دراسات نقدية وأعمال إبداعية لكاتب سوري اختار العزلة ..

سعاد مكرم *

TT

يضم كتاب «الحصاد» حسب العنوان الفرعي الحصيلة الأدبية للكاتب بديع بغدادي من دراسات نقدية في الرواية والشعر والمسرح والسينما، إلى إبداعاته في القصة القصيرة والمسرح. بديع بغدادي كاتب سوري معروف، أوقف نشاطه الأدبي قبل سنوات لأسباب حسب اعتقادنا تشمل الكثير من الأدباء، رغم مواصلة بعضهم الكتابة. فالروائي الراحل فارس زرزور اعتزل الناس وانصرف إلى الموت قبل موته بسنوات، مثله مثل بديع بغدادي الذي انصرف إلى العزلة، كلاهما تنقصهما المهارة في التدافع على الظهور، هذه الظاهرة التي باتت تسمم الوسط الأدبي العربي بمجمله.

من المؤسف أن هذا الكاتب الذي أسهم بنقد الرواية والمراجعات الشعرية والمسرحية، لم يرد له جيله ولا الأجيال التالية دينه للثقافة السورية، ولم يكتب عنه أحد بما يليق بتاريخه وعطاءاته، ولم يتعرض لدراسات أدبية نقدية جادة. وأكثر ما يتبدى هذا الإغفال في قصصه القصيرة (ولننظر مثلاً قصته الجميلة «عندما مات حسن جبل»، متابعاً من الواقع رواية صديقه فارس زرزور المعنونة بالاسم الحقيقي لبطل الرواية «حسن جبل»، عن الثورة السورية في عمل يعد أنموذجاً للرواية التاريخية التوثيقية المختلف عليها). أو في مسرحيته «صرخة المقابر المنسية» (هل هي الوحيدة؟!) كذلك أين نصوص دراماته الإذاعية (أليس هذا تقصيراً من واضع الكتاب؟).

إسهامات بديع بغدادي، تبدو الأوضح دلالة على العصر الذي عاشه، عصر النهوض القومي والثوري، فإذا كان قد فتح عينيه على الانتداب الفرنسي وشهد يافعاً خروج جيوشه من سورية، تلتهما بوارق الاستقلال الواعدة، والحراك الوطني والشعبي في الخمسينيات، والعدوان الثلاثي وانتصار السويس والوحدة السورية المصرية، فقد شهد بعدها ما لحق بالقضايا الكبرى من انكسارات، من الانفصال إلى حرب 67، وبعد حرب 73 مسلسل المفاوضات والتراجعات والمساومات. وإذا كانت هذه الهزائم قد أرسلت غيره إلى الانتحار، فقد أوصلت بديع بغدادي إلى الصمت.

يشكل «الحصاد» وثيقة بحد ذاته على التيارات والصراعات الأدبية في ذلك الوقت، بين التيار الصاعد للواقعية الاشتراكية وتيار الفن للفن، وتعكس مقالات بغدادي النقدية المناخ الأدبي على مدى أربعة عقود، فدراساته عن الرواية السورية (روايات فارس زرزور، إلفت الإدلبي، محمد إبراهيم العلي، وجان الكسان، بالإضافة إلى المصريين محفوظ والغيطاني) تشكل إرهاصات البحث في الرواية الاجتماعية التاريخية التي تهيمن عليها مفاهيم الواقعية الاشتراكية وفكرة الالتزام على الضد من الرواية الفرنسية الجديدة، وتعيدنا إلى المفاهيم السائدة والمناضلة في الستينيات. وقد تدهشنا اليوم مناقشات بغدادي لآراء آلان روب غرييه أحد أبرز كتاب الرواية الفرنسية التي يقول فيها «إن الفن لا يجب أن ينحدر إلى درجة يصبح فيها وسيلة لخدمة قضية أخرى غير قضية الفن نفسها، مهما كانت القضية عادلة أو مجيدة». فيعقب بغدادي على غرييه بـ «إنه لن يفعل شيئاً لهذا الكلام وللرواية التي تمثله إلا أن نلقي بهما إلى صناديق القمامة». انتقاداته الحادة لغرييه، أملاها عصر القضايا الكبرى وهبوب رياح التحرر على شعوب آسيا وأفريقيا. في ذلك الوقت، لم تكن هناك رواية بلا قضية.

أما مقالاته في الشعر، فما زالت محتفظة بحيويتها وراهنتيها. فهل هذا يعني أننا ما زلنا نراوح في المكان نفسه من دون إحراز أي تقدم وما زالت الكثير من قضايانا الأدبية من غير حل، فمن الشاعر والمهرج وموسيقى الشعر وقصيدة المديح وشعر الحب إلى حدود الأمانة التاريخية والعلاقة الجدلية بين النقد والشعر وقصيدة النثر بين الفوضى والولادة الإبداعية. كما أسهم بغدادي في النهضة المسرحية السورية، بالتعريف بالمسرح الروسي والاتجاهات المسرحية الجديدة، وبدراسات لمسرحيات إميل حبيبي وسعد الله ونوس. كان عاشقاً للمسرح وناقداً متحمساً إلى حد قوله: «كلما شاهدت مسرحية فاشلة، تحركت في أعماقي رغبة فوضوية بدائية، أمنية غربية، وهي أن يمنح الجمهور حقاً مقدساً يمارسه في تلك الحالات، وهذا الحق المقدس الذي أقصده هو أن يقذف الجمهور المفجوع الممثلين والمخرج بالبندورة والبيض جزاء وفاقاً لما قدمت أيديهم في تلك الليلة المشؤومة».

كنا نتمنى أن يكون «الحصاد» حصاداً فعلياً لجهد بديع بغدادي الأدبي، فما زال الكثير من دراساته النقدية متناثراً في الدوريات السورية، وهذا ما يجعلنا نشكك في أن ما نشر من قصصه القصيرة يعد الحصيلة النهائية، عدا أن الكتاب لم يحتو على نص واحد من نصوصه الإذاعية ! كذلك يبقى تساؤلنا عن مسرحيته المنشورة «هل مثلت على المسرح؟». كما أغفل الناشر، دار «الرائي» ذكر تاريخ ومكان نشر أعمال بغدادي.

* كاتبة سورية