قراءة في رواية صدام حسين «أخرج منها يا ملعون» (1 ـ 2)

خلطة عشوائية بين التاريخ والسياسة برمزية فجة

TT

ان تكتب، هذه الايام، نقدا روائيا او عرضا لأحد الاعمال الادبية، فان ذلك يعتبر مسألة عادية لا تلفت النظر، غير ان هذا النقد او العرض يكتسي ثوبا غير مألوف حين يتعلق الأمر برواية ألفها رجل اسمه صدام حسين.

«أخرج منها يا ملعون» هو عنوان لافت للنظر لآخر رواية يقال ان صدام حسين كتبها قبل الحرب الأخيرة التي أدت الى سقوط نظامه واحتلال العراق.

وقبل ان اواصل حديثي هذا، بودي ان أبين بأني سأحاول ان اتكلم عن «صدام حسين» المؤلف الروائي وعن روايته الاخيرة هذه وليس عن صدام حسين الحاكم المطلق السابق للعراق.

لماذا؟

لان هنالك فرقا كبيرا بين المنطق الروائي الذي يدخله المؤلف صدام حسين، فيستعمله لاتمام عمله ويخضع له في الوقت نفسه، وبين منطق العمل في العالم الواقعي الذي يصير فيه صدام حسين شخصية اخرى لا علاقة لها بالشخصية الاولى.. شخصية المؤلف.

وفي هذا الموقف انفصام واضح للشخصية، غير انه انفصام غير مرضي، لان اغلب المؤلفين الروائيين يعيشونه ويحاولون ان يقيموا توازنا معقولا بين ما يكتبون ويدعون اليه في مؤلفاتهم وبين حياتهم الشخصية في مجتمع معين.

اقول هذا بعد ان اطلعت على تعليق لاحدى القارئات من البحرين، حول رواية «اخرج منها يا ملعون» نشرته جريدة «الحياة»، ووجدته تعليقا غير بعيد النظر، فمع اعتراف القارئة بانه «ليس مطلوبا بالضرورة من مؤلف الرواية ان يكون مثل مرآة حقيقية لشخصياته وليس مطلوبا من المؤلف ان يعمل على تطبيق مبادئ قد يكون نادى بها في الرواية، غير انها تعود في تعليقها لتخلط بين المنطقين اللذين اشرت اليهما آنفا فتقول: «من لم يسمع باسم صدام يظن ان الكاتب رجل دين او خطيب منبر لا هم له الا الدعوة الى التقوى والامانة والصدق، لكن صدام حسين لم يكن ابدا ذلك، وكان بيده ان يكون عبر فرصة زمنية لا تتحقق للآخرين، مداها خمسة وثلاثون عاما، لكنه فضل ان يكون التجسيد الاكثر حرفة لنقيض التقوى والامانة والصدق.

وهذا المثال النادر التحقق على المستوى الواقعي، يعني بين ما يعني، ان بامكاننا ان نحاسب الكاتب الروائي على التناقض الموجود بين كتاباته وبين حياته المعيشية وأن نطلب منه ان تكون سيرته في دنياه مطابقة، فكرا وعملا لما يكتب، انه مطلب عسير على التنفيذ، كما هو واضح، وقد يؤدي بنا الى مأزق لا مخرج منه. اذ لا يمكننا كقراء ان نفرض على الحاكم المطلق صدام حسين ان يساعد على تطبيق ما يبشر به الروائي صدام حسين، ان صدام حسين هنا كيانات لا كيان واحد، ويبدو لي ان من المستحيل تقريبا ان نجمع بينهما او ان نوحد بين اهدافهما وافكارهما ورغباتهما الدفينة.

بعد ذلك، يرد سؤال آخر قد يساور او ساور العديد من القراء.. لماذا يهتم حاكم مطلق مثل صدام حسين بكتابة الروايات؟

في الحقيقة، يجب ان نعترف بأن اهتمامه بهذا الفن كان ملازما له منذ فترة طويلة، ففي سنوات السبعين من القرن الماضي، حين وقع طريح الفراش، استدعى ادباء من مختلف الاصناف ليسرد عليهم قصة حياته واشتراكه في محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم، ثم هروبه الى سورية بعد انكشاف امر المشتركين في المحاولة، طالبا منهم ان يكتبوها بشكل روائي، فسارع الشاعر عبد الامير معلة لكتابة «الأيام الطويلة» بثلاثة اجزاء، عمل المخرج المصري توفيق صالح منها فيلما بنفس العنوان، ولا يجب ان ننسى تخصيصه جائزة سنوية كبيرة لافضل روائي عربي، استمر العمل بها عدة اعوام ولم يتم منحها، احيانا دون تدخل منه.

وفي اواخر سنوات حكمه سعى لجذب الادباء اليه والروائيين منهم على وجه الخصوص، فاجتمع اليهم عدة مرات وساعدهم ماديا.

