم اللذيذ من دون صرخة آه يطلقها مؤدٍ منفرد يعتلي جانب من الخشبة.

كان من المستحسن لضبط المؤثرات، وتكثيف فاعليتها على المتفرج عرض العمل في صالة مغلقة. لم يكن المسرح في الهواء الطلق سيئاً لكنه ضيّع على الأرجح شيئاً من قوة الصوت والصورة، ولربما أغرق فريق العمل في تشاؤميته ولم يترك للطرافة أو الطراوة مطرحاً، واحتمل المشاهد قسوة الفكرة نظراً لرهافة التقنيات المستخدمة وروعة الانسجامية بين العناصر المستخدمة حتى بدا الكل يتزاوج في تشكيل رؤيا للعالم قد لا تعجب الكثيرين ممن يريدون الانتصار للإنسان كقيمة أولى لا منافس لها ولا مزاحم. لكن زها حديد وفريدريك فلافمان أرادا في فريقي عملهما رأياً آخر، وهو وإن أزعج أمتع وترك في النفوس أثراً باقيا كما كل الأعمال الكبيرة التي تريد لنفسها معنى آخر غير ذاك الشائع الذي اعتدناه.