فوزي القش: ريشتي تتعامل مع الطبيعة من دون وحشية

الباحث والتشكيلي اللبناني: مشروعي في تهجئة التفكير مساهمة إنسانية في الذكاء الاصطناعي

TT

في مدينة باث البريطانية يعكف الباحث والتشكيلي اللبناني فوزي القش على إغناء تجربته الفنية والفكرية، وهو بشكل خاص، يبذل جهداً مضاعفاً لتوسيع دائرة مشروعه اللغوي الذي طرحه تحت عنوان «تهجئة التفكير» وهو مشروع مثير سواء بمضمونه أو بما يهدف إليه.

إلى جانب ذلك، ينجز فوزي القش، لوحاته التشكيلية، المستوحاة من مشاهد الطبيعة وألوانها.. والطبيعة عنده ـ كما تبدو من لوحاته ـ كائن واحد حتى ولو تعددت أمزجته والوانه ولغته ما بين سهل البقاع في شرق لبنان وحدائق مدينة باث جنوب غربي بريطانيا.

في هذا الحوار يتحدث القش عن مشروعيه الفكري والفني.

* تنوع اهتمامكم الثقافي والأكاديمي بين موضوعات مختلفة من اللغة العربية والابحاث اللغوية التفكيكية كما يظهر في كتابكم «تهجئة التفكير» الى الدراسات الاقتصادية، ولكم كتاب في هذا المجال، إلى الاعمال التشكيلية.. ما الرابط بين هذه المجالات الثلاثة؟

ـ من أسباب التنوع في انتاجي الفكري اعتقادي القوي بأهمية الدور الذي يلعبه الفكر اليوم في مختلف قطاعات الحياة العملية والثقافية. فالاحداث كلها في يومنا هذا تعتمد قبل حصولها على مخططات فكرية معقدة ودقيقة. وعلى العموم فإن كمية التفكير الفاعلة التي تعكسها كبريات الأحداث هي أكبر بكثير مما نتصور، كذلك جودتها وعمقها. وإن ازدياد المجهود الفكري في أيامنا وارتفاع المستوى بهذا القدر الكبير ظاهرة جديدة أتت بها المكاسب التي حققتها المجتمعات في مجال الحقوق المدنية تحت عناوين: المساواة والحرية والديمقراطية وما يتفرع من هذه العناوين الكبيرة من فروع لا تحصى. الأمر الذي أتاح لعامة الناس مجال الدخول في السباق الفكري للارتقاء إلى مراتب عالية عن طريق التأثير وعن طريق التنافس بعد ان كان القرار بيد عدد محدود من القادة والمسؤولين وكان التفكير شبه معطل في أكثر الأحيان.

أما نزعتي إلى التعمق في الأمور والخوض في أكثر من مجال فكري فهي أمر طبيعي نتج عن ضرورة التصدي للأفكار التي أراها تهدد ما أظنه حيوياً للمجتمع. خذ كتابي «مشاكل الفن الحديث» فقد حتمته الكتابات التي تدعو الى نبذ المفاهيم والأسس التي قامت عليها الفنون بناء على قناعات إنسانية قوية. تلك الكتابات التي أشرت إليها أغوت الكثيرين وبات من الضروري التصدي لها. هذا التصادم تصادفه أينما كان.

إلا أنني متأكد من أن الظرف الذي نمر فيه هو ظرف انتقالي عابر وهو ناتج عن عدم تقدير نسبة عالية من الناس لما يحاك من مكائد عن طريق الفكر لأنهم اعتادوا أن يروا الخطر عندما يكون ذا اشكال حسية سهلة التمييز. إلا أن العقول البشرية وهي متقاربة في القدرة ستأخذ علماً بهذا الموضوع الخطير وستدافع عن أصحابها انطلاقاً من مبدأ الحفاظ على البقاء من خلال التجربة.

