فرنسا تكتشف ساغان جديدة في أحياء المهاجرين

رواية فايزة غين الأولى بيعت منها 15 ألف نسخة في أقل من شهرين

TT

بعد مرور نصف قرن على صدور «مرحباً أيها الحزن»، وبعد تزامن الذكرى مع رحيل كاتبة الرواية فرانسواز ساغان، راحت دور النشر الفرنسية تتلهف على اطلاق اسطورة جديدة تحقق ما حققته ساغان من شهرة ومبيعات قياسية.

ويبدو أن حرفة صناعة النجوم قد انتقلت من السينما إلى ميدان الأدب وكتب السياسة، وظهرت دور نشر تخصصت في اعداد طبخة المطبوع الأكثر مبيعاً أو «البيت سيلر»، هذا المصطلح الذي يضرب عصفوري الشهرية والثروة بحجر واحد.

مفاجأة هذا الموسم الأدبي في فرنسا أن الفائز بالرقم الرابح اسم على مسمى، وهي كاتبة شابة من أصل جزائري تدعى فايزة غين، كتبت روايتها الأولى وهي في ربيعها الثامن عشر، وتلقفتها دار «هاشيت» للنشر واطلقتها في حملة دعائية وإعلامية جعلت منها نجمة الصحف وبرامج التلفزيون وحاملة لقب «فرانسواز ساغان الضواحي». وكانت النتائج الأولية للحملة ان خمسة عشر ألف نسخة من الرواية بيعت في أقل من شهرين.

تحمل رواية فايزة غين عنواناً ملتبساً هو «كيف كيف غداً».

ومصطلح »كيف كيف» في اللهجة الجزائرية يعني التماثل. وبهذا المعنى فإن العنوان يعني ان غداً سيكون شبيهاً باليوم. لكن المؤلفة تحايلت على إملاء »كيف كيف» وجعلت الكلمة مشتقة من الكيف، وهي لفظة عربية دخلت أيضاً القاموس الفرنسي بفضل اللغة الشبابية الجديدة التي يبتدعها أبناء المهاجرين، وتعني الانشراح حيناً والمحبة أحياناً، وبهذا التفسير، فإن العنوان الذي تقصدته فايزة يعني التفاؤل بالغد والتصالح معه.

ان دخول اديبة أو كاتب من اوساط المهاجرين إلى حقل الرواية في فرنسا ليس بالأمر الجديد. فما الذي يجعل رواية فايزة تحظى بهذه الضجة؟

من يقرأ الرواية يلمس أمرين يستدعيان الانتباه; الأول هو براعة المؤلفة في رصد الأحداث بعين ذكية غارقة في السخرية، السوداء منها والبيضاء. وهي عندما تكتب فإنها تستخدم مبضعاً لا قلماً. كما انها تأسر القارئ بلغتها البسيطة المباشرة القادرة على رسم الشخصيات بعبارات قليلة وتلخيص الحدث في ملاحظتين بليغتين، لا أكثر.

الأمر الثاني هو ان فايزة غين لا تندب واقعها، ولا تنحو منحى الكاتبات اللواتي سبقنها في التشكي من قسوة الأب، أو تخلّف الأم، أو عنف التقاليد، أو محنة الانشطار بين ثقافتين، او لوعة دفع الفواتير العنصرية. أقول هذا رغم ان الرواية تتحدث عن فتاة مغربية تدعى درية، أو «دوريا» حسب اللفظ الفرنسي، تعيش حياة فقيرة مع أمها التي تعمل خادمة في فندق بعد ان هجر الأب اسرته وعاد إلى بلاده ليتزوج بثانية تنجب له ذكراً. تطل بطلة الرواية على المشهد الاجتماعي الفرنسي إطلالة الند للند.

وهي رغم فقرها، وقلة تعليمها، وصغر سنها، فإنها لا تتنازل أو تتوارى امام من تتعامل معهم من أهل البلاد الأصليين. انها تصر على أن يكون لها مكانها الطبيعي تحت الشمس، وألا تكتفي بالانتساب إلى مدرسة لتعليم تصفيف الشعر، وأن يخفق قلبها بالحب للشاب الذي تختار، وأن تمارس هوايتها في نقد الآخرين بوعي كامل.

هل ان درية شابة متمردة؟ انها متمردة بمعنى رفض القضبان التي تسجن أبناء المهاجرين وبناتهم في قفص الفشل الدراسي والبطالة والزواج المرتب. لكنها بطلة عاقلة جداً في احترامها العظيم لوالدتها، وفي مجاملتها لمجتمع المهاجرين، وفي اعتزازها بأصلها، وفي مراعاتها للحد الأدنى من التقاليد، حتى وهي تتحدث عن لحم الخنزير وعن مذاق قبلتها الأولى التي سرقها منها نبيل.

ومن خلال يوميات مكتوبة بضمير المتكلمة، نتابع رحلة درية وامها وهما تنحتان لهما موقعاً في البلد الجديد، ودأبهما في تطوير نفسيهما والاندماج الإيجابي في المجتمع. وبهذا، فإن الرواية تخدم إلى حد كبير السياق الذي تتمناه الدولة الفرنسية لاحتواء المهاجرين وزجهم في النسيج الاجتماعي للبلد، وبالحد الأدنى من الأزمات. ولعل أكثر عبارات الرواية دلالة، هي تلك التي تصف فيها درية والدتها التي دخلت دورة تأهيلية وانتقلت من الخدمة في فندق متواضع إلى العمل في مطبخ مدرسي. انها تقول: «لم يعد ينقص أمي إلا الاشتراك في مجلة «ايل» لكي تصبح باريسية كاملة».

ان درية، في نهاية المطاف، هي ثمرة ثقافة التلفزيون الفرنسي، وهي في كل تشبيهاتها واقتباساتها تنهل من لغة الإعلانات ومن أخبار مقدمي البرامج ونجوم الغناء. لكن براعة المؤلفة تجلت في تحويل تلك الملاحظات الى مناسبات للسخرية من بلادة العقلية التلفزيونية ومن بلاهة الاعتقاد بأن الرسائل الإعلامية المسطحة ستنطلي على مشاهد لبيب.

ويبقى السؤال الأزلي: هل هي رواية متخيلة أم سيرة شبه ذاتية؟ ان من شاهد فايزة في مقابلاتها التلفزيونية وسمع ردودها اللماحة واللاذعة، لا بد ان يرى فيها الكثير من درية. وآخر ظهور تلفزيوني لها كان في برنامج صباحي مخصص لوزير دفاع فرنسا السابق جان بيير شوفينمان. لقد طلب شوفينمان استضافة فايزة غين لأنه قرأ روايتها وأعجب بها ويريد التعرف على كاتبتها. وهي جلست امامه واثقة من نفسها ومن جمال تسريحتها الجديدة، بدون تواضع زائف أو تملق ممجوج. ان شهرتها المفاجئة ستفتح أمامها أبواب هوايتها الكبرى، إخراج الافلام، وها هو فيلمها الأول المتوسط الطول «لا شيء سوى الكلمات» يعرض قريباً، واسمها قد تحول إلى عنوان من عناوين النجاح العربي في فرنسا، خصوصاً بعد أن دخلت روايتها قائمة الكتب الأكثر مبيعاً. ان اكثر ما يسعدها هو ان شباناً مهاجرين لم يقرأوا في حياتهم كتاباً خارج مناهج المدرسة، ذهبوا إلى المكتبة لشراء روايتها.