متعة البوح أمام كاميرا إفرنجية

هل للتلفزيونات الغربية كل هذا السحر والظهور على شاشاتها شرف يستحق كل هذا التنازل الجميل عن حماية الخصوصية الفردية أو ما يعتبره أدباؤنا كذلك؟

TT

أول ما يتبادر لذهن مشاهد غيور، تمتّع بالسهرة العربية الطويلة التي خصصتها محطة «آرتيه» التلفزيونية الفرنسية ـ الألمانية المشتركة لثقافتنا وقضايانا وكتّابنا مساء الجمعة الماضي، سؤال حنظلي الطعم هو الآتي: ما علّة عجز عشرات التلفزيونات العربية التي تبث على مدار الساعة عن إنجاز عُشر ما يجيده الإفرنجة في توصيف أحوالنا وكشف سراديب أسرارنا؟ وقد يتناسل سؤال آخر أكثر مرارة من الأول: لماذا يقبل الكاتب العربي أن يبوح ويعترف أمام كاميرا الآخر، ويتحفّظ ويتكتم ويلبس عشرين قناعاً أمام عدسة وطنية أو عربية؟

تسنى لنا بفضل «آرتيه» والصحافيين الألمان الذين أعدوا روبورتاجاً بطعم الفاكهة المقطوفة للتو عن أمها، أن نرى الكاتبة فاطمة المرنيسي بملابسها المغربية وسط نساء بلادها تقتعد الأرض وتحاورهم وتمازحهم كأي امرأة شعبية بسيطة منهم وفيهم. وفي مصر رأينا إدوار الخرّاط يتكلم بصدق وحرارة عن «الايروسية» في أدبه، وكله فخر بريادته وجرأته في هذا المجال. ودخل البرنامج مجلس نجيب محفوظ خلسة وهو يتسامر مع مريديه لنسمعه يقول إنه ما عاد يريد أن يتكلم في السياسة بعد كلّ ما جرّت له من متاعب. وفي مجلة «أخبار الأدب» ـ أهم اسبوعية عربية ثقافية ـ هكذا عرفها الروبورتاج، رأينا العاملين فيها يقيمون الصلاة في أحد الأروقة، وجمال الغيطاني يتكلّم عن الحرية في بلاده، وتغيرات سياسات المصادرة طبقاً للظروف والمستجدات. ميرال طحاوي رغم رواياتها الجريئة قالت انها تشعر بالقيود التي تكتم أنفاسها والعيون التي تترقبها، وروت أن زوجها يفلفش في أوراقها ليرى ما تكتب. أكرم مسلّم الروائي والصحافي الفلسطيني في رام الله تقبّل ان تصوره الكاميرا وهو يجلي الصحون في بيته إمعاناً في التأكيد على إيمانه بالمساواة بين الجنسين. والروائية الفلسطينية المقيمة في الأردن سحر خليفة رضيت أن تظهر وهي تقود السيارة وتمارس الرياضة في أحد النوادي، وتقطف الليمون والعنب من حديقة منزلها. عجباً، إذن، لماذا لا يطل علينا هؤلاء في التلفزيونات العربية بغير الأقمطة الرسمية والجلسات البروتوكولية المصطنعة. وهل العيب فيهم أم في مسؤولي البرامج الذين يحبسونهم في الغرف المغلقة ويحصرونهم في سجون الأسئلة المكرورة حتى بدا الاجترار سمة من سمات المقابلات الأدبية. كان الروبورتاج المحكم التركيب يجول في الأقطار العربية بحثاً عن ثغرات الحرية التي يستطيع من خلالها أن يطلّ الكتّاب باعترافاتهم، تحت عنوان «فسيفساء الأدب في أرض العرب»، ولذلك وجدنا أنفسنا نغادر بلداً لنحلّ في آخر، بدءاً من المغرب وانتهاء بقطر، ذاك البلد الذي لا يذكر بيننا إلا لانتقاد تلفزيون «الجزيرة»، أو حين ينقل من هناك مؤتمر صحافي لأحد القادة الأميركيين العسكريين، رغم علم بعضنا بأهمية هذا البلد المستجدة بعد اكتشاف كميات مذهلة من الغاز في بواطن أرضه، تضاف إلى ثروته البترولية. هذه المرّة كان الكلام عن الأدب في قطر، ولعجب المشاهد العربي الأبي اكتشفنا وجه الشاعرة سعاد الكواري وهي تتحدث عن رغبتها في التغيير وشعورها بأنها تختنق، في وطن يمنحها الإحساس بالغربة. كلام جريء لشاعرة ناشئة في بلد محافظ جداً لم تخرج غالبية نسائه بعد من حجرات المنازل.

