أبناء شارع تحولوا إلى فلاسفة وملهمين

عفاريت سفينة «نومو» العجائبية أذهلوا بيروت بمشاهد جاوزت الخيال

TT

حين انشق سطح الباخرة، الواقفة على مرفأ «المارينا» مقابل فندق «الفينيسا»، وارتفع ما يشبه مركبة طائرة إلى الأعلى وقد تعلّقت في سطحها السفلي مخلوقات مزّرقة اللون تتأرجح على وقع موسيقى صاخبة تنذر بحدث خطير، كان الناس بالآلاف قد فتحوا حدقاتهم دهشة يريدون أن يعرفوا ما سيؤول إليه هذا العرض الغرائبي الذي وعدتهم به لجنة «مهرجانات بيت الدين» وساقتهم إليه من مختلف المناطق. ولم يخب ظن الذين تكبدوا مشقة الرحلة فسرعان ما خرجت مركبة أخرى لتنطلق عالياً فوق رؤوس الناس وتحلّق في الجو وكأنها تغزو سماء بيروت لتشكّل دائرة ضوئية مشعّة، ثم أخذت اشكالاً مختلفة خلاّبة وركابها بملابسهم الفضائية يبدون غير عابئين بالجماهير المشدوهة تحتهم. كل ذلك وصوت الراوي يقود الحضور بنبرة توحي بأن المخلوقات الهاجمة على هذا الشاطئ المتوسطي طالعة من أحد أفلام هوليوود، أو هي جزء من اساطير الأطباق الطائرة التي قرأوا عنها طويلاً في الصحف.

ولم يطل الانتظار قبل ان ينبجس من الباخرة مخلوقان عملاقان مضيئان يمثلان بدء الحياة على الأرض، ليكتشف المتفرج أن إدهاشه هو الهدف الأول لفناني سفينة «نومو» الذين بدأوا رحلة مدتها 150 يوماً يجولون خلالها على مدن المتوسط وأهلها، يقصّون عليهم رؤيتهم للإنسان منذ بدء الخليقة إلى اليوم بأسلوب جريء حد الجنون والهلوسة.

وفرقة «لا فورا ديلس بوس» صاحبة الفكرة الجهنمية لهذا المركب الفني الساحر عمرها ربع قرن، بدأ مديرها كارلوس بارديسا عازفاً هامشياً في شوارع إسبانيا، وتتلمذ عصامياً في أروقة المكتبات، لينتهي به نزقه الفلسفي وغرقه في الأساطير، وحبه للاستعراض لأن يصبح قائداً لواحدة من أكثر فرق العالم إثارة وسوريالية. ويجيب كارلوس وقد سألناه عن اختصاصه الدراسي بعد أن شاهدنا عرضه الباهر فقال: «انا ابن الشارع ومنه تخرّجت، بدأت شاباً صغيراً على قارعة الطريق، وبعد أن كنت أعزف الموسيقى وحدها اكتشفت أن إدخال الشعر على اللحن يجلب لي مدخولاً أكبر، وحين أضفت التمثيل تحسن الوضع بشكل أفضل، وانضم إلي فنانون آخرون بعضهم من بهلواني السيرك أو الممثلين، وشكّلنا فرقة لم تتخل يوماً عن الشارع. فكانت كل عروضنا له وفيه ولناسه». لكن عروض الشارع هذه هي التي صنعت مجد الفرقة وجعلت ما قدمته من لوحات بارعة في افتتاح الألعاب الأولمبية في برشلونة عام 1992، ضرباً من المشاهد السينمائية الخلاّبة المرسومة بالاجساد. كارلوس الذي خطف مع رفاقه العقول والقلوب على شاطئ بيروت روى لنا أن فكرة المركب «نومو» الذي بات أرضهم ومسرحهم ووسيلتهم للوصول بعروضهم للناس جميعاً هو مغامرة قد لا تنجو منها الفرقة من دون أن ينقصم ظهرها: «عثرنا على هذه الباخرة ذات الأربعين سنة وهي تباع في النرويج كخردة، ودفعنا ثمنها 90 ألف يورو وذهبنا بها إلى أحد المصانع الإسبانية للبواخر وأعدنا تأهيلها، وجهزناها بكل المعدات الثقيلة والخفيفة التي يلزمها العرض. لقد عملنا على إعادة هندستها بالكامل، وكلفتنا حوالي 3 ملايين يورو. وما كان بمقدورنا تأمين المبلغ لولا قرض مصرفي. وبمقدورنا القول إن هذا المركب الثقافي الفني هو اليوم ملك البنك الذي لا نستطيع سداد دينه، وقد يستعيد المركب في أي لحظة».

