«فراشات هاربة» سيرة ذاتية طفولية مخطوطة للشاعر المغربي عبد الكريم الطبال

تتميز هذه السيرة بوفائها لطريقة السرد مع بعض الاسترجاعات والتضمينات وخلوّها من الحوارات المباشرة

TT

من النادر جدا أن يلجأ شعراؤنا المغاربة والعرب عموما إلى كتابة سيرهم الذاتية، سواء في بعدها الكتابي الشعري أو السردي، وإن كان هذا الجنس الأدبي (السيرة الذاتية) قد عرف قفزة نوعية وكمية لافتة لدى كتاب الرواية والسرد عموما، وحتى لدى بعض المفكرين ورجال السياسة، والأمثلة أضحت كثيرة ومتفرقة ومتزايدة نصيا وقطريا.

ولربما يعود سبب ندرة إقبال شعرائنا على كتابة سيرهم الذاتية، بشكل صريح ومتكامل، إلى كون القصيدة، انطلاقا من ارتباطها الوثيق بالذات وتحولاتها، عادة ما تشكل أحد الفضاءات التعبيرية المناسبة التي يصوغ فيها الشاعر شذرات متفرقة أو محطات أساسية من سيرته الذاتية، في أبعادها البيولوجية والزمنية والذاتية المختلفة، وخصوصا ما يرتبط منها بمرحلة الطفولة.

ويوجد من بين الشعراء المغاربة المعاصرين من قطع شوطا كبيرا في كتابة سيرته الذاتية، في انتظار استكمالها ونشرها مجزأة أو كاملة، ويتعلق الأمر بالشاعر الكبير عبد الكريم الطبال الذي كتب الجزء الأول من سيرته الذاتية الطفولية بعنوان «فراشات هاربة»، وقد خصصه الشاعر كاملا لسرد طفولته تحديدا.

تقع هذه السيرة الذاتية الطفولية المخطوطة لعبد الكريم الطبال في 125 صفحة من القطع الكبير، وتتوزع على ثلاثة فصول، معنونة على النحو التالي :

ـ العقبة الأولى: تؤطر ست سنوات من حياة ذلك الطفل الذي كان الشاعر عبد الكريم الطبال (1931 ـ 1936).

ـ الحرب والسلام: وهي مرحلة تغطي إحدى عشرة سنة من المغامرات والشيطنة وتفتح الوعي الطفولي (1937 ـ 1947).

ـ الرحلة الصعبة: وتعتبر، هي أيضا، من بين أهم المراحل التي تلملم العديد من الذكريات في حياة السارد، وقد أصبح يافعا بعد أن ازداد وعيه وإدراكه للأشياء ولتحولات العالم من حوله وقد كبر في عينيه واتسع (1947 ـ 1956).

وإذا كانت معظم السير الذاتية الطفولية العربية تتشابه فيما بينها، فإن سيرة عبد الكريم الطبال الطفولية لا تخرج بدورها عن هذه القاعدة، بالنظر إلى كونها كتبت وفق نمط وشكل سردي كلاسيكي ومتداول، مع تفردها من حيث طبيعة الرؤية وأسلوب الكتابة واللغة الإبداعية. فمعظم السير الذاتية العربية الطفولية عادة ما تبدأ بالولادة، فمرحلة الكتاب واللعب والشيطنة، ثم مرحلة النضج والمدرسة، ثم الالتحاق بالمعهد أو الجامعة، فمرحلة الانخراط في العمل، وهي نفس الخطية التي اعتمدها عبد الكريم الطبال في كتابة فصول سيرته الذاتية الطفولية هاته.

كما أن من بين ما يميز كتابة هذه السيرة الذاتية الطفولية كونها بقيت وفية لطريقة معينة في السرد، يطبعها المحكي الاسترسالي، مع حدوث بعض الاسترجاعات والتضمينات التي تكسر تلك الخطية بين الحين والآخر، إلى جانب خلوها كذلك من الحوارات المباشرة وتوظيفها لبعض الحوارات الداخلية.

ونتتبع في هذه السيرة الذاتية الطفولية بمتعه حكائية وسردية لافتة جوانب من تحولات الزمن البيولوجي وتطور الوعي الطفولي لدى الطفل «كريمو»، كما كانوا ينادونه، بموازاة مع تنامي المغامرات والاكتشافات والهوايات في حياته.

