أفلام عن الإرهاب كما تراه عيون متقابلة

مشاهدات في مهرجان لندن السينمائي الدولي

TT

من المزايا العديدة لمهرجان لندن السينمائي الدولي الذي انتهى أخيرا، أنه يتيح الفرصة للمشاهدين في العاصمة البريطانية من شتى الفئات والجنسيات والأعراق التي تقطن هذه المدينة للإطلاع على حصيلة الإنتاج السينمائي خلال العام من خلال عشرات الأفلام الروائية الطويلة والتسجيلية والقصيرة وأفلام التجريب وغيرها، طوال أكثر من أسبوعين يحفلان عادة بأهم ما شهدته الساحة السينمائية العالمية من أعمال، سواء لكبار السينمائيين في العالم، أو للمواهب الجديدة الصاعدة التي يسلط المهرجان الأضواء عليها، بل ويساهم في اكتشاف بعضها أحيانا.

ولعل من الأفلام التي لفتت النظر بقوة هذا العام الفيلم البريطاني الجديد «ياسمين» Yasmin للمخرج كيني جلينان الذي عرف كممثل في السينما والتلفزيون وأخرج عددا من الأفلام القصيرة، قبل أن يخرج فيلمه الروائي الطويل الأول عام 2001. وفيلم «ياسمين» هو فيلمه الروائي الطويل الثاني. هذا الفيلم اجتمعت له كل العناصر الكفيلة بصنع فيلم سينمائي ناجح ومؤثر وجذاب. أولا: سيناريو مكتوب ببراعة، وشخصية رئيسية تتعامل مع شخصيات فرعية متعددة في المحيط، ونحن نرى الأشياء من خلال وجهة نظر هذه الشخصية الرئيسية وردود فعلها تجاه ما تعرض له ويتعرض له القريبون منها. وثانيا: دراسة جيدة موثقة للمادة التي يتناولها الفيلم والتي تدور حولها الدراما. وثالثا: إخراج واقعي لا يسعى إلى تحقيق الصدمة المفتعلة السطحية من خلال التدخل القسري في السرد بوسائل مصطنعة، بل يعرف صاحبه كيف يدفع المشهد في علاقته بالمشهد التالي، وكيف يحافظ على الإيقاع الخاص لكل مشهد وعلى الإيقاع العام للفيلم، كما يعرف متى ينتقل من لقطة إلى أخرى، وما يكتفي بالكشف عنه وما الذي يبقيه دون أن يكشفه للمشاهدين وإن ترك لهم مساحة للتخيل. والأهم من هذه العناصر كلها، الاختيار الدقيق والجريء لموضوع حساس وساخن ومثير للجدل وشديد المعاصرة.

* حيرة الجالية

* يتناول فيلم «ياسمين» علاقة الجالية الآسيوية الضخمة في بريطانيا بالمجتمع الذي تعيش فيه، والانعكاسات الهائلة لأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 على تلك الجالية، ويسعى من خلال ذلك إلى التعرض لجوانب شديدة التعقيد، تشغل أبناء وبنات الجالية المسلمة مثل موضوع الهوية والعلاقة مع الآخر، وكيفية تحقيق التلاقي مع المجتمع الجديد دون فقدان العلاقة مع التقاليد، وكيف يمكن أن يطغى الموروث على المستقبل ويصادر عليه ويجعل المرء أسيرا له يحد من حريته بل ويدفعه برغبة محمومة للتمرد وربما رفض الموروث كلية.

البطلة «ياسمين» فتاة شابة تمتلئ بالحياة والحيوية، تنتمي لأسرة من المهاجرين الباكستانيين، من الواضح انها ولدت في بريطانيا، أرغمتها أسرتها على الزواج من ابن عم لها هو أقرب إلى التخلف العقلي، بغرض أن يحصل على حق الإقامة. هذا الزوج شبه أمي، رث الثياب، كسول يرقد حتى الظهر، ويستيقظ لكي يعترض على خروج زوجته التي تعمل في احدى الوظائف العامة التابعة للبلدية. إلا أنه يصور لنفسه أحيانا أن له عليها حقوقا وأن عليه أن ينتزع تلك الحقوق بالقوة. وبعد أن تصده مرة بعد أخرى، يلجأ إلى استقدام عنزة إلى حديقة المنزل، يعتبرها صديقة له تماما كما كان يفعل في المروج في بلده الأصلي. غير أنه في الوقت نفسه، يرفض تطليق ياسمين التي تصر على الطلاق رغم رفض والدها القاطع فكرة التخلي عن ابن العم.

أما الأب، فهو شيخ طاعن محافظ، يرعى أسرته طبقا لمفهومه البطريركي، وهو في الوقت نفسه إمام للمسجد القريب، يشرف عليه ويرعاه ويرغم ابنه على حفظ القرآن وأداء الأذان في المسجد، بينما ينشغل الفتى ـ كما نرى ـ باللهو والعبث والمخدرات والاختلاط بالساقطات والحثالة.