أما المفاجأة الكبرى فجاءت من لبنان، البلد العربي المشرقي الذي يعدّ أكبر نسبة من الكاتبات النساء ربما، وحيث يقال فيه الكثير ولا يقال شيء جديد. عبّاس بيضون قاد الكاميرا إلى بيته العتيق في صور، رأيناه يمرح بين حجارته وأعمدته، لم يتوان عن بعض التمثيل امام الكاميرا بالمسح بالأكفّ على أطلال بيت أيام زمان وتلمّس أركانه. لم نر عباس بيضون يلعب هذا الدور في برنامج عربي أو لبناني من قبل، وغاية ما كنا نسمعه منه كلام محصور في الشعر والأدب والكتابة. علويه صبح روائية صريحة جداً لكنها هذه المرة سمّت الأشياء بأسمائها. وحين سئلت عما تكتب قالت بكل بساطه وعفوية وعلى وجهها ضحكة صغيرة: «بورنو»، وكررتها مرتين شارحة:«ان هذا يعجبني». وتدخّلت روائية لبنانية أخرى وهي إيمان حميدان يونس لتشرح أن تابوهات السياسة والدين جعلت الكتّاب يلجؤون للجنس للتنفيس عن كبتهم وقمعهم، حتى ان الروايات العربية باتت مليئة بالصور الجنسية والمشاهد الإباحية. هذه الروائية المترجمة إلى الفرنسية أخذت البرنامج إلى قريتها في الشوف، وبدت متأثرة وهي تتحدث عن رغبتها في طرح الأسئلة حول الحرب والعنف والقتل، أما الإجابات فهي ليست مما يهمها لأن فعل الكتابة بحد ذاته هو إجابة.

وفعل البحث عن الحرية من خلال برنامج، هو فتح لأبواب الحرية على ما يبدو، وإلا فما سر هذه الاعترافات غير المألوفة، وإدخال المحققين الصحافيين إلى حميميات البيوت والقلوب. لم يسبق لنا أن رأينا إحدى بنات سحر خليفه في برامج سالفة، والروائي رشيد الضعيف صاحب «تصطفل ميريل ستريب» الذي يتهرّب من الأحاديث الصحافية ما أمكنه، ولو كانت قصيرة ومقتضبة جلس أمام الكاميرا الألمانية شارحاً ومفسراً وجهة نظره مع زملاء المقهى من الأدباء.

سبحان الله.. هل للتلفزيونات الغربية كل هذا السحر، والظهور على شاشاتها شرف يستحق كل هذا التنازل الجميل عن حماية الخصوصية الفردية أو ما يعتبره أدباؤنا كذلك، أم ترى هي تلفزيوناتنا التي لا تعرف كيف تلج حياة الناس وتنتزع منهم اعترافاتهم وتحضّهم على قول دواخلهم. ما نعرفه أن قسطنطين زريق قبيل وفاته اتصل بنا معاتباً ومتضايقاً لأن مقابلة أجريناها معه لـ«الشرق الأوسط» خرجت عن قالبها الفكري، وتطرقت إلى بعض الجوانب الذاتية والحياتية الطفيفة، ولم يشأ المفكر أن يظهر أمام القراء إلا مفكراً. آخرون يصرّون على قراءة المقابلة التي تجرى معهم قبل نشرها ليتأكدوا من أنهم لم ينزلقوا إلى ما لا يحبون، وكثيرون يقولون قبل المقابلة وبعدها غير ما يروونه حين يبدأ شريط التسجيل بالدوران، وما أكثر الذين يتحدثون بالساعات ويقولون إن كل ما رووه غير صالح للنشر.

السهرة العربية الطويلة على «آرتيه» درس لقنته الفضائية الثقافية الغربية ـ التي طالما قيل إنها منحازة لليهود ـ لكل التلفزيونيين العرب. ففيلم «باب الشمس» الذي ابتدأ تلك الليلة العربية هو عن فلسطين ومأساة أهلها، ولم يمنع عرضه اعتراض بعض اليهود على محتواه المتعاطف مع العرب. هذا الفيلم ممول من القناة لا من أي ثري عربي يخطب في العروبة على المنابر. والروبورتاج الأدبي الذي تحدثنا عنه وكلّف إعداده فريقاً كبيراً وسفراً في أنحاء دنيا العرب، بحثاً عن الحقيقة في المنازل والمكاتب والحدائق السرية لا نعتقد أن أي فضائية عربية أفلحت في تصوير مثيل له. أما ذاك الحوار حول الشرق والغرب الذي شارك فيه أدباء ومفكرون بينهم الياس خوري ونصر حامد أبو زيد وسمير قصير، فقد انتهى بعبارات معبّرة لمقدم البرنامج الألماني، وهو يختم سعيداً بالخلاصة التي توصّل إليها:«لقد تعلمنا أمراً مهماً هذه الليلة. فهمنا أنكم بحاجة لأن تتخلصوا من الاستعمار، كي تجدوا حريتكم وتبلوروا أسساً لها، وكنا نظن أنكم تتحررون بفضل هذا الاستعمار نفسه».

ومن ما يزال يظن أن التلفزيونات هي للتسالي والفقش وهزّ الخصور، كان عليه أن يعيش تلك الأمسية العربية الزاخرة بالمعاني، ليدرك كم أن مهمة الفضائيات العربية كبيرة وضخمة، وكم هي عن واجباتها قاصرة وقصيرة النظر.

[email protected]