هذه البادرة وغيرها قد تدعو الى الاعتقاد بأن صدام حسين كان ينظر باحترام الى الفن الروائي ولعله بمرور الزمان وسع من نظرته هذه واضحى يفكر بالانغماس في هذا الفن الجليل، فباشر بكتابة روايته الاولى «زبيبة والملك»، ثم «القلعة الحصينة» و«الرجال والمدينة» واخيرا «اخرج منها يا ملعون».

وفي اعتقادي، ان كل هذه المظاهر والدلائل قد تشير الى ان صدام حسين كان منجذبا الى الفن الروائي باستمرار ولعله فكر واراد ان يقدم نفسه، بطريقته الخاصة ككاتب روائي، ويبقى هذا الافتراض هو الوحيد الذي يفسر اجمالا لماذا يتجه حاكم مطلق لقضاء وقته في كتابة الروايات.

«اخرج منها يا ملعون» نص قصصي متوسط الحجم (حوالي 45000 كلمة) لا يمكن ان تصفه بأنه تاريخي او رمزي او سياسي او واقعي بصورة من الصور. انه يخلط كل هذه المسميات بطريقة لا يمكن وصفها الا بأنها عشوائية ومرتبكة، غير ان القارئ ينتهي في نهاية الامر الى انها تشكيلة سردية، سياسية/ رمزية، تتجه الى هدفها مباشرة وتبين منذ البداية دون غموض او انحراف.

ورغم أني عموما، لا اميل الى تلخيص الاعمال القصصية ظنا مني بأنها قد تفقد الكثير من رونقها في هذا التلخيص، الا ان الامر مختلف بعض الشيء مع هذا العمل، لقد وجدت ان من الضروري ان يطلع قارئ هذه الكلمة على نوعية المادة الخام التي احتواها العمل، من اجل ان تتضح له بشكل صحيح، الملاحظات التي سندلي بها.

«أخرج منها يا ملعون» عمل قصصي يتألف من تسعة فصول الأول منها يحمل عنوان «تقديم» ثم جملة «هرب الشيطان بعد ان كثرت اعداد من يقوم بواجبه من البشر».

يبدأ الفصل بالحديث عن الاماكن التي توجد فيها الشياطين، فيشير الى انها تعيش في البيوت العتيقة وبين سيقان النباتات وبقايا جدران إرم ذات العماد او في خرائب بابل «التي هجرها اهلها بعد ان دمرها الفرس. وفق تدبير تآمر به معهم اليهود الذين جاء بهم نبوخذ نصر اسرى اليها» ثم ينتقل ليوضح ان الشياطين، هذه الايام موجودة في وسائل الاتصال وشاشات التلفاز او في عيني امرأة شرهة!

بعد ذلك، يبدأ العمل القصصي الذي جرت احداثه، كما يقول المؤلف قبل حوالي الف وخمسمائة عام او نحو ذلك، وهو يدور حول «ابراهيم» والايتام الثلاثة ابناء اولاده الذين توفوا قبل ذلك، وعن زوجته «حليمة» والعائلة تعيش في جهة بالقرب من حدود بلاد الشام، في بيت من الشعر ومن حولهم ترعى اغنامهم وأبلهم ومواشيهم.

المؤلف لم يوضح هوية ابراهيم هذا، وهل هو النبي ابراهيم ابو اسماعيل المعروف الذي يعتبر أبا الانبياء والبشرية، ام هو ابراهيم آخر لم يذكره التاريخ؟

المهم ان لابراهيم ثلاثة احفاد من اولاده الثلاثة هم محمود ويوسف وحسقيل، وقد اعتاد ان ينصح احفاده الصغار هؤلاء بعمل الخير والايمان بالله العلي القدير ويرشدهم الى ما فيه الصلاح لهم. وحين كان الاطفال يتجاوزون لعبهم الى عراك بالايدي وكان الجد يفصل فيما بينهم ويزيد من نصحهم وارشادهم. ومنذ الصفحات الاولى للعمل نلاحظ ان الحفيد حسقيل ينحرف عن ولدي عميه بما يحمل من صفات الخبث والانانية وحب التملك. ورغم نصائح الجد فان انحراف حسقيل عن جادة الصواب يأخذ بالازدياد ويتركز اهتمامه على جمع الذهب وعلى ان يصير ثريا في أقرب وقت ممكن، في حيث ان ابني عميه محمود ويوسف، كانا مطيعين لجدهما ويتصرفان حسب مبادئه التي اشتهر بها في بلاد الشام والعراق.

ومع شراهة حسقيل للذهب ورغبته باتخاذ الصياغة مهنة له وتطلعه الى الاستقلال عن عائلته. يفرز له جده ارثه من ابيه ويترك له ان يختار وجهة اخرى في الحياة، فيبيع حسقيل ما ورثه من اغنام وماشية ويشتري بثمنها ذهبا.

