المكان والزمان والخوف في رواية لبنانية كتبت على عجل

حسّان الزين في «الرفيق علي» يخلط بين ما نقرأ وما نعيشه ببساطة بليغة عوضت استعجاله

TT

العلاقة بين الصحافة والادب ملتبسة، يحكمها ضجر الصحافي من المادة الادبية التي يقترفها، يظل مستعجلاً وكأنه يخاف ان يفوته الخبر. الجريدة لا تنتظر هبوط الوحي على الكاتب لتصدر، فمعه ودونه تصدر في موعدها.

هذا الشعور ينتاب قارئ رواية «الرفيق علي» للصحافي حسان الزين. يشعر بأن الكاتب منهمك في انهاء مقالته، اكثر مما هو منهمك في تحريرها. وذلك قبل ان يعلو صياح مدير التحرير، وعمال المطبعة من قبله. لولا هذا الاستعجال الذي افقد النص الروية، وجرنا لاهثين معه، لكان الزين روائياً بامتياز.

رغم ذلك، او بفضل ذلك، يملك النص اسلوبه الخاص. يعتمد الجملة الخبرية القصيرة بصيغة الماضي المعاش، الماضي الذي لا يزال حاضراً ويلتف ناسجاً الآتي بثباته في العلاقة بين الوعي والتجربة.

لا يناقش، ولا يعرض عضلات بلاغية، ولا يفلسف، ولا يبحث عن حلول، لان المتاعب التي يواجهها تسقط عليه عفواً وتحل عفواً. بسيط حتى البراءة في تقاطع الحوادث وتداخلها، وفي عرضها وكأنها عفو الخاطر.

رواية تروي حكاية الكثيرين بشخص الرفيق علي. حكاية البسطاء الذين يرفضون الانزلاق الى معاجن الوجهاء الذين عادوا على دبابة اسرائيلية. بسطاء يتركون الوقت يمضي ترفاً على اهتماماتهم البسيطة، كجمع السبحات واقتناء التحف التي لا تاريخ لها سوى ما يروونه عنها من حواديت يصيغونها مبالغة في قيمتها.

المكان والزمان يتبادلان السمات والعناصر والحضور، ولا يعود اي منهما ذاته فقط. مكان الرواية جسد علي ومن خلاله هذا الكم البشري النازح الى المدينة. يبدأ المكان من القرية، القفر الذي لا ينبت من عرقه زهر ولا عشب، ولا يبنى من كدّه الصخري بيت. ينزع من قريته باتجاه حلم الوصول الى الشاطئ ليقرأ القصص التي كتبها الميناء، وليرى ايدي لرجال لا يشاهدون انكسارات الموج لكي لا يستريحوا.

يهجر حقل الزراعة الى سوق التجارة البليدة التي يمارسها النازحون من الارياف برساميلهم الضئيلة، فيكررون ايامهم في مساحة صغيرة بالابيض والاسود الباردين في مداخل محلاتهم التي لا تدر عليهم اكثر من طمأنينة السترة.

زمان الرواية مدينة صور، زمن مقعّر مذ هاجر التاريخ عن سواحلها، وسرق لصوص الآثار شواهد مجدها. زمن يحتسب بانكسار الموج على شواطئها، وبتعب الصيادين المكابر.

حركية تبادل الزمان والمكان ادوارهما تعطي النص ابعاداً يتوخاها الرفيق علي وهو يقود ابنه في مسارب مدينة محتلة. رجل ظله صبي، صبي جدّي خال من النضج والفهم الاضافيين.

يتوارى خلفه ليوزع منشوراً، او ليعلم عن غيابه اذا طال، او منصتاً لرواياته النضالية السرية المتخندقة بين الكذب البريء والمخيلة.

يغلّف الرفيق علي حياته بأهمية مفتعلة كي يتميز في مدينة يعرف اهلها بعضهم بعضاً. مشوار السينما مثلاً، يحتاج ليقوم به في هذه المدينة الفاضحة الى التحايل على الانظار المراقبة والفضولية. وكي يتملص من العلاقات المشبوهة يضطر الى التسلل عبر الاكاذيب الصغيرة، يدّعي كثرة العمل، اجتماعاً رفاقياً.

يتواطأ مع نفسه بحجة ما، كي يمر خلسة امام بيت، او مجموعة من الناس، لا يرغب بالوقوف معهم كي لا يتهم بالانتماء اليهم. علاقات بسيطة مراوغة تصنع ذاكرتها اليومية كيفما اتفق، من سقط المتاع، او مما يلقى عليها من احداث قد تكون مصنوعة من هامشية حياة غفلها، او ارتجلها.