ياسمين التي ترتدي ملابس تقليدية وتستر رأسها في المنزل وأمام أهل الحي، تتحرر تماما من هذا الزي وتكشف عن زي عصري في العمل فهي تريد أن تثبت لنفسها وللآخرين أنها تنتمي للمجتمع الذي تعيش فيه.

وبعد وقوع هجمات 11 سبتمبر تتغير حياة ياسمين والأسرة. تتعرض شأن كثير من فتيات الجالية المسلمة لاعتداءات من جانب بعض الشباب العنصري، المناقشات في الحانة التي تذهب إليها مع صديقها تكشف لها عن تلاشي الثقة وأجواء التشكك التي ولدتها الأحداث. قوات مكافحة الإرهاب تداهم منزل الأسرة بحثا عن مشبوهين وتعتقل زوج ياسمين المتخلف بدعوى أنه ينتمي لتنظيم إرهابي، وتسيء معاملة الجميع وخاصة الشيخ الطاعن في السن.

تكتشف ياسمين أن كل محاولاتها لتبديل هويتها لم تنجح في جعلها «بريطانية» في نظر البريطانيين، فهي تظل الفتاة الأخرى «المسلمة» أساسا، فتعود إلى ارتداء الملابس التقليدية، وتبدأ في التعاطف مع زوجها الضحية رغم إصرارها على الطلاق منه. تبذل كل جهد حتى تصل إليه في سجنه، وتتعرض في سبيل ذلك للمهانة والازدراء، لكنها تحصل في النهاية على الطلاق. ويعتنق شقيقها الشاب أفكارا متطرفة ويلتحق باحدى الجماعات المسلحة. وينتهي الفيلم بلقطة شديدة الدلالة نرى فيها الأب يدير شريطا مسجلا للأذان داخل المسجد، فقد ذهب المؤذن الشاب للالتحاق بما يسمى بفرق الجهاد في مكان ما خارج البلاد!

وربما كانت استعانة المخرج بممثلين غير محترفين من أبناء الجالية المسلمة الآسيوية فى بريطانيا ومزجهم مع الممثلين المحترفين، من العوامل التي جعلت هذا الفيلم يتمتع بالمصداقية والإقناع إضافة إلى تلك السيطرة المذهلة على الأداء، خصوصا الأداء المتميز لبطلة الفيلم الممثلة الموهوبة أرشي بانجابي، التي تتمتع بحضور لافت.

* «الشقيقان» من الدنمارك

* في اطار العلاقة بين الأوروبي و«الآخر» الذي ينتمي إلى عالمنا تحديدا وفي ضوء أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما يسمى بالحرب على الإرهاب، عرض المهرجان فيلما من الدنمارك هو فيلم «الشقيقان» Brothers للمخرجة المبدعة سوزان بيير (مواليد 1960 وأخرجت ثمانية أفلام روائية قبل هذا).

«الشقيقان» فيلم استثنائي في تاريخ السينما في الدنمارك، فهو أولا أكثر الأفلام الدنماركية احترافية، بمعنى أكثرها حبكة وتشويقا وسلاسة في السرد وقوة في التصوير والإخراج ومعاصرة في الموضوع، سواء بأفقه الموضوعي السياسي أو الشخصي العاطفي، وهو ما جعله أكثر الأفلام نجاحا في الدنمارك حيث شاهده أربعمائة ألف شخص أي بنسبة واحد على عشرة من عدد السكان، كما أنه أول فيلم دنماركي تقوم ببطولته الممثلة الدنماركية الشهيرة كوني نيلسن (تجيد سبع لغات وقامت ببطولة عدد كبير من الأفلام الأوروبية خارج بلدها).

هنا نحن أمام أسرة: زوج وزوجة (شديدة الفتنة والجمال) وطفلتان في عمر الزهور. الزوج يعمل في القوة الأوروبية لحفظ السلام التي تخدم في أفغانستان. شقيق الزوج على العكس منه، فوضوي سكير عاطل أي باختصار يكاد يكون عالة على أسرة شقيقه، بل إنه لا يحاول إخفاء رغبة قديمة متأججة في داخله تجاه زوجة شقيقه الجذابة. يتوجه الزوج إلى عمله في جبال أفغانستان وتتعرض قافلته لهجوم من المسلحين، وتعتقد السلطات الدنماركية أنه قتل، ويتم إبلاغ زوجته بالخبر الذي ينزل كالصاعقة عليها.. فقد كان لتوه معها بالأمس يحتفلان بعيد زواجهما وسط والديه وشقيقه. بالطبع تمر الزوجة بفترة انعدام وزن، يقترب خلالها منها كثيرا الشقيق الذي يحاول إثبات أنه رجل يمكن الاعتماد عليه. وبعد مضي وقت نعرف نحن أن الرجل نجا من الانفجار ووقع في قبضة المتمردين الذين ينتمون إلى طالبان، والذين يحتجزونه مع شخص غربي آخر، يحرمونه من الطعام والشراب إلا بالكاد ويحبسونه داخل كهف بدائي في منطقة جبلية.