* إذا أردتم تبسيط مشروعكم في تهجئة التفكير، كيف يمكن شرحه للقارئ غير المختص؟

* السؤال المطروح هو: هل هنالك نظام يتبعه الناس عندما يركبون كلامهم ليعبروا عن أفكارهما أم أن الكلام يُرَكَّب على حسب رغبة القائل؟ والجواب المتفق عليه حالياً بالنسبة لكل الناس أنه ليس هنالك قانون لهذه المسألة، فيمكن دائماً أن نعبِّر عن فكرة معينة بعدة طرق تقدر أن تكون كلها صحيحة حسب قواعد اللغة. مثلاً يمكن أن نقول: من يدرس ينجح أو: ينجح الذي يدرسُ، أو: كل من يدرسُ ينجح، أو: لا يرسب من يدرس الخ. أما إذا كانت لدينا فكرة تحتاج إلى خمسين كلمة مثلاً للإحاطة بها فهناك الألوف من الطرق المحتملة التي يمكن أن تقترح للتعبير عنها.

هذا هو القرار الحالي المتفق عليه والذي بموجبه تعمل المؤسسات التربوية عندما تواجه تعليم الإنشاء وكذلك تفهم المؤسسات الأخرى المسألة وتتعامل معها.

ما توصلت إليه شخصياً أني وجدت نظاما يمكن أن أسميه علمياً يحيط باللغة إحاطة تامة وبالطبع ينقض الاعتقاد السائد حالياً.

وسأعرِّف فيما يلي بهذا النظام. لنأخذ المثل التالي:

«تسلَّقَ الرجلُ جبلاً عالياً»، هذه الجملة حسب اعتقادنا الحالي هي مركبة من كلمات متصلة الواحدة منها بالأخرى من حيث المعنى وإلاَّ فلا تُعدُّ جملة، فاتصال كلماتها يفترض أنه مثل حلقات سلسلة متماسكة. ولكن بعد التحليل يتبين لنا أن هذا الاعتقاد غير صحيح، وإليك التفسير: إذا تأملنا الكلمتين الأولى والثانية: «تسلق الرجل» نجد أن هناك ترابطاً منطقياً فكرياً بينهما يقبله العقل وهذا الترابط يجعلهما متحدتين، بينما لو تأملنا كلمة: «الرجل» مع كلمة «جبلا» التي تليها أي: «الرجلُ جبلاً» فنفاجأ بأن العلاقة بينهما ليست من نوع العلاقة التي لاحظناها على التركيب: «تسلَّقَ الرجلُ» فهما لا تولدان تصوراً يقبله العقل. مما يجعلنا نعتبرهما منقطعتين عن بعضهما من حيث المعنى وأن ما تتصف به الكلمتان الأوليان لا ينطبق عليهما. أما التركيب «جبلاً عالياً» فالكلمتان المركبتان له تتصلان لأن العقل يقبلهما. وبالنتيجة تبين لي أن هذه الجملة التي كنا ننظر إليها منذ لحظة على أنها متماسكة الأجزاء من حيث المعنى هي ليست كذلك، ولكنها مكونة من جزأين منفصلين أو وحدتين كما اصطلحت أن اسميها وهما: «تسلَّقَ الرجلُ» (فعل وفاعل) و«جبلاً عالياً» (نعت ومنعوت) والمعنى الذي تضمنته الجملة لم يتولد عن ترابط الكلمات جميعها بشكل متسلسل ولكن بمجرد وضع الوحدتين المستقلتين الواحدة بجانب الأخرى. وبعد تجارب عديدة ومنوعة ظهر لي ان التركيب الكلامي كله ليس جملا أو فقرات بل هو وحدات ثابتة مثل هاتين الوحدتين. وهذه النتيجة تنقض المبدأ الذي نتفق عليه الآن حول كيفية التركيب اللغوي وتغير كل تصوراتنا عن اللغة وتعاملنا معها. وهي تشكل نواة الاكتشاف وتُعرف لأول مرة بالنسبة لأية لغة. ولنأخذ مثلا ثانياً للمزيد من التوضيح: «في الدار عدد كبير من الزائرين» فالكلمتان: «في الدارِ« تتماسكان وتتحدان لأن العقل يقبل التصور الناتج عنهما. غير أن الكلمتين: «الدارِ عدد» فلا تولدان تصوراً عقلياً يتقبله العقل ولا تشكلان وحدة، بينما يقبل العقل ما تؤديه الكلمتان: «عددٌ كبيرٌ» ولذلك تعتبران وحدة، في حين أن الكلمتين: «كبير من» لا تتماسكان لأنه لم ينتج عنهما تصور عقلي مقبول. غير ان الكلمتين: »من الزائرين« فبالعكس ينتج عنهما تصور عقلي مقبول وتشكلان وحدة فتكون النتيجة أن الجملة مكونة من ثلاث وحدات مستقلة الواحدة عن الأخرى بدليل التقطع الذي أشرنا إليه. وهذه الوحدات هي: «في الدار» «عدد كبير» «من الزائرين». والمعنى تم بمجرد تجاور الوحدات وبدون أية روابط تربط بينها. والوحدات تتكون من كلمتين على الغالب وفي بعض الأحيان «تتجاوز ذلك الى ثلاث كلمات ونادراً إلى أربع .