في الفصل الثاني الذي يحمل في مقدمته هذه الجملة «العرب لا يبحثون عن الالوان المختلطة، بل عن الالوان الاساسية بعد الابيض والاسود» ينصرف المؤلف الى وصف هيئة حسقيل فيقول عنه: «كان حسقيل ضئيل الجسم، مقوس الأنف، دميم الخلقة، تسترسل لحيته من غير اعاقة وتلتحم بطرفي شاربه»، ثم يواصل: «... وعندما استقل في بيت منفرد، استغنى عن غطاء الرأس المعتاد ضمن وسطهم واستبدله بقطعة قماش صغيرة على هيئة طاسة صغيرة مفلطحة» يباشر حسقيل بالاشتغال بمهنة الحدادة اول الامر، وبعد ان يجمع ما يكفي من المال ينتقل الى مهنة الصياغة محتفظا من مهنة الحدادة بصناعة السيوف والخناجر.

جاء الربيع، في احدى السنوات، فانتقل ابراهيم ومعه زوجته حليمة وحفيداه محمود ويوسف، يتبعهم عن قرب حسقيل، انتقلوا من مكان الى آخر بحثا عن الكلأ حتى استقروا في منطقة قبيلة كبيرة كان شيخها صديقا لابراهيم، وهو رجل كريم وحكيم، الا انه لم يستقبل ابراهيم وعائلته بما يليق بهم، بل طلب منهم ان يخيموا في منطقة سيئة تسمى «قرية النمل» وهو ما كان يعني في عرف العشائر انهم قوم غير مرغوب فيهم. حينذاك اراد ابراهيم ان يعاود الرحيل، غير انه صمم ان يعرف سبب غضب صديقه الشيخ عليهم، فأخذ يحقق مع احفاده، انكر محمود ويوسف قيامهما بأي عمل مخالف للشرع والقانون وكانا صادقين، اما حسقيل فقد اعترف لجده بأن ابنة الشيخ راجعته لتطلع على ما لديه من حلي ذهبية وغيرها فراودها وهَّم بالاعتداء عليها، لكنه سمع خادمتها تقترب وتناديها فتراجع وتواعد معها على اللقاء في اليوم التالي. تملك ابراهيم غضب شديد وأمر حفيديه محمود ويوسف بربط حسقيل ووضعه على ظهر حمار، ثم اخذه الى شيخ القبيلة صديقه طالبا منه ان يقتل حسقيل غسلا للعار الذي ألحقه بهم، الا ان شيخ القبيلة الطيبة فكَّ رقبة حسقيل وتوعد ان يقتله اذا صادفه مرة اخرى في مستقبل الايام، ثم شكر ابراهيم وتعانق الصديقان. طرد ابراهيم حسقيل فورا وبعد ان زوده ببعير لحمل اغراضه وخيمته، اعلن لكل القبائل بأنه تبرأ منه.

يجتمع الحفيدان محمود ويوسف، بعد طرد حسقيل الى جدهما ويتفقان، بعد نقاش في امور الدنيا والآخرة، على تقسيم المسؤوليات بينهما، فيكون اهل نجد والحجاز واليمن والعراق، عدا نينوى، من مسؤولية محمودوحصته، أما أهل نينوى وكل بلاد الشام عدا ارض الجزيرة الملاصقة للعراق فتكون من مسؤولية يوسف. ان تقسيم المسؤوليات هذا، هو من اجل النشاط في نشر شريعة ابراهيم كما قال جدهما. اما حسقيل فقد قصد قبيلة تدعى قبيلة «المضطرة» وهي قبيلة مناوئة لقبيلة الشيخ الطيب الذي اراد الاعتداء على ابنته والمسماة قبيلة «المختارة» وبدأ بتحريض افراد تلك القبيلة وشيخها على الهجوم وغزو القبيلة الاخرى، قاصدا من ذلك ان يستفيد ماديا حين تنشب الحرب ببيع السيوف والاسلحة الاخرى الى افراد القبيلة. وينجح حسقيل بمرور الوقت في اقناع شيخ قبيلة «المضطرة» بالهجوم على قبيلة «المختارة» واشترط عليه في حال انتصاره ان تكون ابنة شيخ «المختارة» من نصيبه فوافق الشيخ على هذا الشرط.

نأتي الى الفصل الثالث، الذي تتصدره جملة «العقاب، سواء كان عقاب القانون او العائلة، هو خط الدفاع الأخير والحاسم».

وفي هذا الفصل تتهيأ قبيلة «المضطرة» لمهاجمة قبيلة «المختارة» غيلة، فيرسل شيخ «المضطرة» رجاله ليعسكروا قريبا من بيوت قبيلة «المختارة» بغرض مهاجمتهم وهم غافلون، الا ان افراد قبيلة الغجر يخبر شيخ «المختارة» بما يخطط له شيخ «المضطرة» فيتخذ الاستعدادات للدفاع عن قبيلته ودحر الهجوم الغادر، في الاثناء وقبل بداية الغزو يتحرش حسقيل بزوجة شيخ «المضطرة» وهي من سلالة اعجمية ويغويها فتخون زوجها وتصبح عشيقة له، ولا تكتفي بذلك فتحاول ان تفسد ابنتها «لذة»، غير ان هذه الاخيرة تتمسك بشرفها وترفض مشاركة امها في الخيانة.