وذات يوم يأتي زعيم المجموعة المسلحة (يتكلم كل أفرادها اللغة العربية إشارة إلى أنهم ممن يعرفون بالأفغان العرب) ويطلب من بطلنا أن يقتل زميله ضربا بعصا غليظة، وإلا كان عقابه الموت.

لحظة مروعة تنتاب الرجل خلالها شتى المشاعر، إلى أن تتغلب الرغبة فى الحياة أو غريزة حب البقاء مع المشاعر الهائلة التي يكنها لأسرته ورغبته الشديدة فى العودة إليها حيا، فيتناول العصا ويبدأ فى ضرب زميله المسكين بكل قوة إلى أن يقضي عليه. لقد تحول إذن إلى وحش. والمسؤول هم أولئك الوحوش الذين أعلنوا الحرب على الآخر.

وخلال هجوم للقوات الأميركية على المتمردين ينجو البطل من الأسر ويعود إلى زوجته التي تصيبها المفاجأة بالذهول. وتبدأ رحلة الشك: في الزوجة والشقيق وما قد يكون حدث أثناء غياب الزوج.. والإحساس الدفين بالذنب لدى الزوج مما جنته يداه، وعجزه في الوقت نفسه عن البوح بما فعل هناك في الجانب الآخر من العالم، ومحاولة الزوجة استعادة زوجها ومعرفة ما تعرض له.

ويحاول هو الاعتراف حتى لرئيسه فى العمل، لكنه يعجز، ويؤدي به شعوره المبرح بالذنب والعجز إلى المبالغة في القسوة على زوجته وابنتيه وشقيقه، وينتهي به الأمر إلى محاولة قتل زوجته وشقيقه مما يؤدي إلى القبض عليه والحكم بسجنه.

فيلم من هذا النوع ليس من السهل أن ينتهي بتقديم حل سعيد على الطريقة الأميركية التقليدية، بل كان لا بد أن ينتهي نهاية مفتوحة مليئة بالندوب والجروح التي لا يسهل مداواتها.

* معارك حب

* الفيلم اللبناني «معارك حب» للمخرجة دانييل عربيد جاء إلى لندن تسبقه السمعة الكبيرة التي حققها في عدد من المهرجانات وحصوله على بعض الجوائز وأهمها الجائزة الكبرى لمهرجان السينما الذي نظمه معهد العالم العربي في باريس. وسر الأهمية هنا لا يعود إلى مصداقية هذا المهرجان، فهناك شك كبير في مصداقيته لأسباب كثيرة ليس هنا مجالها، بل لأن لجنة التحكيم التي منحته الجائزة كانت تضم في عضويتها أسماء من وزن المخرج يسري نصر الله والروائي إلياس خوري والمخرج الواعي قاسم حول، وهم يعرفون دون شك كيف يفرقون بين الغث والسمين، بين الموهبة الحقيقية وادعاء الموهبة!

هذا الفيلم الذي تدور أحداثه عام 1983 خلال الحرب الأهلية اللبنانية، من خلال تفتح وعي فتاة مراهقة تدعى لينا على محيطها المتدهور: الخالة العجوز البشعة التي تسيء معاملة خادمتها الشابة سهام الصديقة الوحيدة للينا، والأب مدمن القمار الضائع الذي ينتهي قتيلا على أيدي صحبة الشر، والأم المغلوبة على أمرها التي يذيقها الزوج السكير الأمرين، والشاب المراهق الذي يبحث عن مهرب من الحرب بوهم الحب. هنا محاولة واضحة لإعادة تكرار تجربة فيلم «بيروت الغربية» للمخرج زياد دويري وحصد نجاحا مشابها لما حققه هذا الفيلم من نجاح، استنادا الى شيء من السيرة الذاتية للمخرجة (يفترض أن لينا هي المعادل الدرامي للمخرجة).. إلا أن المشكلة الرئيسية تتمثل في بدائية السرد وعدم احكام السيطرة على الايقاع في معظم المشاهد، والتفكك الكبير الذي يعاني منه الفيلم إلى جانب الترهل في البناء والتخبط في أسلوب الإخراج، والتركيز على أشياء قد تكون تركت تأثيرها على المخرجة في الواقع لكنها عند تضمينها في فيلم سينمائي قد لا تحمل بالنسبة لنا كمشاهدين نفس القيمة أو الأهمية والأثر. هناك كثير من الثرثرة وقليل من الاهتمام بالسرد بدعوى التحرر منه، وكثير من الافتعال (مشاهد ولقطات مغرقة في تصوير الجنس دون ضرورة)، وإطالة لا ضرورة لها فالكاميرا تحدق طويلا في وجه البطلة الصغيرة في لقطات تستغرق دهرا على الشاشة، وفشل تام في النهاية في تجسيد أجواء الحرب الأهلية بدعوى أن ما نراه هو ما شاهدته الفتاة وأنها بالتالي رؤية ذاتية. والموضوع عموما يصلح أن يتم تصويره في فيلم لا يزيد عن ثلاثين دقيقة، لكن في العالم العربي اليوم سينما تغرق بعمق مما يجعل الكثيرين يتشبثون بقشة!