مخزون من الشجن والصفاء في معرض محمد عبلة «الونس بالنيل»

TT

يطرح محمد عبلة في معرضه «الونس بالنيل» والذي اقيم حديثا بقاعة الزمالك بالقاهرة الحركة الرابعة في حواريته مع النيل. وعلى عكس الحركات الثلاث في معارضه السابقة تتسم هذه الحركة بجو من الشجن والصفاء الروحي والزهد. فلم يعد النيل مجرد رمز، أو تميمة تتخطفها أعناق السنين والبشر، بل أصبح حالة صوفية، لها مدها وجزرها وإيقاعها الانساني العميق.

تتدفق هذه الرؤية في لوحات المعرض بسلاسة وحيوية، حيث نجد الشخوص والعناصر مغمورة في النيل، تستمد أشواقها وأحلامها منه، وفي حالة من التوحد والوجد به، وكأنه ملاذها الوحيد، بل صرختها الأخيرة ضد القمع والخواء والقبح.

يهمش عبلة التعقيدات والكتل اللونية بتقنياتها التقليدية، محتفيا ببساطة التكوين والإيقاع، ويسقط في الوقت نفسه الحاجز الوهمي بين ذاكرة الفنان وذاكرة اللوحة، فتبدو شخوصه وكأنها ولدت من رحم اللوحات نفسها. وإمعاناً في التبسيط يعتمد عبلة على دفقات الفرشاة الارتجالية في اختزال عناصر الحركة وتكثيف الاحساس بالملمس واللون، وبؤر النور والفراغ، تاركاً شخوصه وعناصره تتحرك بحرية في فضاء اللوحات، وتخلق أنساقها الفنية والتعبيرية ببساطة وتلقائية شديدتين. ويلعب الخط الرمزي بشقيه المنبسط والمتكسر دور ضابط الايقاع الخفي في الوصل والقطع بين مقومات وعناصر اللوحات، وربطها بأفق الرؤية التي تتناسل دلالاتها من لوحة لأخرى.. فأحيانا ينبسط الخط معجونا بلطشات الفرشاة أفقيا ورأسيا، وكأنه شريط ضوء يبدد عتمة الألوان الضاربة في الدكنة، ويلم شتات العناصر والشخوص المرتجلة في سلة الرؤية التي تميل الى الزهد والتقشف.. وأحيانا ينساب الخط حادا ورفيعا من أسفل وأعلى اللوحة، وفي جنباتها وكأنه سياج حماية لها من شوشرة الخارج الممعن في الفوضى والعبث. وأحيانا أخرى يتناثر الخط في تموجات متكسرة طولية وعرضية، وبشكل واخز ومتوتر، كاسرا حيادية الشكل ولحظات الصمت المفعمة بالتأمل في حركة العناصر والشخوص، ليشف الونس بالنيل عن روح اشراقية، تتحول معها اللوحة الى نافذة تطل منها الذات على الماضي والحاضر معا.

وعلى ذلك يجري النيل في اللوحات على مستويين، فهو يبدو نيلا باطنيا يشبه الكهف، تستلقط فيه الروح أنفاسها من غربال الزمن والحياة. وهنا يستخدم عبلة ألوان الزيت بطبقاتها الباردة الثقيلة، كالأخضر الزيتوني والاسود الفاحم، والاسود الرمادي، والبني الغامق، تتخللها لطشات وندبات خطية ملونة، من الابيض والاخضر والاصفر والاحمر، تساهم في اكساب التكوين والشخوص مسحة درامية، ومقدرة على التحرر من قتامة الألوان، والنفاذ الى الداخل بأسئلته وهواجسه الملتاثة الموارة. وأحيانا يبدو النيل عاطفيا نزقا، له ألاعبيه ومسراته الخاصة. وهنا تتخفف طبقات الزيت من ثقلها وقتامتها، ويستخدم عبلة ألوانا حارة دافئة، منسابة في مساحات لونية صريحة، مثل الاصفر والنيلي المخفوق بغلالة رمادية شفيفة، والاحمر الضارب في حمرة الشفق. كما يثري عبلة الخامة بانبثاقات وومضات لونية مباغتة، تتنوع ما بين الخربشات السريعة، أو البقع العشوائية، والاشكال الكروكية الخاطفة، والتي تقف ما بين حدود الرسم والتلوين، في شكل وريقات شجر، ونباتات برية، وطيور، وحيوانات أليفة. ويتصدر التكوين فتى وفتاة في حوار صامت، أو فتاة منكفئة على ذاتها في حالة خجل ووجل من النيل نفسه، أو فتى فاردا ذراعيه، وكأنه يتهيأ للحظة عناق شاردة. انها شخوص حية تتحرك حولنا، وبحميمية تشدنا من عزلتنا وغربتنا الي نقطة سحرية يتحول فيها العالم الى نهر صغير، زاخر بالعطاء والتجدد.

وبرغم العفوية الشديدة في التعامل مع السطح إلا أن مخزون الخبرة لدى عبلة يصنع حالة فريدة من التزاوج بين تلقائية التجريد على النسيج الفني واللون. وبين الإيهام بواقعية ما نشاهده، وأن كلتا الحالتين حالة متشابكة ومتداخلة. يعضد ذلك ما يمكن أن أسميه بـ«الفراغ السردي» في اللوحات حيث تتحول كل لوحة الى قصة أو معزوفة سردية، وما الخطوط والألوان والبقع والشخوص إلا أنساق ومقومات فنية قابلة للسرد، بل هي تطور متصل ومتنام على خطوط متقاطعة ومتشابهة في تجربة عبلة نفسه، وترحاله الدائم بين اشكال وعوالم فنية عديدة بعضها يبتكره والآخر يكتشف إيقاعه ونبضه من شهوة الواقع والحياة.