يوسف المحيميد: إنسان دول العالم الثالث يعاني من الاستلاب والإهانة

الروائي السعودي لـ الشرق الاوسط : رواية «القارورة» تكشف واقعا مغيبا عن شخوصه

TT

الأديب السعودي يوسف المحيميد ضاقت به عوالم القصة القصيرة التي دخلها في نهاية الثمانينات، وامتدت به حتى قرر التحرر منها لعالم الرواية الحر في العام1999.

في روايته الثالثة «القارورة» يفاجئ المحيميد قراءه، فقد ضخ بين حروفها وقائع معاناة امرأة في مجتمع محافظ تتعرض لمكيدة الخديعة الموازية لمكيدة حرب الخليج في غزو العراق للكويت، والرواية بقدر ما تحمل في نسيجها السردي من شجن حالات إنسانية وكشف حقيقي ومحايد لمجتمع وواقع مغيّب عن قاطنيه وعن الآخر، إلا أنها تضع حروفها في اتجاه مغاير عن روايتيه السابقتين «لغط الموتى» (2001) و«فخاخ الرائحة» (2002).

في حواره مع «الشرق الأوسط» كشف المحيميد عن تفاصيل أكثر دقة لمعرفة المفارقات بين روايته «القارورة» وبعض تفاصيل أسرار المجتمع المهمشة.

* عنوان روايتك الجديدة «القارورة» جاء مباغتا، فهل قصدت وأنت تكتبها أن تحملها رسالة صغيرة لمفاجأة القراء بتحقيق أمنياتهم عند فتحها، أم ستصفعهم بحقيقة المغامرة وتغيب؟

ـ بل أتأمل مفاجأة «القارورة» للقارئ بكل ما تحمله من دلائل وإشارات وإيحاءات، وستغويه إلى الركض خلف وقائع وتفاصيل مليئة بالألم والمرارة، أظن أن العالم حافل بالنكبات والهزائم سواء على المستوى الشخصي أو العام، ولعل الفجيعة وهي تخرج من «القارورة» تشبه صدمة العفريت الذي يعلن عن عالم مليء بالدهشة والأمنيات حتى وإن كان مليئاً بالمكائد والآلام، وقد كان في «القارورة» كشف حقيقي ومحايد لمجتمع وواقع مغيّب عنا نحن أولا، وعن الآخر ثانياً، ولكي نعرف أنفسنا أتصور أنه يجب أن ننظر لذواتنا عن بعد.

* روايتك تحمل هم المرأة في المجتمع السعودي.. وكنت قريبا منها لدرجة أنك جعلت منها لسان حالها.. هل تحاول أن تؤرخ لنكبات نساء ضائعة حقوقهن نتيجة فوضى المتناقضات في «القارورة»؟

ـ لا، لست أقدم تأريخاً لمآسي المرأة، بل أقدم حالات إنسانية متنوعة وفريدة، تعاني من الاضطهاد، وتعيش المأساة بشكلها الإنساني الموجود في كل بلدان العالم، حتى في الدول المتقدمة، لكنني أؤمن أنني لا أستطيع أن أكتب عن معاناة امرأة فرنسية مثلا، أو بريطانية، وإنما أكتب عما أعيش في فضائه، أكتب عما أراه، وما أحس به، وما أتخيّله بالضبط. مثلا أليست المرأة في العالم أجمع تتعرّض إلى الإيذاء والاستغلال الجسدي واللفظي؟ ألا تتعرّض المرأة إلى الضرب وإلى الخديعة في أي مكان؟ ألا يتعرّض الرجل أيضاً إلى الإيذاء والاستلاب في كل مكان؟ المسألة ببساطة أنني اخترت شخصية ما من هذا العالم، ومكاناً ما من هذا العالم أيضا.

