ما الذي لا يعجبك في نجيب محفوظ؟ شهادات من المغرب ولبنان

تجربة إنسانية وروائية .. فيها الكثير من المد والجزر

TT

اثار الملف الذي نشرته «الشرق الاوسط» يوم السبت الماضي بمناسبة الذكرى الثالثة والتسعين لنجيب محفوظ وكان بعنوان «ما الذي لا تحبه في نجيب محفوظ» انتباه عدد من الكتاب والفنانين التشكيليين في المغرب ولبنان، فارادوا ان يشاركوا في هذه المناسبة بشهادات تنطلق من تأكيد ريادة الاديب في مجال الرواية العربية، وهو المنطلق نفسه الذي حدا بـ«الشرق الاوسط» الى ان تكون تحيتها لنجيب محفوظ في عيد ميلاده بمقاربة غير تقليدية لمنجزه الادبي الثرّ.

يقول الكاتب المغربي مبارك ربيع: كيف يمكن الحديث عن جانب سلبي في كاتب عربي عالمي رائد، او على الاصح كيف يمكن الحديث بسلبية في هذا الموضوع وهل يتعلق الامر بتمرين نثري على الهجاء؟

الا يعتبر السؤال، والسير بهذا الاتجاه برمته سباحة ضد التيار، وبالتالي يكون الموقف كله مصطنعا؟

يراودني الكثير من ذلك. ولكن لابأس من ممارسة تمرين من هذا النوع ما دام مطلوبا في مناسبة ما، فقد يؤدي الى كشف واكتشاف، ان لم يكن في شخصية نجيب محفوظ وفكره وفنه، ففي جوانب اخرى من انعكاس صورته لدى الاخرين، وهو على كل حال ليس مسؤولا عنها، الا بقدر ما يكون اي شخص بمثل مكانته في اي من مجالات الحياة، مسؤولا عن نظرة الاخرين اليه.

ومهما يكن من امر، فإن الاكبار والتقدير الذي نكنه لكاتبنا العربي الكبير، الاستاذ نجيب محفوظ، لا يحتمل ان يكون حديثا عنه (حتى في التمارين الهجائية المصطنعة) الا تحية مودة، واماني صادقة بكل خير، بمناسبة العام الجديد.

ربما ابادر بما لم يعجبني في نجيب محفوظ، في فترة من قراءتي وتكويني في منتصف القرن الماضي، وهو ما جعلني اتعرف عليه واكتشفه متأخرا، ذلك ان تلك الفترة بالنسبة لي كانت غنية بالقراءات، بما فيها الادبية والسردية على وجه الخصوص، وكنت منهمكا في الواقعية الاجتماعية الفرنسية، والاشتراكية الروسية (والسوفياتية)، علاوة على الانسانية الملحمية لدى طليعة الفن الروائي الاميركي الشمالي والجنوبي، مع الرواية العربية لدى الكثير من البارزين في ذلك الوقت بدون استثناء ما عدا نجيب محفوظ! لماذا؟

وهذا بيت القصيد كما يقال، اذ انني تكونت لدي رؤية عن نمط من الكتابة الروائية يمثلها كاتبان في رأيي اذ ذاك، وقد يكون بعض من تلك الرؤية ما يزال عالقا بتصوري، وأعني بذلك المرحومان احسان عبد القدوس، ويوسف السباعي، اذ قرأتهما في البداية ثم صنفتهما حسب تصوري، بما لا يلائم توجهاتي، وكان مما يزيدني اقتناعا او اصرارا على الرأي، تلك الحلة البهية القشيبة التي تخرج بها مؤلفات الاديبين المذكورين، مع لوحات على الغلاف كانت تبدو لي باذخة ومخملية الى حد بعيد.

ورغم انني تعرفت فيما بعد، وبصفة شخصية على المرحوم يوسف السباعي، وتعاملت معه لفترة في منتديات ادبية، وضمن مسؤوليته في اتحاد الكتاب المصريين، والاتحاد الافرو ـ اسيوي اذ ذاك، من جهة، ومسؤوليتي في اتحاد كتاب المغرب، من جهة اخرى، ومع اكتشافي لجوانب شخصية وانسانية فيه، فان موقفي من رؤيته للكتابة لم يتغير، لدرجة انني ظللت اعتقد انه عندما عمد الى اكمال عمل سردي لاحد المتوفين من اقربائه بنفس الاسم العائلي ـ قد يكون والده ـ انما انحرف بسير الرؤية السردية في ذلك العمل الى ما يلائمه، ولا اوافق عليه.

