كتاب منفيون يبحثون عن حرية الكتابة

الناقد البلغاري تودوروف في باريس ود. هـ. لورانس يهجو المجتمع البريطاني من منفاه الاختياري

TT

حسونة المصباحي يتحدث الناقد المعروف تزيفتان تودوروف المولود في بلغاريا عام 1933 عن سنوات شبابه قائلا: «كانت عائلتي تسكن صوفيا حيث كان والدي الذي لم يكن قد اصبح بعد استاذا في الجامعة يدير المكتبة الوطنية، اما بالنسبة لي انا فحتى سن الثانية عشرة كنت ضمن تلك المنظمات ذات النزعة السياسية التي تقوم بتأطير الاطفال خلال الدراسة. كان ابي يساريا غير انه لم ينتسب ابدا الى اي حزب يساري. عشية الحرب الكونية الثانية اصبح شيوعيا، ولكن عندما بدأت عمليات القمع ضد الشيوعيين عام 1948، اصبح يلاقي صعوبات ويعرف قلاقل. اذ فقد منصبه ثم فصل من الحزب في العام التالي. وهنا انفتحت امامي مرحلة من التغيرات والتحولات. ولم يعد الخطاب العائلي يقنعني. وعندما كان ابي يقضي الليالي وهو ينصت الى اذاعة «صوت اميركا» كبرت انا بعيدا عن الشيوعية، وكان قد تم ابتعادي عنها بصفة تدريجية، دون ان اظهر ميلا نحوها، بل اقدر ان اقول اني كنت ابدي نوعا من اللامبالاة تجاه دعاية النظام. وعلينا ان نتذكر الدرجة التي كان عليها خضوع العقول لكي نفهم معنى هذا الوهن. وقد كان ستالين يبدو لنا عند وفاته شبيها بفرعون، وفي يومياتي، كتبت في 6 اذار (مارس) 1953 اقول، وكنت عندئذ في سن الرابعة عشرة «بالتأكيد ستنفجر الحرب!» ذلك اني كنت اعتقد ان السلام الذي تتمتع به بلادي عائد بالدرجة الاولى الى ستالين»! ويتحدث تودوروف عن خروجه من بلغاريا قائلا «لم اخرج من بلدي مثلما فعل صديق لي قطع الحدود سرا فوق قطار يقوم بالرحلة بين براغ وفيينا، وانما فعلت ذلك بطريقة شرعية. وكان هدفي هو اكمال تعليمي. فبعد الجامعة كان من حقي ان امضي عاما في اوروبا كما كنا نقول بالنسبة للمنطقة التي تبدأ بعد فيينا. وقد اخترت ان اجيء الى باريس التي كنت اعرفها من خلال لوحات الانطباعيين اساسا، وايضا من خلال اغاني اديث بياف وايف مونتان وصور اخذت لها في الضباب. وعندما قلت لصديق ان هواء باريس ملوث صاح بي: «انت مجنون! في باريس نحن نتنفس افضل هواء في العالم!» وفي البداية رفضت السلطات منحي جواز سفر غير ان استاذا في الجامعة تدخل لفائدتي. وهكذا حلت المشكلة. ولا بد ان اقول ان السفر خارج البلاد كان حلم الشباب، خصوصا المغرمين منهم بالموسيقى والرقص على الطريقة الغربية، وكانت الثقافة الغربية تجذبنا اليها بقوة لا مثيل لها تماما مثلما تجذب الزهور النحل! وكان حلمنا ان نسافر على الاقل الى تركيا او الى اليونان. كان ذلك في وقت بدأنا نكتشف فيه «الروك» و«التويست» من خلال الاذاعات العالمية. كنا نريد ان نذهب بعيدا هروبا من الموانع والمحرمات. وكان للسفر مذاق الثمرة المحرمة. بهذه العقلية غادرت صوفيا في قطار الشرق السريع الذي يمر بفيينا وميلانو وبمدن اخرى لها اسماء بديعة، وصلت الى باريس صباح يوم بارد من ايام ابريل (نيسان) حيث كانت تنتظرني حياة اخرى».