ولكي أحصي عدد الوحدات عمدت إلى كل أنواع الكلمات وهي: الاسماء والأفعال والحروف والضمائر والصفات والظروف واختبرت كلاً منها مع باقي الأنواع بعملية مسح منهجية فتبين لي أن اللغة الانجليزية مكونة من ثمانين وحدة وقد دونتها في الكتاب.

فكأن هذه الوحدات هي الألف باء التي يعول عليها العقل ليظهر الى الوجود.

في الحقيقة هي الألف باء اللغوية التي لا يوجد غيرها. أما حروف الأبجدية التي نستخدمها للكتابة فهي وسيلة لتذكر الاصوات التي نتلفظ بها ولا علاقة لها بذلك الانجاز الذي يجعل التفكير يتحول إلى فعل بعد أن يكون هيولاني الوجود، لا ندري ما هي حقيقته في الأصل. هذا الاكتشاف يضعنا أمام حقيقة لم تكن معروفة، وهي أن حدود اللغة هي الوحدة، وأن الجملة ليست مرتكزاً لغوياً يعوّل عليه، بل هي النتيجة الفكرية التي يطمح إليها العقل، والوحدات هي الأداة اللغوية المعنية بأداء تلك الخدمة. والاعتقاد بأننا لا نقدر أن نحيط باللغة، ناجم عن أن انتباهنا يتركز على الجمل التي تحيّرنا بتنوعها وعدم استقرارها، ولم ننتبه قط إلى هذه الوحدات الثابتة التي تروح وتجيء على ألسنتنا وبين أيادينا طوال كل هذا الزمن من دون أن نلحظ وجودها.

إن نظام الوحدات وإن كان هو قوام هذا الاكتشاف، فليس هو وحده الذي تتكون منه اللغة، لكن هنالك ثلاثة أنظمة أخرى بسيطة تضاف إليه لتتمّم معه هذه الأبجدية. والأنظمة الباقية هذه سهلة الاستيعاب، وهي واحدة بين العربية والإنجليزية وهي كما يلي:

1 ـ أدوات الاتباع: وهي على الغالب حروف العطف مع أدوات أخرى، وهي تكون دائماً غير مدمجة.

2 ـ أدوات الإقناع: مثل لام التعليل وفاء السبب وغيرهما، ووظيفتها إظهار العلاقة بين النتيجة والسبب، وهذه الأدوات لا تندمج أيضاً.

3 ـ الرموز: وهي كلمات تقع دائماً في أول الكلام، وهي أيضاً مستقلة مثل أحرف النداء والندب وبعض أسماء الأفعال، وهي أشكال لغوية بدائية كانت هي اللغة قبل أن تتكون الوحدات، وظلت تستعمل على رأس التراكيب التي تطابق معناها، مثل «أُفٍّ»، التي صارت في ما بعد: أنا ضجران، وهكذا.

