رجل الكلمات المنحازة

المجلس الأعلى للثقافة بمصر يحتفل بمئوية الشاعر نيرودا

TT

بمناسبة مرور مائة عام على ميلاد الشاعر بابلو نيرودا أقام المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة بالتعاون مع وزارة الثقافة الاسبانية والمعهد المصري في مدريد مؤتمرا في الفترة من 23 الى 25 نوفمبر الماضي.

وأشار الدكتور جابر عصفور أمين عام المجلس في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الى أن المجلس الأعلى للثقافة يحتفل بنيرودا بوصفه شاعرا عظيما انسانيا، مات من أجل المبدأ الذي انطوى عليه وفي سبيل الحق والجمال، وفي سبيل ما تمثله هذه الكلمات فقد كان نيرودا في رأيه رافضا للظلم، وعرف مرارة السجن ومرارة المنفى، ومات على يد مجموعة من السفاحين.

وقال عصفور: أظننا من شعوب العالم التي يخاطبها نيرودا في قصائده، ويعلن انتماءه لها، ونحن بدورنا نعلن انتماءنا له، وانتماءنا للشعر الذي تجسد فيه وبوصفه تجسيدا للشعر المقاوم الذي يتبنى مواقف انسانية عظيمة، ويشمل انتماءنا له بوصفه شاعرا غاص في تراثه المحلي وذلك الى الدرجة التي جعلته يعثر على الجذر الانساني الذي يربطنا به والعكس، ويشمل انتماءنا إليه، اننا نعيش في عالم يشبه العالم الذي عاش فيه الى حد كبير، وهو ـ على حد تعبيره ـ عالم محاصر بقوى الاستعمار الخارجي والفساد الداخلي.

وأضاف عصفور: وأذكر عندما قرأت خبر اغتيال نيرودا في وطنه انني ربطت على الفور بين قصائده التي هجا فيه نيكسون بوصفه رمزا للاستعمار الاميركي، وبين مؤامرة اغتياله، فقد كان الصوت المناضل الذي يجسد احلام وطنه الصغير ووطنه الانساني الكبير، وكان لا بد أن يخمد بأقسي وأقصى المعاني ليكون عبرة لكل شعراء العالم الذين لا يريدون ان يعتبروا، ولكل احرار العالم الذين يرفضون الخنوع ويصرون على المقاومة.

وأشارت الناقدة روسيا أوفيدو، التي ألقت كلمة الضيوف الأجانب، في كلمتها الى أهمية شعر نيرودا إنسانيا وتركيزه على كل التفاصيل الدقيقة واهتمامه بالحواس وتنوعه الكبير في عدة مجالات.

وقالت اوفيدو انه لا يوجد دليل على عالمية نيرودا اكبر من أنه اثر في كل الثقافات وانه ظل موجودا مع كل الخيارات كما ان نيرودا كان مهتما بالثقافة العربية، وهو ما انعكس في روحه الشعرية، كما كان يحب مصر بوجه خاص.

وقال انطونيو ميليس: ان بابلو نيرودا قدم الشعر السياسي بشكل نموذجي لفترة غير قصيرة، ولهذا السبب أصبح في قلب جدليات عنيفة ارتبطت أيضا بالأحداث العالمية في ذلك الوقت، مشيرا الى أن الجدل حول هذا الأمر في أعماله قد تجاوز كونه حالة فردية فامتد ليشمل منهج الشعر السياسي فذهب بعض النقاد الى رفض إمكان ترجمة المشاعر السياسية داخل إطار شعري، وبذلك يكونون قد دخلوا في تناقض مع تجارب ادبية عظيمة ماضية وعلى سبيل المثال لا الحصر هناك «الكوميديا الإلهية» لدانتي اليجيري التي لا يتضح لها معنى دون الإشارة الدائمة الى الموضوعات السياسية الفلورنسية والعالمية، لافتا الى انه في حالة عدم قبول هذه الفكرة المتناهية البساطة تصبح المشكلة الأساسية هي بحث النتائج المحددة التي يتوصل إليها الشاعر الشيلي بنتاجه الشعري المستوحى من المعارك السياسية والاجتماعية.

