مـهمة سرية!

كريم عبد*

TT

قريبنا أبو محمود الذي يأتي من الريف بين وقت وآخر لمتابعة شؤونه في المدينة، كان رجلاً وقوراً وطيباً. غالباً ما تقتصر زيارته على مراجعة المصرف أو البلدية، وأحياناً يلتقي بعض وجهاء الريف الذين اعتادوا الإقامة في المدينة، فهو صاحب متجر حبوب في بلدته الصغيرة التي تَبعُد عن مدينتنا نصف ساعة بالسيارة. وهو معتاد على زيارتنا وتناول الغداء مع أبي الذي يكنُّ له احتراماً خاصاً.

عندما عدت من المدرسة وجدته في غرفة الضيوف مع أخي عبد الرحمن، كان أبي وقتها في زيارة لبغداد. رحب بي الرجل وأجلسني إلى جانبه وصار يسألني عن دروسي ويحدثني بلطف جم كعادته، ثم تناول محفظة نقوده وأخرج منها ورقة ربع دينار ليدسها في جيبي وهي يبتسم، قال: اذهب لتناول غداءك وارتح قليلاً وعد إليَّ فأنا أحتاجك في أمر مهم.

حين خرجت من الغرفة كنت فَرِحاً بالمبلغ وبدأت أفكر بأشياء كثيرة صار بوسعي أن أفعلها، ثم تذكرت السينما وعبد الحليم حافظ ونادية لطفي وفيلمهما الجديد الذي سأراه هذا المساء بالتأكيد.

قالت أمي وهي تضع الغداء أمامي: أبو محمود يريد منك أن تجلب له شيئاً من بيت الحاج شاهين العبد الله.

فردّدت اسم الرجل وراءها وأنا آكل: شاهين العبد الله!!

فقالت: نعم شاهين العبد الله، هل تعرف بيته؟!

فقلت: نعم، طبعاً، من لا يعرف بيت الحاج شاهين!!

قالت: ستعطيه هذه المنشفة. وأشارت إلى منشفة صغيرة كانت قد وضعتها على طرف طاولة الطعام.. وأضافت: وهو سيلفه داخلها ويعيدها إليك لتعود به إلى البيت. إنه أمر بسيط ولكن لا تفتح المنشفة في الطريق. ولا تقف مع أحد. لا تسمح لأحد أن يفتح المنشفة.

استغربت لكل هذه المحاذير فسألتها: لكن ما هو هذا الشيء الذي سيلفه الحاج شاهين في المنشفة؟!

قالت بصوت هامس ولكن واضح : مسدس، مسدس صغير ستحمله وهو ملفوف بالمنشفة ولا أحد سينتبه لولد مثلك.

كلمة مسدس أربكتني. بلعت اللقمة بصعوبة وأعدت قطعة الخبز التي بيدي إلى الصينية وظللت صامتاً لبعض الوقت. أردت أن أقول شيئاً ما، لكنني لم أعرف ماذا يجب أن أقول.. أردت أن أتكلم فشعرت بأن الكلمات التي تدافعت لم تكن مترابطة فصمت.

فسألتني أمي: هل أنت خائف؟!

كنت خائفاً ومستغرباً. كلمة خائف قالتها أمي بحذر. فاجأني وقع الكلمة، ف«خائف» تعني جباناً!! وأنا لا يمكن أن أكون جباناً، كيف يمكن أن أكون جباناً؟!

فقلت لأمي: أنا لست خائفاً، لكن..

وتوقفت عن الكلام، شعرتُ بأن هناك ما يجب قوله لكنني لا أعرف ما هو.. تمنيت لو أن أبي كان موجوداً، ثم سألت أمي: لماذا لا يذهب عبد الرحمن بدلاً عني؟

قالت: أنت أفضل ولا أحد ينتبه لمنشفة بيد ولد في هذه الظهيرة .. أخوك عسكري كما تعرف وهذا أمر صعب عليه.. ممنوع..

أردت أن أسألها: لماذا لم يذهب أبو محمود إلى بيت الحاج شاهين بنفسه ويأخذ المسدس ويعود إلى بلدته؟! لكنني فكرت.. لا بد من وجود سبب ما يحول بينه وبين ذلك.. كانت أمي تريد أن تقول شيئاً غير أنني سمعت صوت أبي محمود وهو ينادي عليَّ ، فنهضت حاملاً المنشفة وقلت له: أنا ذاهب الآن..

بيت الحاج شاهين العبد الله يـبعد عن بيتنا أقل من ربع ساعة مشياً. بعد أن خرجت من حارتنا بعدة دقائق، أخذت الطريق الظليل الذي يمتد بين البستان الواسع المغلق الذي يحيط بيت المحافظ وبين البستان المقابل الذي يمتد طويلاً ويخترق منتصفه طريق فرعي يتجه إلى الشارع العام. كان الطقس لطيفاً، الشمس مشرقة والوقت هو نـهاية آذار( مارس). البستان الذي يحيط بيت المحافظ يحتشد بأشجار الفواكه والزهور حيث أحسست برائحة الربيع الطيبة تملأ المكان. كنت في بداية الطريق الفرعي، أداري مشيتي وأستعد لمقابلة الحاج شاهين الذي لم يكن لي أن حدّثـته من قبل، فهو أحد شيوخ العشائر المعروفين في المدينة، وقد رأيته مرات عديدة في السوق أو جالساً في أحد محلات أصدقائه التجار، وهو يعرف أبي وأقربائي الآخرين، هذه المرة عليَّ أن أسلم عليه وأخبره بأني فلان بن فلان، وأبلغه تحيات أبي محمود ثم أعطيه المنشفة فيدخلني إلى البيت ليعيدها إليَّ بعد أن يلف المسدس في داخلها، فأحملها وأعود بـها إلى البيت. هذا ما أفهمني إياه أبو محمود قبل خروجي.