* أشرت على لسان البطلة الى أن قطتها (سوسو) تتمتع بحرية وبحقوق أكبر مما تجده هي في المجتمع ذاته.. ألهذا الحد تجد المرأة ضحية في المجتمع لتوجد هذه المفاضلة بينهما وتحولها إلى ملف ساخن في غواية السرد؟

ـ أتمنى أن لا تتحوّل الرواية إلى بحث اجتماعي يهدف إلى التعميم، فلم أستند إلى دراسة سوسيولوجية تخص المرأة، بل تناولت حالة خاصة متخيّلة لامرأة عاشت زمن الحرب، وتعرضت إلى خديعة شخصية توازيها بكل ما فيها من خدع ومكائد، أما كون المرأة ضحية في المجتمع، فأتصوّر أن الإنسان، رجلا وامرأة، في دول العالم الثالث عموما، وفي العالم العربي خصوصاً يعد ضحية، ويعاني من الاستلاب والإهانة، أليست شخصية «علي الدحّال» في الرواية بدورها عانت من الاضطهاد والمهانة، مما حوّله إلى شخصية انتقامية؟ أما تحويل قضية المرأة إلى ملف ساخن، فقد يأتي من يقول أيضاً إن الطاهر بن جلون قد جعل من المرأة المغربية ملفاً ساخنا في «ليلة القدر» و«طفل الرمال»، وقد يأتي من يقول إن الصينية يونغ تشانغ فعلت ذلك مع المرأة الصينية، وكذلك داي سيجي الذي حوّل الهيمنة الأيديولوجية في عهد ماوتسي تونغ إلى ملف ساخن يدين الشيوعية وهكذا. لذلك أعتقد أن الرواية كجنس أدبي يفترض أن تكون ساخنة وطريّة، لا أن تكون باردة ومملة ورتيبة.

* في «القارورة» تسليط مباشر على الوجه القبيح لبعض المتشددين في المجتمع تجاه المرأة.. ما الذي أردته من ذلك وأنت تنتمي لمجتمع محافظ يجد أي تجاوز لذلك خروجاً عن الدين والنسق الطبيعي؟

ـ لا أريد أن أدخل في أمور دينية، لست أهلا لها، ولكن من متطلبات فضاء أي رواية، استثمار كل شواغل المجتمع والسياسة والفكر والدين والجنس وغيره، بمعنى أن التشدّد أو التطرف الديني المحيط قد يؤثر بدرجة أو أخرى على شخوص الرواية، ورغم ذلك أعتقد أنني طرحت المسألة بحياد تام، حتى في شخصية الرجل المتدّين، الذي يعترض على ظروف الحرب آنذاك، ويختلف مع أسرته، قدمته بتجرّد وحياد، حاولت أن أنقل رؤيته كما هي، أما ما تتعرض له البطلة في الرواية، فهو نتاج بيئة وتقاليد وأعراف بالدرجة الأولى، أكثر من كونه شروطا دينية. وفيما يخص موقفي الشخصي، فأنا ضد التطرف والتشدّد في جميع أشكاله وصيغه، سواء كان تطرفاً دينياً أو أيديولوجياً أو غيره.

* الصراع بين العقل والغريزة الجنسية.. يكاد يكون واضحا من خلال السرد فيما بين (منيرة الساهي) المثقفة و(علي الدحّال) الذي يحتال على جسدها.. هل تحولت المرأة ضحية نتيجة هذا الصراع في مجتمع محافظ؟

ـ أظن أن هذا الصراع أزلي، ولكنه يختلف من مجتمع إلى آخر، فمن طبيعة المجتمعات المحافظة التخفي والحجب، خلافاً للمجتمعات المفتوحة التي تضج بالكشف والعلن، فالمسألة ليست كون هذه المرأة تعيش في مجتمع محافظ، بل لعلاقة معروفة بينها وبين الرجل، ورغم ذلك أرى أن هذه العلاقة تختلف من مجتمع مفتوح إلى مجتمع محافظ، فما تتربى عليه امرأة من تعليمات وشروط وحذر من الرجل في مجتمع محافظ لا تتوفر في مجتمعات منفتحة، بالتالي نجد أن مجرّد النظرة مثلا أو الحديث مع الرجل قد تجلب الشعور بالذنب لدى امرأة في مجتمع محافظ، مما يخلق صراعا داخليا مربكا داخل مثل هذه الشخصية.