غير أن طبيعة الحكي في هذا الجزء، وإن كانت تتم بطريقة مسترسلة، فهي تبقى في عمومها خاضعة لترتيب حكائي منظم اختاره السارد/ الكاتب لاسترجاع وتجلية بعض الصور والأحداث واللحظات، المتداخلة أحيانا فيما بينها، تلك التي يتذكرها السارد، ويستمتع بسردها في هذا الجزء من سيرته الذاتية، وفق المحطات الأساسية التالية: فضاء الأسرة والبيت، الأصدقاء، الكتاب، اكتشاف السينما، اللعب (لعبة الحرب والسلام ولعبة كرة القدم)، السفر (رفقة أمه ولوحده)، الحرب الإسبانية، ارتياد مجالس الذكر والتصوف، الدراسة (بفاس ثم بتطوان)، العودة إلى الشاون، الالتحاق بالعمل في التعليم الثانوي في بداية 1957 في مدينة الناظور. وفي هذه السنة بالذات، يقول السارد، مختتما هذه السيرة، «سأبدأ في تجربة حب جديدة ستطول وتطول» (ص125)، وذلك بعد تجربتي حب فريدتين تميزتا لديه بغياب الشبق الجنسي فيهما، حيث يتحول معهما الحب إلى عشق صوفي، كما يتحول معهما السرد الذاتي إلى حديث شفاف عن القصيدة والشعر والبوح، من خلال البحث في سؤال «المعنى»، مع ما يولده ذلك لدى السارد من متاهات وحيرة، وأيضا بعد تجارب شبقية سابقة للسارد منذ مرحلة «الكتاب».

وكما يستحضر السارد بكثافة وشاعرية العديد من اللحظات المشرقة في حياته، فهو يتذكر، كذلك، صور المرارة والشقاء الناجمين عن الفقر والعوز، وسط فضاء أسري لا يكف السارد عن الحديث عنه بكثير من الصراحة والأمانة، وخصوصا من خلال وصفه لما كانت تعيش فيه أسرته من إرغامات اجتماعية، نتيجة الفقر والحرمان والمعاناة اليومية، ونتيجة قساوة الواقع وضغطه أيضا، سواء إبان إقامته بمسقط رأسه مع أسرته أو خارجه، في (فاس وتطوان). فكثيرة هي الحكايات والصور المؤثرة في هذه السيرة الذاتية الطفولية، المجسدة لحالات الفقر والحرمان التي كان يعاني منها السارد، والتي عادة ما كانت تولد لديه الكثير من المعاناة والصعوبات والمتاعب النفسية والاجتماعية والسلوكية، وذلك من قبيل لجوء السارد أحيانا إلى السرقة من مصروف البيت لتسديد ثمن تذكرة السينما، أو من خلال تجربة العيش والتغذية التي مر بها في ظروف صعبة، نتيجة العوز المادي سواء في مسقط رأسه، أو في فاس حيث كان يقيم مع بعض رفاقه من الطلبة الفقراء في غرفة عادية فوق مرحاض عمومي في باحة مدرسة الصفارين، في الوقت الذي يقيم فيه بعض الطلبة الميسورين بغرفة فوقية ملائمة، أو بتطوان، حيث أفلت السارد من القبض عليه مع شلة بإحدى الغرف التي قضى بها السارد ليلة في ضيافة أحد أبناء مدينته. فخلال السنوات التي قضيتها في تطوان، يقول السارد: عانيت شديد العناء في توفير الظروف المادية للعيش، والسكن في السنة الأولى، فكانت تمر عليّ أيام لا أدري أين سأبيت ليلتي أو كيف سأتناول غذائي (ص 122)، وتلك حالات كانت تولّد للسارد أيضا الشعور بالهامشية والدونية وممارسة النقد الاجتماعي، نتيجة الشعور بالفوارق الاجتماعية بين جماعته وجماعة الطلبة الميسورين، وخصوصا إبان إقامته بفاس، وأيضا بالنظر إلى الظروف الاجتماعية القاسية والصعبة التي عرفها المغرب آنذاك، بحيث تصور لنا هذه السيرة الذاتية أيضا جوانب من المجاعة التي عرفها المغرب، من خلال هجرة «الريفيين إلى مدينة الشاون هربا من الجوع، فتجدهم يتسولون، يرجون الصدقات من سكان المدينة»، وهم في واقع الأمر متساوون معهم في الفقر وشدة الحاجة (ص 70).