* ما الغاية من مثل هذا المشروع؟ وهل هناك إمكانيات عملية لاستخدامه أو الاستفادة من نتائجه؟

* الغاية الأساسية من هذا العمل هي المساهمة في التقدم الإنساني الحضاري، كما تساهم كل الشعوب المتحضرة في بناء صرح المدنية. ولحُسن الحظ، فإن هذا الاكتشاف بالذات يدخل في أولويات الشعوب، لأنه يعالج موضوع اللغة، التي هي في أساس كل نشاط فكري، ولا بدّ أن يحظى بالاهتمام الذي يُعمم فائدته على جميع الشعوب الساعية إلى التطور والتقدم.

وإني لا أخفي سروري، إذ أقدم أبجدية اللغة الإنجليزية التي تنطق بها الشعوب الأنجليسكسونية، كما يتعلمها الكثير من سكان المعمورة، وكنت قد اكتشفت أبجدية لغتنا العربية سنة 1979 .

أما عن إمكانيات استخدام الفكرة، فهنالك تطبيقات عديدة ليس من السهل إحصاؤها كلها بوضوح، منها ما يتعلق بتعليم اللغة، ومنها ما يختص بالبحث الألسني، أو البحث الفلسفي اللغوي، ومنها المتعلق بالتطبيق العلمي العملي.

أما تعليم اللغة فقوامه باختصار التدرب على الوحدات لفظاً وكتابة، ثم الأخذ بمجاورتها لبعضها بطرق منوعة، وبحسب أهداف فكرية موضوعية متفق عليها. وهذا العمل ليس إلا تكراراً وتكملة لما تكون الأم قد قامت به، والأم بهذا المعنى، هي معلّمة اللغة الأولى، لذا يقال: «لغة الأم».

وهذه الطريقة تعفينا من كثير من قواعد اللغة، بينما تمكّننا من التحكم بالإنشاء. وقد وضعت كتاباً يسير على هذا المنهج، بعنوان «ألف باء الإنشاء».

وعلى الصعيد العلمي التطبيقي، فالمجال الأهم لهذه الفكرة هو المعلوماتية. ونحن نعلم أن المعنيين بصناعة الكومبيوتر يطمحون إلى جعل الآلة تضارع أو تقارب ذكاء الإنسان في ما تؤديه من أعمال، وأنا واثق بأن هذه الفكرة لها حظ كبير في المساهمة في هذا المجال. وقد سبق لي أن أنجزت بالتعاون مع أحد أبنائي، أعمالاً ناجحة على صعيد الترجمة الآلية، التي تعتبر نوعاً من الذكاء الاصطناعي، ونشرت نماذج منها في الكتاب. كما اعتقد بثقة بأن هذا الاكتشاف، سيوصلنا إلى استخدام اللغة الطبيعية في التعامل مع الكومبيوتر.

* في الفن التشكيلي، وعلى الرغم من انشغالكم المبكر في الرسم والكتابة حول الموضوع، إلا أن اسمكم يغيب عن وسائل الإعلام، هل هو ابتعاد منكم أم تقصير إعلامي بحقكم؟

ـ أنا لا ادّعي أنني كنت هدفاً للصحافة، لكن كان للصحافة التي تلتزم بدور ثقافي أجندتها شبه الواضحة بالنسبة للأمور الثقافية والفنية. ولسوء الحظ، فإن الطريقة التي أفهم بها الفنون، والتي أطبّقها في أعمالي، وهي تراعي التشكيل بوضوح، لم تكن ما ترغبه تلك الصحافة وتسعى لدعمه. وما كان يغيظني في ذلك الموقف، ليس الشأن الشخصي، بقدر ما يغيظني التأثير السلبي في الحركة الفنية بشكل عام. هذا الموقف فوّت على لبنان فرصة إطلاق وتطوير حركة فنية معافاة، التي كانت قد بدأت بوضوح في أعمال مصطفى فروخ وقيصر الجميل وعمر أنسي وسواهم، ثم انكفأت. أقول ذلك إذ أقيس من الخارج بمنظار عالمي لدور ما، وكان رد فعلي في تلك الظروف أن أمَّنت لنفسي آلية للاتصال بالجمهور لا تعتمد كل الاعتماد على الصحافة، بل على تضحيات مادية شخصية ومساعدة أفراد عائلتي وبعض الاصدقاء.

