إنهم يخرّون أمام الكراسي

سوسن الأبطح

TT

كان علينا أن نبذل اسابيع من الجهد، كي نجمع ثلاثة مثقفين من اتحاد الكتّاب اللبنانيين لهم آراء متباينة في مكان واحد، وننجز تلك الندوة الصحافية التي نشرتها «الشرق الأوسط» مؤخراً. فأسهل لك أن تجمع شارون بأبي مازن من أن تقنع مثقفين يتباينون في الآراء بالجلوس على طاولة واحدة. والطامة الكبرى أن تلك المسافة التي تبدو لك ولهم في البدء أصعب من اجتياز الربع الخالي، سرعان ما تتقلص حين يقررون أن يقولوا الحقيقة عارية أو شبه عارية، ويحلّ الصدق مكان المكابرة. وآخر ما كنا نتصوره من امين عام اتحاد الكتاب اللبنانيين الشاعر جوزف حرب، وهو الذي بدأ حواره مدافعاً عن الاتحاد، أن يدعو في النهاية، إلى استقالة الهيئة الإدارية الحالية، وبالتالي لإقالة نفسه من منصبه، ويدعو إلى مؤتمر عام وهيئة جديدة لا تضم أياً من الأعضاء الحاليين اعترافاً منه بأن الهوة قد باتت سحيقة. ولم نكن نتوقع أن يقول الشاعر الياس لحود بعد عقود نشطة في الهيئات الإدارية المتوالية بأن اتحاده الأثير مات وشبع موتاً، أو ان يرضى شاعر مثل محمد علي شمس الدين من الاتحاد بأن يكون مجرد وسيلة لتحقيق مطالب معيشية. فالأحلام تتقلّص عند مبدعينا إلى درجة الصفر أو ما تحت الصفر. والإبداع الذي ننتظره لا يولد من نفس يائسة ومحطمة.

لكننا كنا نسأل طوال فترة بحثنا عن علل الكتّاب واتحادهم، من المسؤول عن إسقاطهم إلى هذا الدرك الأسفل من البؤس؟ فعند الاتصال بهم، بعضهم كان يتهرّب ويقول أن هذا الاتحاد بات أتفه من أن يتحدث في قضاياه، ثمة شاعر من الدرجة الثانية أو الثالثة أعطانا موعداً بعد ثلاثة أسابيع بحجة أنه مشغول، وآخرون تكلموا وباحوا بما يصعب تصديق حدوثه بين مثقفين، لكنهم رفضوا نشر أقوالهم. «لأن البوح قد يجلب خراب البيوت» كما قال أحدهم. وكرسي في الهيئة الإدارية لهذا الاتحاد «التافه» ـ كما يصفه بعض أعضائه ـ استحقت من بعض المثقفين تنازلات تصدّعت لها كراماتهم. ثمة من روى لنا بأن الرشاوى على قدم وساق وأنه وعد بسيارة فارهة مقابل تنازله عن الترشيح في إحدى الدورات. ولا تستغرب ان يقول لك أحدهم بأنه وعد بوزارة، وانه قبل الانسحاب مقابل مغنم كبير «يتيح له إفادة البائسين أمثاله». فـ«أن يكون المثقف في السلطة لهو مكسب له ولأصحاب المطالب المحقّة» كما قال. سألنا المثقف الكبير: «لكنهم خدعوك ولم تحصل على أي شيء، فلماذا ما تزال تخاف قول الحقيقة كما هي؟». أجاب: «لأنني لبناني حقير ووضيع، ولو ان الآخرين يقبلون بفتح قلوبهم وإطلاق العنان لاعترافاتهم، لكنت أول المعترفين. إنما هم يكذبون وينافقون ويمثّلون دور أصحاب الوجاهة والفكر والأدب، فماذا سأستفيد لو خرجت عن الصفّ وحيدا، أنا بحاجة لأن أدفع ايجار بيتي واقساط مدرسة أولادي ولأن اطبع كتبي، ولدعم بسيط من هنا وهناك كي تسير أموري. أي كلام يغضب نافذاً، بمقدوره أن يضع العصي في دواليبي ويعرقل حياتي».