كل ذلك، وغيره، يجعل هذه السيرة الذاتية الطفولية تنضاف إلى سلسلة السير الذاتية الطفولية العربية التي جاءت مواضيعها الكبرى متمحورة حول موضوع «الفقر»، بشكل خاص، وهي تحكي عن «صدمة الفقر» كما يسميها تيتز رووكي، وذلك بالنظر إلى كون ثيمة «الفقر» ـ إلى جانب ثيمة «المكان» ـ تعتبر من بين العناصر التي تهيمن، بشكل كبير، على المحكي السيرذاتي في العديد من السير الذاتية الطفولية العربية.

كما أنها الثيمة التي تثير في القارئ نوعا من التعاطف والانفعال التلقائي، نتيجة لتلك الجاذبية الواقعية التي تميز هذا المحكي السير الذاتي الطفولي، انطلاقا مما كان ينشده السارد الطفل من وراء ذلك كله، من تعرية لذاته ولمحيطه وللمرحلة التاريخية ككل، من الداخل ومن الخارج.

ومما يزيد من أهمية هذه السيرة الذاتية والذكريات الطفولية كون مجراها الحياتي العام يتزامن مع حدوث مجموعة من الأحداث الكبرى والمؤثرة التي عايشها السارد، كما ارتبط ببعض فصولها واقترب من إدراك لحظاتها: «ومن أجل هذا، فإن الطفولة في زمن الحروب أو الثورات تخلف ذكريات أكثر من الطفولة الهادئة أو السعيدة»، وهو ما يبرز، بشكل أو بآخر، سلسلة المواقف والأحاسيس والمشاعر المؤثرة في شخصية ذلك الصبي وقد ازداد تمرسه بالحياة، كما تطور إدراكه للعالم من حوله، وخصوصا من جراء ما عاينه من أثر الحرب الإسبانية على الجنود المغاربة، بعد عودتهم إلى مدينتهم ومداشرهم من هذه الحرب بعاهات متفاوتة البشاعة والتشويه، إلى جانب ما تركه ذلك من تأثير على أهاليهم وقد جاؤوا لملاقاتهم، وهو الذي يقول «وفي الحقيقة، لم تشهد عيناي في الطريق إلا جراحات الحرب وفظائع الدمار وما سمعت أذناي إلا رثاءات الموتى وآهات الحزانى..»(ص 115).

وإذا كانت هذه السيرة الذاتية لم تتوقف فقط عند حدود تذكر وسرد تلك «الأشياء المدوية»، كما يسميها أندري موروا، فإن كثيرا من «الأشياء العادية« و«الوقائع البسيطة» سرعان ما تطفو على سطح المحكي السيرذاتي، فيتم تذكرها واستحضارها وسردها بطريقة تبرزها هذه السيرة الذاتية أشياء مهمة وذات امتياز ومكانة في حياة الطفل، كما في ذاكرته، حيث أن بعض الذكريات الطفولية بقيت عالقة بذاكرة السارد، وقد أصبح في سن الخامسة والعشرين من عمره، بل وكان لها تأثير خاص في حياته، حتى بعد أن أصبح شاعرا فيما بعد، خارج زمن الحكاية، من خلال بعض القصائد التي كتبها عن المرحلة وعن تلك الذكريات، وهو الذي يقول: «ولربما تكون الحالة مفهومة بالنسبة إلى الشاعر الذي يحاول باستمرار استعادة الطفولة في شعره من أجل أن يحيا من جديد أو من أجل أن تبعث ذاته من رفات» (ص 4).