* هل شاركتم في معارض فردية أو جماعية؟ وأين؟ وهل لكم أعمال معروضة؟

* أقمت تسعة معارض خاصة بين 1969 و1991، وكانت جميعها ذات طابع شعبي يتّسم بالإيجابية في مخاطبة الجمهور، الذي كان دائماً يتفاعل مع تلك الأعمال.

معرضان في أوتيل كارلتون، وآخر في مدينة زحلة بدعوة من الندوة الزحلية وبلدية المدينة، وآخر في معهد «غوته» التابع للسفارة الألمانية في بيروت، ومن اللوحات التي ضمّها المعرض استوحى الشاعر واستاذ الفنون في الجامعة اللبنانية هاني أبي صالح، كتابه حول أعمالي «الأرض والرجال»، والكتاب يضم إلى جانب الدراسة المعمّقة، مجموعة من اللوحات بالألوان عن حياة الفلاحين في سهل البقاع اللبناني. ومعرض في حوش الأمراء بدعوة من النادي الثقافي. كذلك ثلاثة معارض في غاليري بخمازي، استقطبت جميعها الجمهور البيروتي بكل فئاته. وكنت أشارك في معارض الربيع لوزارة التربية اللبنانية، ومعارض وزارة السياحة، ولدى الدولة بعض أعمالي، ومنها القصر الجمهوري. وبعد انتقالي إلى إنجلترا بسنوات، أقمت سنة 1991، في مدينة «باث» التاريخية، معرضاً في قاعة العرض في مكتبة المدينة، بعد أن أُخذت بجمال حدائقها وطبيعتها وتغنيت مع أبي الطيب حين مرّ في شعب بوّان وتأثر بالمشهد الجميل والغريب عليه.

وإني ما أزال منكبّاً على العمل ما ألقي قلماً حتى استلّ ريشة مع كل ما يقيدني من مشاغل الحياة أكثر ما رسمته أصبح بيد الجمهور من محبي الفن التشكيلي، ولم أُحصِ بدقة ما بعته وما فقدته، لأن ظروفي الحياتية لم تكن ظروفاً طبيعية، فقد عصفت بي رياح الأحداث العاتية لمّا رقص الشيطان رقصته، فكنت دائما أترك ورائي أعمالاً كي يخف حملي ويسهل عليّ الانتقال من مكان إلى آخر. وإني أرتاح لوجود الكثير من أعمالي لدى أناس أعزاء يحرصون عليها ومؤسسات ارتبط مصير هذه الأعمال بها.

* يلاحظ في لوحاتكم غلبة موضوع الطبيعة بعناصرها وتكويناتها، ما السبب في ذلك؟ وهل تعتبرون أن الطبيعة أقدر على نقل فكرة الفنان من الموضوعات الأخرى؟

* تسيطر الطبيعة في أكثر لوحاتي، وذلك نابع من حبي لها، فأنا من هذه الناحية أنتسب إلى رعيل الرومنطيقيين على فارق أنني لا أنغمسُ في الكآبة التي تهيمن على نفوس هؤلاء، فهم ينتقون ما يلائم كآبتهم من الألوان والأماكن والأوقات، كما بدر من كورو أحد الممثلين لهذا الفن، تُحرّك الطبيعة مشاعري إذا كانت ألوانها متألقة مثيرة، فأقطف منها ما يحلو لي من دون أن أبلغ درجة الجرح أو الوحشية كما يبدو على أعمال فان جوخ وغوغان ومن تأثر بهما من بعض المعاصرين.

وأنا لست انطباعياً، مع أني ألتقي مع الانطباعيين في كثير من النقاط على فارق أنني لا أُجزّئ الألوان وأنهكها كما فعل موتيه أو أهدر المساحات باللون الرمادي وكلا الخطرين تسبّبا في انزلاق البعض في التجريد. إنني لم أُحوّل الطبيعة، لكنني ارتقيت بها إلى النقطة التي تجعل الطبيعة شعراً لا يصعب فهمه رغم سُموِّه.