واين نجيب محفوظ من كل هذا؟ لا ادري كيف ترسخ في ذهني، انه في كتابته لا يخرج (لن يخرج) عن رؤية كل من يوسف السباعي واحسان عبد القدوس، وبالتالي لم ابذل اية محاولة لقراءته اذ ذاك، خاصة ان له وفرة في الانتاج مثلهما، واخراجا وطباعة للكتاب بدت قريبة مما تصدر به رواياتهما.. وهكذا تأخر اتصالي بنجيب محفوظ الى الستينيات من ذلك القرن.

يبدو في هذا بعض بل كثير من التجني على نجيب محفوظ، اذ هو في موقعه ما كان ليعبأ بما دخل في اعتباري بدون قراءة فعلية لما يكتب، لكن بعد تعرفي على تجربته وقراءة الكثير من انتاجه اقتنعت بأن فرصة فنية هامة ضاعت مني، وتأخر عني لقاؤها. واذا كانت كتابة نجيب محفوظ تعجبني بشكل عام، وخاصة في النماذج الفلسفية والرمزية من جوانب كتابته، فيمكن القول انني لا ارتاح له في مواقفه السياسية المعلنة في بعض القضايا، لا المعبر عنها روائيا، ولكنني اعود لاجدني في مركب التجني من جديد، اذ بأي حق اصادر رأيه السياسي، اليس هو مثلي على الاقل، مواطن مجتمع وعالم، ومسؤول بما هو فيه من مواطنة عالم مجتمع؟

لم يبق الا التحية، وكل التحية لنجيب محفوظ اديبا.. اولا، وانسانا.. اولا، كذلك.

* تجربة بعيدة عن الكتمان

* ومن المغرب ايضا يقول الكاتب عبد الرحيم العلام: من الصعوبة بما كان أن نتحدث عن ما قد لا يعجبنا في شخصية كاتب كبير من طينة نجيب محفوظ. فما يعجبنا فيه، ككاتب ومواقف وتجربة حياتية وكتابية، يكاد يغطي على كل ما قد يتبدى لنا نحن أنه موقف مضاد من هذا الكاتب أو انتقاد لجوانب من تجربته في الكتابة وقد اكتملت، كما تعرضت للكثير من الانتقاد، ومن تجربته في الحياة وهي ممتدة، أطال الله له في عمره. لكن ليس معنى ذلك أن هذه التجربة تكتسي طابعا مثاليا، بل لأنها تجربة لم نحس نحن في يوم من الأيام أن نجيب محفوظ قد أخضعها للتقية والكتمان، بالرغم مما قد يقال عنها بكونها تجربة عرفت، كغيرها من التجارب الإنسانية، الكثير من المد والجزر، كما عرفت بعض التراجع أيضا، وخصوصا فيما يتعلق بتجربته الروائية في نصوصها الأخيرة.

فمن بين ما يعرف عن نجيب محفوظ كونه من بين أكثر أدباء العربية جرأة ووضوحا في الرأي وفي الموقف.. لذا، فمن الصعوبة اليوم أن نتحدث عن أشياء قد لا تعجبنا في شخصيته وفي تجربته الإبداعية. وفي هذه الحالة، يصبح من الأجدر، هنا، أن نتحدث عن «الإعجاب» في حالة «الإيجاب» وعن «المرتجى» في حالة «السلب»، من منطلق الغيرة على كاتبنا وعلى تجربته في الحياة وفي الكتابة.