ومع بداية الانفلات التدريجي للسارد من محيطه العائلي تبدأ هذه السيرة الذاتية في الانخراط داخل مدار آخر، حكائي وذهني مغاير، يتحدد ببداية انفتاح وعي السارد على بعض الأحداث والوقائع، معتمدا في ذلك، أحيانا، على الواقع والشارع كمصدر لمعارفه، في غياب تام لمصادر أخرى، بإمكانها أن تشبع فضول ورغائب السارد/ الطفل في معرفة الواقع وإدراكه، وفي فهم بعض ما كان يعتمل في الشارع آنذاك من أحاديث وأخبار عن المناخ السياسي العام في المدينة وفي المغرب ككل، وعن الحرب العالمية، وأسماء الجرائد الوطنية، ورئيس الدولة الإسبانية (فرانكو)، وعبد الخالق الطريس، حيث كان الجامع العتيق والكتاب والجماعة الجزولية، يقول السارد، تتحرك بمعزل عن التفكير الحزبي أو السياسي، غافلة عما يدور في قلب الوطن من ثورة عارمة.

كذلك كان بيت السارد/ الطفل خاليا بدوره من تلك المرجعيات، فلا كتاب في الرف، يقول السارد، ولا أحد له علاقة بالحرف. ثم سرعان ما يبدأ وعي السارد/ الطفل في التحول والتطور مع دروس التاريخ التي يقدمها الأستاذ (أحمد البقالي) في المعهد الديني، وأيضا بحضور السارد مواسم عيد المولد النبوي الشريف، وما كان يتخلل هذا الحفل من أناشيد وطنية، حيث كانت الحركة الوطنية في شقيها «حزب الإصلاح الوطني» و«حزب الوحدة القومية»، تتخذ من المناسبة ذريعة لتأجيج الشعور الوطني، والإشارة إلى المحتل بأصابع الاتهام.

ثم تبدأ مرحلة السفر إلى فاس للدراسة بالقرويين والالتقاء بالزعيم علال الفاسي، وما كان لتلك الزيارة من أثر بالغ على الطلبة، حيث خرجوا منها، يقول السارد، معبئين بحماس وعزيمة، وبتقدير وإعجاب بالعالم والزعيم والشاعر (ص 95).

وتلك مرحلة تبقى مختلفة حقا في حياة السارد، بما كان لها من تأثير في تبدل وعيه الطفولي، وتزايد إدراكه للأشياء وللعالم، وهو يتسع من حوله، وخصوصا ما يتصل منها بانفتاح وعي السارد على الحركة الوطنية وعلى بعض رجالاتها، في فاس تحديدا.

كما أنها المرحلة التي تنامت فيها مدارك السارد، المعرفية والأدبية، وقد أصبح راشدا، بانفتاحه على عوالم المكتبات والخزانات والأندية، وما كانت توفره له هذه الفضاءات من معرفة جديدة، حيث كانت ترد على بعضها المطبوعات والمنشورات والصحف اليومية والأسبوعية من مختلف بقاع العالم. كما انفتح وعيه كذلك على عالم الكتب والدواوين الشعرية والمجلات الثقافية، كـ«الأديب» و«الأنيس» و«الأنوار» و«الثريا» و«رسالة المغرب» و«كتامة» و«المعتمد»، وغيرها.

وعبر بعض هذه المنابر، أيضا، سوف يلج السارد، ولأول مرة، مجال النشر، بعد أن جرب كتابة المحاولات الشعرية الأولى، حيث نشرت له أول محاولة شعرية بعنوان «كيف ابتسم» في مجلة «الثريا»، (عام 1953)، تلتها قصائد أخرى في مجلات أخرى.

إذا كانت هذه السيرة الذاتية الطفولية لعبد الكريم الطبال قد نجحت، بشكل باهر، في تتبع مراحل النشأة والتكوين لشخصية ذلك الطفل/ السارد الذي كان الشاعر الطبال، انطلاقا مما عاشه من تجارب، وما كسبه من خبرات ومعارف ومعاني للحياة، فقد نجحت كذلك في كسب رهان التوازي بين مختلف مراحل حياة ذلك الطفل، بما فيها مرحلة المراهقة المسكوت عنها في الكثير من السير الذاتية الطفولية العربية. فالطفل في هذه السيرة الذاتية يعيش طفولته كاملة، بحيث لم يكن، في أية لحظة، يستعجل الانتقال إلى عالم الكبار، حيث يتشكل وعي جديد بالعالم وبمعنى الحياة خارج أي خطاب وعظي أو إيديولوجي يمكن أن تتدثر به هذه السيرة الذاتية، وهي تتوخى إعادة تملك جوانب من ذلك الماضي الجميل، في بعده الذاتي والجماعي.