* حاولت كشف الثغرات والمثالب الاجتماعية لتضعها في «القارورة».. فهل الروائي (متنبئ) حامل لرسالة التاريخ الذي يزيفه المؤرخون تحت سطوة الساسة؟

ـ الروائي يحمل في داخله فهم المؤرخ ووعي السياسي ونظرة المحلل الاجتماعي والنفسي، ولكنه حين يشرع في الكتابة يجعل السطوة لأدوات ورؤية الفنان أو المبدع، فرواية «العلامة» لسالم بن حميش رواية متميزة وليست كتاباً تاريخياً، ورواية «بيروت بيروت» أو «وردة» لصنع الله إبراهيم رواية وليست كتاباً سياسيا. من هنا قد يحمل الروائي المتميز نبوءة أو استشرافاً للمستقبل، كونه يحمل رؤية حاذقة وعميقة للماضي والآني. أما «القارورة» كمفردة وكأداة محسوسة، فلها إيحاءاتها وهي تحتضن في جوفها تاريخ مجتمع ومكان، عبر عينة من شخوصه، تشير إلى هشاشة هذه الأسرار والخفايا، رغم أنها تبدو كمستودع للسر، وعموما يبقى الروائي كاتباً مختلفاً عن غيره كونه مستقلا ومحايداً في رسم الواقع وتحريض المخيلة، فلا يقع تحت سطوة أحد، زاده في ذلك وإمامه وقبلته الخيال وحده فحسب.

* دعنا نمارس الصراحة.. بطلتك في «القارورة» تواجه خديعتها الشخصية كحرب كبيرة مثل حرب الخليج الذي اتكأت عليها.. فهل روايتك سياسية تمثل فيها منطقة الخليج كامرأة ضعيفة لا تمتلك سوى حيلة السرد.. وهل دول الخليج ضعيفة؟

ـ يمكن أن يقول ذلك المحللون السياسيون بكل بساطة ووضوح، بأن دول منطقة الخليج كما هو شأن دول العالم الثالث، بما فيه العالم العربي أجمع، هي دول تابعة وضعيفة، لكن رواية «القارورة» تقول شيئاً آخر، شيئاً يمزج الفن بالواقع، يحاول أن يستفيد من المخيلة والوثيقة معاً، يكشف حيوات أناس ومتاعبهم، يضع صخب البشر وصراعهم أثناء الحرب، يكرس مقولة أن لا صوت يعلو على صوت المعركة، وتحت هذا الشعار يستغل بطل الرواية «علي الدحّال» المرأة الساردة جيداً، ليوقعها وغيرها في المكيدة الصغرى، وكأنما هي معادل موضوعي للمكيدة الكبرى.

* بعض الروائيين السعوديين اتجهوا في رواياتهم إلى اتكاءات سياسية متفاوتة بالآونة الأخيرة متمثلة بحرب الخليج.. لكنها تظل مجرد تشبيهات، في تصورك لماذا البقاء في هذا الحيز الضيق ألا يوجد من يجسد الحدث بحقيقته وخياله كما هو حال الروائيين الغربيين في تجسيدهم الحروب روائياً.. هل فقد المبدعون الجرأة أم الخيال في هذا الأمر؟