من ثم، فما كنت أرجوه شخصيا من نجيب محفوظ هو ألا يفتت سيرته الذاتية في استجوابات صحافية وإذاعية وتلفزية، متفرقة هنا وهناك، بحيث لم يكتب للكثير منها أن يقاوم النسيان وتبدل الزمان، كما لم يتمكن الكثير منها أيضا من تحقيق امتداده وتأثيره في الأزمنة وفي الأجيال، بالرغم من شعورنا القبلي بالأهمية المرجعية لـ«الحوارات» و«الاستجوابات» عموما. فلما حدث أن فكر نجيب محفوظ في كتابة سيرته الذاتية جاءت بمثابة «أصداء السيرة الذاتية» وشذرات صوفية متفرقة، في حين أن تجربته العامة، بما تميزت به من ثراء وعمق، وبما واكبته من محطات أساسية في تاريخ الثقافة والأدب العربيين، وبما خاضته من صراعات آيديولوجية وفكرية وسياسية، وما عايشته من تحولات وتطورات مهمة في تاريخ المجتمع المصري تحديدا وفي الوجدان العربي بشكل عام، كان الأجدر بذلك بنجيب محفوظ أن يضمن لسيرته «الخلود» و«الانتشار» و«التأثير» المرتجى في مؤلف من حجم تجربته الإنسانية الاستثنائية.. لقد كان نجيب محفوظ يتدثر دائما وراء ذلك الغياب بقوله إنه لا يستطيع كتابة سيرته الذاتية بشكل موضوعي، لاعتبارات ذاتية واجتماعية وسياسية.. لكن ذلك قد لا يشفع لكاتب من طينة صاحب نوبل أن يتخفى وراء تعلات «أخلاقية»، قد لا تخلو من خطورة في مرحلة سابقة، لكن إذا ما قسنا ذلك بما كتبه وقاله نجيب محفوظ بشجاعة نادرة عن جمال عبد الناصر والسادات، عدا موقفه من مسألة السلام مع إسرائيل آنذاك، قد يفوق بكثير ما كان يخشاه نجيب محفوظ من جراء كتابته لسيرته الذاتية.

ما كنت أتمناه أيضا من نجيب محفوظ هو ألا يطلق كتابته لـ«الرواية التاريخية»، بالمعنى الصرف لهذا الاصطلاح، وإن كانت العديد من رواياته اللاحقة لنصوصه التاريخية الأولى تستوحي بدورها جوانب ومحطات أساسية من التاريخ المصري الحديث، في الكثير من تجلياته وصوره المؤثرة. لذا، فمن شأن ابتعاد نجيب محفوظ عن كتابة الرواية التاريخية أن يكون قد ترك بعض الفراغات في رواياته الكبرى، وخصوصا ما يتعلق منها بأحداث ثورتي 1919 و1952.

وبقدر ما تتميز به شخصية نجيب محفوظ من تسامح، حتى مع خصومه ومع من أساءوا إليه، فذلك لم يكن ليبرر تساهله مع بعض السينمائيين الذين تعامل معهم، أمام ما قدمه لبعضهم من تنازلات قد تكون أساءت لإبداعه الروائي وللسيناريوهات التي كتبها خصيصا للسينما. كما أن تطليقه لكتابة السيناريو، في مرحلة متقدمة، جعل المشهد السينمائي العربي عموما يفقد بذلك واحدا من أهم كتاب السيناريو السينمائي.

وما كنت أتمناه أيضا هو أن يستمر نجيب محفوظ في دراسة الفلسفة إلى جانب كتابته للرواية. فكلنا يعرف أهمية الفلسفة بالنسبة لكتابة الرواية، وكلنا لا يعرف ماذا كانت ستؤول إليه الكتابة الروائية عند نجيب محفوظ لو استمر في دراسة الفلسفة، هاته التي كان يعتبرها طريقا سهلا أمام الرواية التي كان يجدها طريقا صعبا، دون أن ننسى أن بعض رواياته المهمة قد استفادت كثيرا من ثقافته الفلسفية. وكلنا يعرف كذلك موقف نجيب محفوظ من السفر خارج مصر.. لكن ما قد لا نجد له تبريرا ربما هو أن الريف المصري لم يستفد من تجربته الإبداعية الطويلة مع رواية المدينة تحديدا. فقد ظل المجتمع الريفي مغيبا من الفضاء الأدبي العام لنجيب محفوظ، أمام ما قدمه للمجتمع المديني في مصر من اهتمام لافت وما خصه به من تفكير متجدد.