ويرى تودوروف ان المنزلة الخاصة التي يتمتع بها الفنانون والعلماء في بلغاريا افضت الى تجارب مذهلة قبل انهيار النظام الشيوعي فيها. وكمثال على ذلك يتحدث عن الشاعرة بلاجا ديميتروفا ويقول «كانت هذه الشاعرة رمزا للفن المنسق. وكانت للبلغاريين بمثابة فاتيسلاف هافل بالنسبة للتشيكيين وبالرغم من انها انتسبت الى المقاومة وابدت بطولات رائعة خلال الحرب العالمية الثانية فان النظام كان يضطهدها، ويسلط عليها انواعا مختلفة من القمع غير انه لم يكن باستطاعته ان يدخلها الى السجن.

وعندما كانت تتمكن من اصدار ديوان شعري كانت الصفوف تكثر امام المكتبات. وفي يوم واحد تنتهي الـ 20000 نسخة التي طبعتها. وهذا حدث ايضا مع رسائل كافكا الى فيليبس، وهذه خاصية من خاصيات صوفيا التي لا تدل على عداء للشيوعية وانما على رغبة في التنفس وفي معرفة عالم آخر. كنا نقرأ اشعار ديميتروفا لكي نهرب من دعاية النظام وعند عودتي الى بلغاريا في خريف 2000، التقيت بهذه السيدة العظيمة التي احبها كثيرا فقالت لي «لقد امضيت 45 عاما في النضال ضد النظام الذي كان يحرمنا من حرياتنا. وقد نجحنا في ذلك وسقط الجدار. والآن، عندما اصبحت شخصية محتفى بها ومعترفا بمكانتها، انشر كل ما اريد غير ان الناشر لا يبيع اكثر من 500 نسخة!! هل من اجل هذا ناضلت؟!».

د. هـ. لورانس من خلال رسائله الكاتب البريطاني د. هـ. لورانس شخصية محيرة ومليئة بالتناقضات وكثيرا ما جلب لنفسه مشاكل وازمات بسبب مواقفه وآرائه وكتاباته الفضائحية منها بالخصوص. غير ان قراءة رسائله، تكشف عن جوانب مهمة من شخصية هذا الكاتب المرموق الذي ولد في 11 سبتمبر (ايلول) 1885 وتوفي في فرنسا بمرض السل بعد ذلك باربع واربعين سنة. وقد بدأ د. هـ لورانس حياة ترحال متواصلة منذ عام 1917 غير ان ذلك لم يعقه عن الكتابة في اي مكان يحل به. وفي رسائله لا يتوقف عن القول انه يمقت الانسانية، ويمقت القومية التي اليها ينتمي، وايضا، الشعب والمجتمع، حتى انه يشعر بـ «الجنون» حين يفكر فيهما. وفي رسالة بعث بها الى برتراند راسل بتاريخ 12 فبراير (شباط) 1915 كتب يقول «علينا ان نتخلص من المشكلة الاقتصادية (...)، لا بد من ثورة داخل الدولة. مستقبلا سوف يحصل المرء على راتبه مريضا كان ام غير مريض (...) جميع مثلنا لن تكون غير غش ونفاق طالما لم نقم بتحطيم مثل هذه القيود». احيانا هو يهتم بوصف المشاهد الطبيعية في البلدان التي يمر بها وحتى في انجلترا. وفي رسالة بعث بها الى احد اصدقائه بتاريخ 1 فبراير (شباط) 1916 كتب يقول «الساحل الانجليزي جد بدائي هذه الاحجار الثقيلة كما لو انها العتمة التي تحولت الى كتلة معدنية وهذه المياه الثقيلة هي ايضا مثل غروب يتكسر على هذه الصخور غير انه لا يحدث فيها اي تغيير».