ـ ليس الأمر بهذا الشكل، فلكل روائي رؤيته ومنطلقاته، وليست الجرأة في اختراق التابو والمحرم، سواء في السياسة أو الدين أو الجنس، فلا يكفي أن يشتغل الروائي على مثل هذه المناطق، بل أن التقنية والأدوات التي يستخدمها أهم كثيرا من الكتابات الاستفزازية المجانية، فالرواية أحد الفنون الخالدة، وليست عنوانا صحافيا لافتا ومثيرا، وكثير من الروايات العربية تقع في فخ الكتابة الاستهلاكية، وتتحوّل إلى كتب من قبيل سقط المتاع التي تشبه ورق «الساندويش» العابر، من النادر أن نجد الرواية العربية المقنعة، أما حرب الخليج فليس خلل الروايات التي تناولتها في جرأة مفقودة أو ضعف خيال، بل عدم تمكين الروائي من أدواته، وضعف المخيلة الروائية لديه، إضافة إلى عدم الإقناع في رسم الشخصيات ووضوح المكان والحدث، التي يتبعها بالضرورة نسيان القارئ لعالم الرواية الهش والضعيف حالما يقفل دفتيها.

* يوسف المحيميد بدأ كاتبا للقصة القصيرة ثم خرج من بذرته إلى عالم الرواية.. هل ضقت ذرعا بالقصة لترحل للرواية؟

ـ لم أزل أكتب القصة القصيرة وإن تخففت منها كثيراً، فلدي مجموعة قصصية جاهزة، ولكن عالم الرواية عالم شاسع وحرّ ومنفتح، خلافاً لعالم القصة القصيرة المحدود، هناك فرصة كبيرة في الرواية للتأمل ورسم الشخصيات والبناء، وإن شئت الحق فقد ضقت بالقصة، رغم جمالها وحرفية أدواتها.

* ألا تلاحظ أنك لم تتخلص من الذات القاصة في داخلك وأنت تكتب روايتك «القارورة».. إذ هي قصص تسردها بطلتك في نسيج روائي؟

ـ أود التفريق بين القصة والحكاية، فكون الساردة هنا تحكي عما يحيط بها من أحداث وشخوص لا يعني أن ذاتها قاصة، لأن ثمة ذاتا تروي العالم المحيط، بما فيه الشخصية الرئيسية، ومع ذلك أود الإشارة إلى نقطة مهمة وهي أن الذات الساردة قد تتحول من موضع إلى آخر في الرواية، فمرة تكون ذاتاً قاصة، وأخرى شاعرة، وثالثة مؤرخة، ورابعة متفلسفة، وخامسة موثقة، وهكذا.. تبعاً لما يتطلبه السرد أو النسيج الروائي الشامل، وحتى لو تباينت الذات من موضع إلى آخر فإنها قد تكسب العمل الروائي ذلك التنوّع المطلوب، المهم أن يدرك الروائي كيف يوظف أدواته، فمثلا صنع الله إبراهيم استثمر التوثيق بشكل ناجح في بعض رواياته، وسالم بن حميش والغيطاني في التأريخ، وسليم بركات وإدوار الخراط في الشعر وهكذا، فالمهم أن يتقن الروائي كيفية استثمار القص أو الشعر أو الفلسفة أو التاريخ أو السـينما ليخدم روايته ويعزّز نسيجها بطريقة جديدة.

* ترى ما حدود المعقول واللامعقول لدى يوسف المحيميد حين يجتر خلفه تجاربه وفلسفته وكل الذين سبقوه في عالم الرواية عندما يواجه معركته في الكتابة؟

ـ أوووه هذا سؤال مثير. كلما فكرت في العمل على رواية أحاول أن أتخلص من عبء نفسي أولا ومن أعباء الآخرين ثانياً، فلا أريد أن أكرّر نفسي وما كتبت من قبل في رواية جديدة، ولا أريد أن أكرّر تجارب الآخرين في تجربتي. أريد أن أكون أنا وفي لحظتي بالذات، لا أن أكون غيري، ولا أن أكون أنا قبل الآن. أعرف أن ذلك مستحيل ويدخل في خانة اللامعقول في سؤالك، ولكنني أسعى إلى ذلك، وأراجع ما أكتبه مراراً كي لا أقع في فخ التكرار والتناسخ. فلا معنى ـ كما أرى ـ للكتابة بانتظام إن لم يكن لدى الكاتب جديد مهم، سواء على مستوى تجربته، أو على مستوى التجربة الروائية في العالم إذا كان لديه من الطموح والدأب ما يكفي.