الأمين العام الشاعر جوزف حرب قال لنا في معرض تحضيرنا للندوة: «إنهم يخرّون أمام الكراسي». فلماذا إذن هذا الإصرار على تقديم المثقف المنزه المتبتّل المتعفف، ما داموا جميعهم يسعون لتحويل رأس مالهم الإنتاجي ومواهبهم الإبداعية المعنوية إلى رأس مال مادي، فيضلّ غالبيتهم الطريق ويقعون في فخ النافذين وأصحاب السلطة على تنوعاتها.

الوجاهة الثقافية لاسم من الأسماء اللماعة ليس لها مردود مالي، وترجمة الموقع الشرفي إلى وظيفة ذات مدخول، بات يكلّف مثقفينا ضمائرهم وإباءهم واستقلالهم. فأنت لا تستطيع أن تقول للكاتب لماذا تذللت لفلان، أو قبلت أن تكون ذنباً للزعيم علاّن، ما دام يبحث عن الستر. ولو كانت طريقته هذه هي الرذيلة بحد ذاتها. فأنت إما أن تكون كاتباً وموظفاً في الحكومة تستغلك بالطريقة التي تناسبها أو تكون كاتباً وبقالاً أو بائع فلافل لتعيش بشرف. ومن حاول أن يمارس شطارة اللعب على الحبال لينجو بسبيل بين الاثنين وقع في هاوية أصدقائنا الذين حدثونا عن مهانتهم.

تساءلنا عشرات المرات ونحن نصغي لاتحاديين قدامى معتزلين وآخرين ما يزالون في الهيئة الإدارية، ما الذي يجبرهم على الصمت، هؤلاء الذين يفترض أنهم ضمير الأمة. ورغم أنك لا تجد على ألسنتهم جواباً شافياً، إلا انك تفهم من سياق الكلام أنهم يدارون بالسكوت المرير بعضاً من مصالحهم الصغيرة التي لا تليق بكتّاب كبار.

حاولنا أن نحصل من سكرتاريا الاتحاد على ثبت بأسماء الذين تناوبوا على الهيئات الإدارية للاتحاد مع تواريخ الانتخابات، فتهرّبوا وماطلوا وقالوا لنا إن الأمر بحاجة لمناقشة من قبل الهيئة الإدارية. ولما قلنا إننا نطالب بمعلومات نشرت في الصحف ولا علاقة لها بالأسرار المخابراتية، نصحونا بالتوجه إلى وزارة الداخلية التي تستطيع أن تمدّنا بهذه اللائحة. وبعد أخذ ورد عرفنا أن ارشيف الاتحاد سرق، أخذه أحدهم بعد أن غضب من نتيجة الانتخابات. لم يجبنا أحد على سؤالنا: «لماذا لا يعلن عن سرقة أرشيف اتحاد الكتّاب؟. ولماذا لا يقاضى ذاك الكاتب البربري الذي يغتصب أرشيفاً إن لم يتسلق إحدى الكراسي. إتحاد بلا تاريخ أو حاضر، فهل يأمل بمستقبل؟ كدت أقول لزميلي عادل علي في «ثقافة»: «ما بالك تريد نبش الموتى من قبورهم؟!» حين طلب منى تحقيقاً عن «اتحاد الكتاب اللبنانيين». لكنني بعد أن بحثت ونبشت في مدافن مؤسسة كان يفترض أن تكون من أهم المؤسسات الثقافية في لبنان، آمنت بأن التأريخ لاتحاد الكتّاب وأعضائه وصراعاتهم على الكراسي التافهة، قد يكون النواة الأساسية اللازمة لفهم ميكانيكية توظيف المثقف بهالته ووهجه، في أمة هجرتها الثقافة. فثمة عبارة جميلة كان الطلاب الفرنسيون يكتبونها على الجدران أثناء ثورتهم الشهيرة عام 1968 تقول: «الثقافة كالمربى: كلما شحّ نصيبك منها اضطررت لأن تبالغ في الافتخار بها».