وأوضح الناقد بدر توفيق ان الهوس بالزمنية ثابتة حقيقية في بويطيقا نيرودا، ومن الممكن التأكيد على انه لو أن هنالك عنصرا موحدا لنتاجه الشعري لكان ذلك الهوس بالزمنية، وعلى الرغم من أن لهذه القضية سوابق في أعماله الشعرية الأولى إلا أنها بلغت ذروة اكتمالها في «الاقامة في الارض» وفي قفزة زمنية كبرى نحو مرحلة النضج هناك، نجد الرغبة في التذكر مكونا أساسيا حيث يشمل دورة شعرية مهمة حقا، وان لم تكن متصلة، تبدأ من استراباجاريو وتمر بأغان طقوسية وسلطة كاملة لتكمل تطورها بارادة ابداعية تامة في مذكرات ايسلانجرا. ويقابل هذا المنظور الرؤية التاريخية المهيمنة وان لم تكن الوحيدة على النشيد العام والكرمة والربح، وبشكل اوسع في «الاغاني الاولية» التي بدأ في نشرها عام 1954، لافتا إلى أن «استراباجاريو» كان من أهم الدواوين التي حازت اهتمام النقاد على نحو متصل لما تحمله اشعاره من نبرة جمالية وساخرة بل ودعابية، فهو نص يتحاور بشكل رائع مع شعر ما هو يومي، ويذكر أحد مناحي كتابته الحاضر في قصائد «الاقامة في الارض» لكنه في الوقت نفسه يمثل خيارا شخصيا من حيث تتجاوز الشفرات الاخلاقية، والأكثر تمثيلا والناشطة، في كتبه السابقة.

وقد تأثر ديوان «استراباجاريو» ـ كما اشار خايمي كونشا ـ بالنظم شبه الموسوعي لتلك المرحلة، آخذا ثلاثة من مظاهره الجوهرية وهي منهج التبسيط، وهو شبه ايديولوجي والرغبة في السلام والبحث الملح في الشكل عن شفافية الكلمة التي تتعارض مع التكثيف الشديد الإحكام في أعماله السابقة. وهو كما وصفه نيرودا بأنه «حالته المعتمة» وذلك في اتجاهه الذي يميل نحو النقد الذاتي الواضح، لافتا إلى أن نفس الديوان يحتل مكانة وسطى في تقويم السيرة الذاتية لنيرودا حيث يبدأ بصور ثابتة واضحة، كما انه يقوم على موضوع «ما هو يومي» فالموضوع ينبعث مع أول صفحات الكتاب وتكتسب على التوالي سلسلة القصائد حجما يعكس بالطبع ويبرز أهميته الوصفية، فخاتة القصيدة الافتتاحية (قصيدة الأغنية الأولى) تشير بوضوح إلى الأفق الزمني للصباح.

وقالت اورسيا روديجس في دراسة بعنوان «نيرودا: الاستفهام تعبيرا شعريا عن الحيرة» قدمتها للمؤتمر ان أي قراءة لشعر نيرودا وان كانت مجرد قراءة سطحية تبرز موقف التساؤل الدائم الذي يواجه به الشاعر العالم والحقيقة الخارجية وحقيقته هو، هذه الحالة تولدت مع شعره الذي ارتبط ارتباطا وثيقا بالفضول الابتهاجي الذي يجعل الطفل، وان لم يصبح بعد شاعرا، يتوغل بعمق في خفايا غابات شيلي لكي يكتشف بإعجاب أسرارها، لذا ففي ديوانه «طفولة وشعر» يقول «كنت في نحو العاشرة من عمري ولكنني كنت قد أصبحت شاعرا. لم أكن أكتب الشعر بيد أن العصافير والخنافس وبيض الحجلان كانت تجتذبني». وهو الانجذاب الذي يصرح به الشاعر للطبيعة في فترة طفولته، ولن يختفي ابدا من شعره بل يتحول الى شفرة تفسيرية لأعماله.

ولو ان هذا الاستفهام النيرودي هو تعبير عن حيرة تعجبية أمام طبيعة أرضه، فان روح الطفولة الاستقصائية لهذا الكاتب تكتسب عدة اسقاطات في شعر كان منذ بداياته يلتمس الشمول فيما هو دائما يتساءل حول أوجه الحقيقة المختلفة، ولا ننسب هنا لشعر نيرودا وظيفة معرفية، أو فلسفية، على الرغم من تطابق هذه الوظيفة برغبة الشاعر لمعرفة ماهية الأشياء، أو نخصه بفضول أولي يدفع الى الاستفهام بيد أن في هذه الحالة تعبيرا استعاريا فنيا للحقيقة التي تتخلق في الخيال الشاعري الغنائي.

وقال لويس ساينس دي ميدرانو انه بعد ديوان «نهاية العالم» لنيرودا (1969) الذي تملأه الارتيابية، اتجه إبداعه إلى منحنى يزخر بالأمل وذلك في «السيف المشتعل» 1970 الذي جاء لينتقد العلاقة الغائبة بين الاسطورة والملحمة، فقد استند بشكل اساسي الى سفر التكوين في الكتاب المقدس، وكتاب خوليو بيكونيا تيفونتس «أساطير وخرافات من شيلي» (1919) الذي يروي فيه اسطورة مدينة القياصرة التي يفترض وجودها في منطقة الانديز جنوب البلاد، واستند كذلك الى بعض ما كتب ويليام بلاك، ومارسيل شووب غير ان كل هذا ـ في رأيه ـ لا يعني شيئا دون وجود ولع شخصي شديد لدى الشاعر الذي يراهن من جديد على الانسانية ومستقبلها في تردد مستمر بين الموت والميلاد من جديد.