لكنه دائماً يظل على استعداد لاضافة جديد عليها مما يطرأ للآخرين ويعجب به. يرتق فراغ ايامه بتحركات سرية كي يقيم لنفسه وزناً ومعنى. يستعيد نضال الماضي السري، الذي لم يتعدّ التعاطف. يجعل من نفسه امام نفسه هدفاً للمقنعين الذين يشون بنضالات المقاومين، ويرشدون الاسرائيليين اليهم، ويغتالون صور. وكي تكمل المخيلة الصورة اخذ يحاذر المقنعين، واطمأن بأنه هدف مما يثبت انه ما زال حياً: انا هدف، اذاً انا موجود.

هدف كما كان دائماً، كما نسي دائماً. لحظة كونه هدفاً هي اللحظة التي تختصره الآن. في ليلة من ليالي الخوف، خاف من رجل العتمة الذي لمحه ليلاً على سطح بناية قيد الانشاء مقابل بيته، خاف ونسي الخوف ثم عاد وخاف.

زوجته خافت خوفاً آخر، خافت ان يشعر بارتباكها، وهو بحاجة الى المساعدة، فيخاف. فهي لا تعرف من التعبير عن الحب غير الخوف، الخوف من خسارته.

تلك الليلة اعاد تقييم ماضيه، فلا انقلب عليه ولا تنصل منه، كأنه لم يرد ان يحطم او يجرح صورته، تجنب اذية طيف الماضي المعلق في صور رفاق يستحضرهم بحنين، بعد ان ابتلعت الاحداث الجانب العقائدي من ذاكرته.

الخوف الذي يعرفه علي هو الخوف الذي لا يخون الضحك، ولا الحياة اليومية. خوف يستحضر وقائع الحياة الماضية، ويشاهد من خلاله صورته مرمياً في الشارع وقد اطلق عليه المقنعون رصاصهم. خوف يبتسم ابتسامة تقع بين السخرية والهذيان. خوف يجعله مشغولاً بخوفه، فلا يملك الوقت ليشفط رملاً ويبيعه، ولا ان ينقّب في الآثار ليبني قصراً. خوف جعله يهرب من الكابوس الذي يبنى في صور.

لم يملك الامان لغيره ليحصل على استرسال ايجابي في حياته التي حمل فيها مئة بطيخة. كان مشغولاً بتعليم اولاده الذين ارسلهم الى غير عاصمة وجامعة على نفقته. وتأخروا جميعاً في التحول الى الانتاج. يلوم علي نفسه ويبكي متجره الذي دمّر. لم يتذكره ولم يشعر بحنين اليه، انتبه الى حاجته اليه.

خرج علي من خوفه، بعد ان انسحب الاسرائيليون من المدينة. اطل من شرفة بيته الذي تداعى بفعل زمن ضائع بين عجزه وقدرة الحرب.

لم يجد البحر، كان يراه أينما وقف في صور. اليوم، لا تراه بيوت صور، لا تراه الا الابنية الشاهقة التي ملأت المكان.

استغرب ان ابناء صور نسوا الشاطئ الذي سفك دماءه المقاولون، واخفوا الدماء بطرقات مشغولة بالتراضي. نسوا واقاموا في هذه الابنية المرتفعة كأشواك صفراء حادة.

مرت الحرب على الرفيق علي فتركته منهكاً ضرّجته الخيبات. الامكنة شحت عليه فأصبح اسير صحن الدار والمطبخ والذاكرة. والزمان الذي ضنّ عليه اتاه في زمن لا يوافقه فتراخى ليروي اوجه الشبه بين الناس والوطن.

نص يخلط بين ما نقرأ وما نعيش ببساطة بليغة، عوّضت استعجاله. وكأن المؤلف خاف على البساطة من الاسترسال فحشد الوضوح الحاد براءة ظاهرة، تعرض ولا تتدخل، تُمسك بجمرة الفضول بحبر يظل بعيداً عن الغوص في التفاصيل، مع انه يكتب تفصيل التفصيل، يومياته، مكونات تعمق حاسة المكان المتحول زماناً والزمان المتحول مكاناً.

مما حرم الكاتب من حق التدخل في تجميل طريقة الاستشهاد اليومي لملايين البسطاء وتنويعها، او تضميد جرحهم المسفوح عرقاً ودماً بحبر بارد، خصوصاً في ازمنة وامكنة تبادلت مواقعها وتعقدت متطلباتها، فلم تعد تحقق طموحهم وطموح الكاتب ببساطة.