عندما كنت أجـتاز الممر الذي يخترق البستان باغتني صوت يناديني من داخله، حين التفت رأيت «علوان الساقط»!! فرددت بحدّة ودون أن أتوقف: إنني مشغول ومستعجل..

استغربتُ من وجود هذا الحيوان هنا وشعرت بشيء من الارتباك، فهو من نوعية طالما أوصاني أهلي بعدم الاقتراب منهم أو إقامة علاقة معهم. إنه أكبر مني بأربع أو خمس سنوات، وكنت حتى العام الماضي أتصور بأن الناس ينادونه «علوان الساقط» لأنه ظل يسقط في المدرسة حتى طُرد منها، إلى أن وجدته ذات مرة بين يدي الشرطة حيث صفعه أحدهم على رأسه وهو يقول: أنت فعلاً ساقط الأخلاق.. فقد كانوا قد مسكوه بالسرقة المشهودة وهو يهمُّ بالخروج من أحد المحلات. لقد كان شريراً فعلاً، طالما رأيته يعتدي على بعض الناس في الشارع أو يتحارش بالنساء العابرات، لكنني أعرف أيضاً بأنه يخشى أخي عبد الرحمن ويتحدث معه بحذر، لذلك فعندما رددت عليه بحدة، كنت واثقاً بأنه سيتجنبني.. وبينما كنت وسط هذه التداعيات وجدت نفسي أمام بيت الحاج شاهين. حين ضغطت على مدورة الجرس خرج الرجل مبتسماً وهو يرحب بي ويسألني بلطف عن أبي وعن أبي محمود.. وبعد انتظار دقائق في مـمر البيت خرج وأعطاني المنشفة. لم تكن ثقيلة، ولم تكن توحي لأحد بأنـها تحتوي على مسدس، يبدو أن المسدس صغيراً فعلاً كما قالت أمي وكما أكد لي أبو محمود وأنا أخرج. صغير لكنه ممنوع، لذلك لم أكن مطمئناً تماماً.

حين وصلت إلى الممر بين قسمي البستان تذكرت علوان الساقط، فكرت للحظة بأن آخذ الطريق العام رغم طول المسافة، لكنني تذكرت بأن عليَّ في هذه الحالة أن أمر قريباً من مركز الشرطة، وحين تطلعت إلى وسط البستان لم أر أحداً ولم أسمع صوتاً، فوجدت من الأفضل أن أخترق البستان ما دام خالياً، متجنباً بذلك احتمال مصادفة أحد في الطريق. عندما أصبحت بين النخيل انتابتني رغبة لرؤية المسدس، فتحت المنشفة وتطلعت إليه، لم أفكّر أن ألمسه فقد شعرت بشيء من الحذر، لكن رؤية المسدس ذكرتني بأيام الانقلاب العسكري الذي حدث قبل سنتين، حيث هاجم مسلحون بيت جارنا ومعلمنا لدرس التاريخ في السادس الابتدائي موسى عليوي، وقد أخرجوه مقيد اليدين بينما كان أحدهم يضع المسدس قرب رأسه وهو يسبه ويهدده بالقتل.. وفجأة وجدت نفسي أمام الشيطان وجهاً لوجه، صرخ بي علوان الساقط : ما هذا الذي تخفيه في المنشفة!! وقبل أن أفعل شيئاً أو أرد على كلامه، التقط المنشفة مني وأخرج المسدس!! ليصرخ بصوت عال: ما هذا!! مسدس!! من أعطاك هذا المسدس وماذا تريد أن تفعل به؟! هل تريد أن تقتل أحداً؟! أربكتني أسئلته فلم أستطع أن أقول شيئاً، وحين هجمت عليه لأسترد المسدس لكمني على وجهي فرددت عليه الضربة لكنه رفسني على بطني فسقطت إلى الوراء، نـهضت، وحين أردت مهاجمته ثانية التوت قدمي فتعثرت وسقطت على وجهي، وبعد مشادة طويلة، فكرت أن أعود إلى البيت لأخبر عبد الرحمن بما حدث فهو كفيل بإعادة المسدس منه، ورغم عدم قدرتي على الركض فقد استطعت الوصول إلى أول البستان، شعرت بأنني تأخرت كثيراً.. لم أكد أخرج إلى الطريق حتى رأيت أخي قادماً وهو يتلفت يميناً وشمالاً، ناديت عليه فجاء راكضاً وهو مستغرب من حالتي، حين أخبرته بما حدث شب مثل نـمر إلى وسط البستان، لم تمر سوى دقائق حتى رأيته ينقضّ على علوان السافل الذي كان يصرخ: إذا ضربتني سأخبر الشرطة عن المسدس. سقط المسدس على الأرض فحملته ووضعته في جيب سترتي بينما عبد الرحمن قد استلم علوان السافل لكماً ورفساً حتى أسقطه على الأرض ثم حمله بطريقة غريـبة وألقاه بقوة إلى الساقية.. التفتَ عبد الرحمن إليَّ فقلت : المسدس معي، مشيراً إلى جيبي. فأخرجه ووضعه في جيب سترته، قال: اتبعني .. وهو يلهث مغادراً بسرعة.

* قاص عراقي