وبعد، أنعتبر ذلك بعضا مما قد لا يعجبنا في نجيب محفوظ، أم هو الإعجاب ذاته بكاتب وبتجربة ما فتئنا نرسم لها نحن في ذهننا صورة الاكتمال في زمن قلت فيه الأشياء التي قد تعجبنا في المثقف العربي بشكل عام، فما بالك بما قد لا يعجبنا فيه.. لكن قبل هذا وذاك، ألا نتدخل بذلك نحن في بعض ما قد يمس من حرية الإبداع والمبدع؟

* طغيان الزمان والمكان

* وتقول الفنانة التشكيلية اللبنانية نجاح طاهر: بطبيعة الحال، رأي الشخصي لا يقدّم ولا يؤّخر، فقيمة الأدب الذي سطره محفوظ لا مجال لإنكاره، لكنني ضدّ تحويل ادبائنا أو مبدعينا إلى أيقونات لا تمسّ. ومن حق كل منا أن يحتفظ بحرية أن يبدي وجهة نظره في الأمر الذي يريد من دون حرج أو تردد. وبناء عليه أقول إن ما لا يعجبني في نجيب محفوظ أن كل شخصياته هي صنيعة اقدارها وبيئتها، وكأنما هؤلاء لعنتهم محيطهم. البيئة هي التي تحدد مصائر الشخصيات في كل قصص وروايات محفوظ، وبالتالي هناك طغيان تصعب مقاومته للزمان والمكان في هذه الإبداعات. من ناحيتي أفضّل أن يكون ثمة للإنسان خيار آخر، ولذلك أجد نفسي منسجمة أكثر مع شخصيات غارسيا ماركيز، فهي تستطيع أن تطير أحياناً وأن تتجاوز ما حولها. أشعر كإنسانه ان بمقدوري ان أطير وان أبطال محفوظ محرومون هذه المتعة، لهذا افضّل مثلاً اسكندرية لورنس دوريل على قاهرة نجيب محفوظ، لأن الأول أعطى ابعاداً للمكان والإنسان غير تلك السيوسيولوجية. لنأخذ دوستويوفسكي مثلاً في «الأخوة كروموزوف» فالتطور الذهني لشخصية ايفان هو الذي أخذه إلى مصيره، وليس أي شيء آخر. هذه الأبعاد لا يقترب منها نجيب محفوظ، وهو ما لا يعجبني في أدبه. فمفارقات الحياة تسوق الإنسان أحياناً إلى مواقع وأماكن ومواقف غير منتظرة، وفي حياتنا مفاجآت كثيرة، وأبواب مفتوحة ما كنا ننتظرها.

نجيب محفوظ بقي في مكانه وأحيائه واقعياً ومعيشياً، وبقيت شخصياته قاعدة معه هناك، وأخبرنا أن شخصياته هي وليدة طبقتها، التي لم تخرج منها سلباً أو ايجاباً. هكذا نجد الناس عنده وكأنهم مسيّرون لا مخيرون، وتركيبة حكاياته لا تعترف بعجائبية العناصر الكيميائية الحياتية التي تستطيع أن توجد خلطات إنسانية غير متوقعة.

* التقنية تطغى على العفوية

* وتقول الجامعية والفنانة التشكيلية اللبنانية هيلين كرم: لا أحب عند نجيب محفوظ الإطالة في السرد، والمشهد الذي يتكرر ويعيد نفسه في بعض الأحيان. انه يدخلنا في مناخ مشهدي جميل، وهو قادر أيضاً على تجميد اللحظة، بحيث ندخل معه في عالم قريب من دنيا الأفلام. نستطيع أن نتنفس لعبته ونندمج بها، لأنه يشتغلها بحنكة عالية، لكن العيار يزيد أحياناً عن الحد، وقد لا يكون القارئ دائماً في مزاج يسمح له بالتماهي الطويل مع الأشياء والمواقف الوصفية التي يجد نفسه داخلها.

قصصية محفوظ، الواقعية تشبه القصص السحرية، ولغته جميلة لكنها ليست الأحب إلى قلبي. ومما لا شك فيه انه اشتغل على هذه اللغة واستطاع ان يكون رائداً، لكنني اليوم لا أتذوقه كما كنت أفعل قبل عشرين سنة. اللغة تطورت بدورها، وأصبح بمقدورها أن تأخذنا إلى أماكن أخرى غير التي اعتدناها سابقاً. كل الفنانين الكبار باختلاف اختصاصاتهم حين يصلون إلى الاحتراف العالي تحكمهم تقنياتهم، ونجيب محفوظ احد هؤلاء. فقد اشتغل على «البورتريه» لكننا صرنا نجده وكأنه قد علق في مكان واحد صار يخاف ان يحيد عنه، لأنه يخاف على نجوميته ورصيده. الوصول إلى القمم يحرم صاحبه متعة المغامرة والتجريب، لذلك تصير التقنية تطغى على العفوية. وهو أمر بشري يصح على محفوظ أو غيره ممن عاشوا تجارب مشابهة.