أصابني الذهول وكارلوس يتكلم عن مأساة فرقة لو كانت عندنا لانتفخت صدورنا تشاوفاً وتكبراً. فسألت وقد أصابتني الدهشة: لكنكم سفراء سلام وفن ومحبة وتمثلون بلادكم أينما ذهبتم بدليل ان السفارة الإسبانية تحتفي بكم في بيروت. يزفر كارلوس الذي يتحدث كفيلسوف لفظته فظاظة الجشع ويقول: «دفعت الدولة جزءاً من المبلغ وعلينا أن نتدبر أمرنا في ما تبقى». وفي العرض الذي شاهدناه كانت الكائنات المحلّقة ترقص وتأكل وتجتر ما أكلته في ما يفتح أحدهم فمه على شاشة ضخمة وسط السفينة وكأنما يريد أن يبتلع الناس أجمعين. لقد اجتاح الممثلون والبهلوانيون إضافة إلى الفضاء الواسع الذي ظلل الناس رصيف الميناء وامتد هذا العرض المسرحي، السوريالي والتقني في آن، إلى المبنى المقابل للميناء حيث ظهر فجأة على إحدى الشرفات الشاهقة رجل بلا رأس يصعد من بين كتفيه الدخان، يبحث عن طريقه في الحياة من دون جدوى، وسرعان ما يصبح الرجل هو الدمية العملاقة التي ينشقّ جسدها في الفضاء، وكأنما هي تلد ويتدلى منها كيس ماء كبير يتمزق وتخرج منها المرأة الجنينية شبه العارية ترقص كمن خرج للتو من رحم أمه. «هذا الكائن العملاق الولود يمثل المخلوق الذي لم تؤهله الطبيعة إلا ليأكل ويلد ويتجشأ» ويضيف كارلوس «إنها المخلوقات التي تصنع جحيمنا» والولادة هنا ليست سوى اكتمال حيواني». «جهنم عندما نصمت أمام جهنم» يردد الصوت البعيد، قبل أن تنتشر مخلوقات شيطانية على رصيف المرفأ مزروعة أيديها بالنار، تسير على عجلات مسرعة بعضها يحمل بيده بطيخة وينهشها كوحش كاسر. ويجري آلاف المتفرجين في كل اتجاه هاربين من شياطين «نومو» تارة، ولاحقين بهم تارة أخرى رغبة في اكتشاف سرهم، لكن الشاشة الضخمة تحدثنا بعبارات مختصرة عن قدرة الإنسان على هزيمة الجحيم واستبداله بنعيم مقيم. وينشق صدر الدمية العملاقة الثانية وكأنما هي تتنفس الحياة وتنطلق مركبة جميلة كبيرة كالصحن الطائر وعلى متنها ركاب جدد، تحلق على علو استثنائي حتى تكاد تذهب إلى عالم آخر، وتتفجّر شلالات نارية كالينابيع تزنر محيط السفينة، ويرتفع البخار في أجواء طقوسية مهيبة، سارقة، مبهرة، وفي هذه اللحظة التي لا تماثلها اي لحظة أخرى في العرض، تصدح المغنية اللبنانية الشابة تينا وقد رفعت على منصة كأنما بدأت طيرانها هي الأخرى لتغني على وقع موسيقى لا هي شرقية ولا غربية «يا بحرية» و«يابو الزلف»، وتبقى المركبة تحلّق حتى تكاد تختفي وقد انطلقت الأسهم النارية في السماء لتصنع شجراً ونجوماً وكواكب وأحلاما.

لم يكن عرض «نومو» جنة ولا جحيماً، إنما هو رحلة خارج المألوف إلى عالم غير معتاد، رحلة تحاول أن تقنعك بأن جغرافيتك هي أوسع من الأرض وان صدرك أهم من بطنك، وأن الشارع يستطيع أن ينجب عباقرة، وهامشياً مثل كارلوس يتحول فيلسوفاً بفضل الكتب والحرية والجرأة والتقنية.

إنها المرة الأولى التي تزور فيها «نومو» دولة عربية، وهذا لسوء حظ العرب، وقلة معرفتهم بالممتع والمفيد وما يستحق بعض ميزانيتهم. لكن كارلوس يقول إنه وجد له في لبنان أشقاء، وانه متوسطي قبل أي شيء آخر وكان سعيداً بأن يقدّم العرض مقابل فندق الفينيسا، لأنه جاء بعد بضعة آلاف سنة ليعترف للفينيقيين وسكان هذا الشاطئ بفضلهم الحضاري عليه، فالثقافة تبادل وتزاوج. وإذا كان كارلوس قد نهل من معين بيكاسو ودالي وسرفنتس، والكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى ـ كما يحلو له أن يقول ـ فهو أيضاً ابن المجد الأندلسي العربي. ويضيف الفنان منفعلاً ومتوقداً: «لقد اردنا لعروضنا ان تستفيد من كل فن وميدان، من بهلوانيات السيرك وتقنيات الإضاءة بالليزر، إلى برامج الكومبيوتر المتطورة والهندسة المحترفة».

ولا بد من لفت النظر إلى أن فريق مركب «نومو» صغير ومتواضع، وهؤلاء الفنانون العفاريت الموهوبون يطالبون على كل شاطئ بمتطوعين قد يبلغ عددهم المائة أو أكثر، يدربونهم ليوم أو اثنين، ويجعلونهم كائناتهم الطائرة والمعلقة في الجو. مغامرة جميلة للشباب الراغبين في التجريب، والذين يتسلمون بعد العرض بذاراً لشجرة يزرعونها تذكاراً أخضر من كارلوس وكيكو وفلانتينا ويونس وعمر، وآخرين جعلوا «نومو» مسرحهم والأرض وطنهم.