ومع جيمس جويس، كان د. هـ لورانس يتصرف كما لو انه عدوه الالد. وقد تهجم بشدة على «يقظة فيتيجان»، معتبرا اياها «حساء رديئا يثير الاشمئزاز والنفور» بل انه ذهب الى حد القول بان جيمس جويس ليس كاتبا وانما صحافي من الصنف الرديء! وعن الرواية التي ستثير عاصفة في بلاده، والتي سوف تظل ممنوعة على مدى سنوات طويلة، وهي «عشيق الليدي شانزلي» كتب د. هـ. لورانس يقول «ما زلت اواصل كتابة هذه الرواية وما زال هدفي هو اعطاء العلاقة الجنسية كل قيمتها في حين انها علاقة مخجلة. في هذه الرواية، ذهبت الى الابعد. وانا اجدها جميلة، وهشة مثل الأنا في عريها».

كتابات برتولد برخت عن المسرح في طفولته كان برتولد برخت الذي ولد في مدينة اوجسبورج، جنوب المانيا، في 10 فبراير (شباط) 1898 والذي ينتمي الى عائلة مرفهة يميل الى بسطاء الناس، ويحب الاختلاط بهم، وكان يعشق التجارة وعن ذلك كتب يقول «يعجبني العمل على الخشب، اليوم نحن لا نجد عندنا خشب الابنوس، ولا تلك الكراسي والطاولات الجميلة التي كان يملكها اجدادنا، والتي كان مجرد النظر اليها يجلب لنا المتعة والفرح»! في الخامسة عشرة كتب برتولد برخت اولى مسرحياته وكانت بعنوان «الانجيل» ذلك انه كان قد قرأ هذا الكتاب العديد من المرات حتى انه اصبح من احب الكتب الى نفسه. غير ان مسرحية «بعل» التي كتبها وهو في سن العشرين تمثل بالنسبة للعديد من النقاد البداية الحقيقية. وقد استوحى برخت موضوع هذه المسرحية من مسرحية اخرى لكاتب الماني اخر يدعى هانس يوهت اصبح مجهولا الآن كما انه استغل فيها كثيرا المقاطع المثيرة في حياة كل من بول فرلين وارتور رامبو. وبعل، الشخصية المحورية في المسرحية المذكورة، يعمل ميكانيكيا وعندما يفقد عمله يصبح مغنيا في الكاباريهات، وعاشقا عنيفا وفظ القلب. وتنتهي المسرحية بقتل بعل لواحد من اقرب الاصدقاء الى قلبه. ومن خلال حياة هذا الرجل نتعرف على حياة الجيل الالماني في العشرينات من القرن الماضي. فهو جيل يميل الى الكحول والى الجريمة ويعلن بصوت عال عداءه للمجتمع الذي اليه ينتمي غير انه ينتهي وقد فقد كل شيء، بما في ذلك هويته.

بعد تسلم النازيين للسلطة، عاش برخت ترحالا طويلا قاده الى كل من الدنمارك وفرنسا والى ما كان يسمى سابقا بالاتحاد السوفياتي وفي النهاية قرر الاستقرار في الولايات المتحدة الاميركية التي ظل فيها حتى عام 1946. وقد كتب يقول: «اميركا انها من اكتشاف كافكا. انا على يقين بانه لم توجد ابدا اميركا مثل تلك التي اخترعها كافكا غير ان الناس بدأوا يتقبلونها، واخذت هي توجد وعليها مسحة كافكاوية». ذات يوم التقى برتولد برخت كلاوس مان في نيويورك وبعد ان جلسا في احد المقاهي مصحوبين بألماني اخر يدعى فريدريك بروكوش، سأل كلاوس مان برخت ما هي افضل مسرحية كتبتها؟ (...) «بعل» اجاب برخت دون اي تردد.

وكان برخت يعشق شكسبير وعنه كتب يقول «شكسبير ليس بحاجة الى ان يفكر كما انه ليس بحاجة الى ان يبني. بالنسبة له المتفرج هو الذي يبني. في فوضى فصول مسرحياته. نحن نتعرف على الفوضى التي تهيمن على الحياة البشرية كما يرويها رجل ليست لديه مصلحة في ان يخضع هذه الحياة لنظام معين».

د. هـ. لورانس: اشعر بالجنون حين افكر في القومية والشعب والمجتمع