«انتحار الأوتاد» وظاهرة الاغتراب في الشعر الخليجي المعاصر

TT

ترصد الناقدة العمانية الدكتورة سعدية خاطر القاسمي في كتابها الجديد «انتحار الأوتاد في اغتراب سعدية مفرح» والصادر حديثا عن مركز الحضارة العربية بالقاهرة، مظاهر الاغتراب في الشعر الخليجي وخاصة لدى الشاعرة الكويتية سعيدة مفرح.

وتوضح الناقد في البداية ان الاغتراب عن المدينة موضوع قديم حديث، وقد سجل التراث العربي بعض حالات الرفض للمدينة والبحث عن الفطرة والبراءة، أو ما اعتادت عليه النفس الانسانية من تركيب اجتماعي ومعيشة وعادات جبل عليها الانسان وتعودها منذ الصغر، لافتة الى أن الغربة النفسية القائمة على الغربة المكانية الحسية والمشاعر الانسانية البسيطة يصاحبها احيانا موقف فكري قائم على الوعي والرفض للصراع بين قيم الفطرة والبراءة والحب والحرية وبين قيم المدينة التي تجسدها الحروب والسيطرة والدمار وسحق انسانية الانسان فالحضارة المعاصرة هي حضارة الضجر، وهي الحضارة التي تشير الى السقوط كما يقول كولن ويلسون والشاعر بوصفه فنانا متضخم الحس والمشاعر، وهو الأقدر على تصوير الأحاسيس والتقاط ذبذبات المحنة، ومن ثم تجسيد الرفض والتعبير عنه.

وتضيف القاسمي أن الشعر العربي المعاصر استفاد من التجربة الشعرية الغربية في هذا الاطار ودرس قصائد أليوت الذائعة الصيت عالميا «الأرض الخراب» و«أربعاء الرماد» التي تتناول أزمة الانسان المعاصر في وجود يعاني من الخواء والدمار والحروب والمجاعات، وقرأ الكثير من الشعراء العرب هذه القصائد مترجمة وتأثروا بها كما تأثروا من قبل بدعوة رواد الرومانسية للعودة الى الطبيعة وهجر المدن الضخمة التي تشعر الانسان بالتضاؤل والضياع وفقدان انسانيته وأمانه، مشيرة الى أن ظروف البيئة الغربية التي أفرزت هذا الانسان الرافض اللامنتمي تختلف تماما عن ظروف البيئة العربية، كما تختلف الخلفية الثقافية في البيئتين اختلافا كبيرا، ومن ثم فقد استفاد الشعر العربي المعاصر من التراث العالمي لكنه لم يقلده تقليدا أبعده عن بيئته وقلل من قدراته الابداعية، بل أضاف الى التراث الانساني نكهة بيئته.

وتعتقد القاسمي ان الوجه السلبي لشعر المدينة في الشعر العربي المعاصر أكثر بروزا من الوجه الايجابي، نتيجة لمعاناة الشاعر النفسية والاجتماعية، وازدياد وعيه الفكري ورغبته في العودة الى الطبيعة حيث البساطة وينابيع الفطرة، فإذا ما عجز عن العودة الى ظروف معيشية أجبرته على ذلك أو اذا ما غلبته المدينة وانتصرت عليه بالتعود على متعها والحياة فيها، واعادة اكتشاف الجوانب الايجابية وتغليبها على السلبية، ولم يستطع بعد ذلك العودة الى بدائية حياة الريف، حيث أقام مدينته الحلم في خياله الخصب، وانتقل الى الاقامة فيها فكريا وروحيا.

وتختار الناقدة في دراستها الشاعرة سعدية مفرح كنموذج من الشعر الخليجي المعاصر في دراستها لظاهرة الاغتراب، حيث ترى ان رؤية سعدية الاغترابية تتركز من خلال وعيها المتزايد بالمكان ورفضها للنقلة الشاملة المفاجئة من الحياة البسيطة الى حياة المدينة المعقدة الصاخبة، وتخلي أهل هذه المدينة عن الأطر الثقافية لحضارتهم بما حمله من اعراف وعادات وتقاليد وفكر واصالة، والسعي الى استيراد ثقافة أخرى زائفة لا جذور لها في الأرض التي ينتمي اليها انسان هذه المدن.

وترى القاسمي ان لمفرح مدينتها الخاصة بها، مدينة بنتها في اللاوعي من ذاكرة المكان القديم واجنحة الخيال الشعري، ووطنها المستوطن في الذاكرة، له مقاييس ومواصفات خاصة لا يعرفها أحد سواها، ومن ثم لو فتشوا فلن يجدوه ـ كما تقول في إحدى قصائدها ـ وان وجدوه، فلن يعرفوه وان عرفوه فلن يأخذوه، لأنه موجود في قلبها وفي أبيات شعرها «وأن مت في بيت قلبي ـ فهل ستموت في قلب كل البيوت».

وتشير الناقدة الى أن الوطن الحلم لدى سعدية مفرح لا يتمثل في العودة الى الريف ورفض المدينة الأسمنتية الصناعية، كما هي رؤية معظم شعراء المدينة العرب المعاصرين، وانما العودة الى الصحراء والى البداوة، وذلك ما يتناسب وبيئتها الخليجية، ويتناسب مع طبيعة تجربة الشاعرة، ومن هنا تكثر مفردات البيئة الصحراوية في دواوينها، وبعضها مفردات قديمة تنم عن معجم يتحدر من الزمن القديم «القبيلة، الفرسان، السيوف، الذلول، الحروف، الركاب، القافلة، الهيل، بيت الشعر، الأوتاد، العرار، المهرة، العباءة، البيد، الخيام، الظعن، النخيل، الظمأ، الرمال». وتشترك مفرح، في اعتقاد الناقدة، مع باقي الشعراء العرب في الاغتراب القومي العام، وهذا الاغتراب لا يأتي منفردا في تجربة الشاعر، أي لا يأتي مسيطرا على مدار التجربة، بل يمتزج بالاغترابات الاخرى خاصة الاجتماعية أو السياسية أو الوجودية أو الاغترابات الميتافيزيقية بمختلف أنواعها وتخلص الناقدة الى أن الآثام الكبيرة التي أحاطت بالشاعرة «آثام اجتماعية وفكرية وابداعية وسياسية قومية» هي التي تسببت في اغترابها ورفضها وقد جسدت هذه الآثام عبر تجربتها، وفي دواوينها المختلفة، لكنها سلطت الضوء عليها أكثر في ديوانها «كتاب الآثام» الذي تناولت فيه جملة الآثام المحيطة بها، فهناك اثم البلاد «المكان المشوه». وهناك آثم الكلام «الشعر الذي لم يستطع أن يحقق شيئا في الواقع» واثم البوصلة التي أخطأ مؤشرها فبدلا من أن يتجه شمالا اتجه جنوبا ودخل في حرب خاسرة، وهناك اثام أخرى فرعية تحيط بالذات المغتربة فتعمق غربتها ورفضها مشيرة الى أن تجربة الشاعرة لم تكتمل بعد فما زالت في أوج التدفق والتكوين مقارنة بجيل من سبقها مثل سعاد الصباح وحمدة خميس وغنيمة زيد الحرب.