على مشارف سنواتي التسعين أحسستُ باباً في داخلي يُفتح

رحيل فيتسلاف ميووش الشاعر البولندي المقيم في أميركا منذ الستينات والحاصل على نوبل عام 1980

TT

رحل في ليل السبت الماضي الشاعر الذي شُغلت به طيلة عشرين سنة، قرأت له وعنه، وترجمت من قصائده حفنة كنت أطمع لو أني كتبتها من دونه. الشاعر الذي حقق كل الخصائص التي طالما وجدتها مستحيلة في قرن صراع العقائد الدامي.

لم يحقق فيتسلاف ميووش (1911 ـ 2004)، الشاعر البولندي المقيم في أميركا منذ الستينات، شجاعة المتعالي على الموضات الثقافية المتسارعة التي ابتلي بها الغرب، ولا شجاعة الإدانة لأكثر العقائد الثورية دموية وعتمة واتساع تأثير في قرننا الراحل، ولا شجاعة المطل المشفق من برج الميتافيزيق العاجي على أكثر خفايا المأزق الانساني نزفاً، من دون أن يورط النفس بالإسهام والمشاركة في التنكيل، ولا شجاعة الذي رفع الشعر ومهمة الشاعر الى مستوى ارفع مما كانت تطمع به الفلسفة. لم يحقق هذه الشجاعات وحدها بل أضاف اليها شجاعة الكتابة الشعرية التي يتوحد فيها الوضوح والعمق بصورة فريدة.

ولد ميووش عام 1911 في ليثيونيا القديمة التي كانت تابعة لروسيا القيصرية، ثم الى بولندا. في الحرب الثانية كان في المقاومة ضد النازية، وبعد التحرير شغل منصبا في الملحقية البولندية في باريس، التي سرعان ما استقر فيها عازفا عن العمل، ومتمردا على التبعية للنظام الذي بدأ يتعرف على ملامحه الستالينية المخيفة. أول الستينات هاجر الى الولايات المتحدة الأميركية وعمل محاضراً في بيركلي، ثم حصل على الجنسية عام 1970. في أيام باريس أصدر كتابه الفكري المهم «العقل المعتقل»، موجها الى عقل المثقف داخل معتقل الآيديولوجيا. ثم بدأ اسمه يلمع بفعل تزاحم المهاجمين العقائديين، وكان الشاعر نيرودا أحدهم. وتواصل فكره النقدي الجذري يداً بيد مع رؤاه الشعرية، حتى فوزه بجائزة نوبل عام 1980.

ليل السبت فاجأني خبر موته بهذه العبارة الخبرية البسيطة بساطة ميووش، والعميقة عمقه: «إنه الموت، الموت ببساطة. لقد حان أجله». مات وهو في الثالثة والتسعين، وفي غمرة عمله الشعري الذي لم ينقطع عنه رغم مرضه. في آخر مجموعته الشعرية الكاملة التي أصدرتها «بنجوين» عام 2001، ترجمت حينها هذه القصيدة التي كانت كما يبدو آخر قصائده، تحت عنوان «النضج المتأخر»:

على مشارف سنواتي التسعين

أحسستُ باباً في داخلي يُفتح

وأنني دخلت وضوحَ صباحٍ مبكر.

واحدةٌ إثر أخرى كانت حيواتي السابقات

يشرعنَ للرحيل مثل سفن، بمعيّة أحزانهن.

وأن الأوطان، المدنَ، الحدائقَ، وخلجان البحار

اللواتي خُصصن بفرشاتي

أصبحن أقربَ الى الرسم مما كنَّ عليه.

لم أكن بمعزل عن الناس يوماً

فبيننا أسىً وأسف.

كم تحدثت عن غفلتنا بأننا أبناء إله واحد،

وما من تعارض، من حيث مصدرنا،

بين نعم ولا، وبين كون، وكائن، ويكون.

بؤساء كنا، فلم نستثمر إلا الجزء اليسير

مما تسلمنا من عطايا رحلتنا الطويلة.

شظايا لحظات من البارحة، ومن قرون مضين

ـ ضربة سيف، تكحيل أهداب أمام مرآة معدن لامع،

إطلاقة بندقية مُهلكة، مركبة شراعية تتحطم بفعل صخرة ـ

يسكنَّ فينا جميعاً، في انتظار الإنجاز.

كنت أعرف دائما رغبتي بالعمل في مزرعة أعناب،

مثل كل رجل أو امرأة عارفين أو جاهلين بذلك

من زمننا.