شهيد وبطل أم خائن وعميل؟

سليمان الحلبي بين الجبرتي والمؤرخين المعاصرين

TT

عبد الهادي البَّكار * اقترح استاذ التاريخ الحديث في احدى الجامعات المصرية (الدكتور عبد المنعم الجميعي) تجريد اسم سليمان الحلبي من شرف الاستشهاد في سبيل مرضاة الله وفي سبيل حرية مصر وعزتها ودعا الى وصمه بالخيانة والإفك وبالعمالة، وبأنه كان فتى بلا دين وبلا هدف، وبأن اقدامه على قتل الجنرال كليبر بعد ظهيرة يوم السبت الخامس عشر من شهر يونيو (حزيران) 1800 انما كان مقابل اجر، وفي سبيل تحقيق مصلحة شخصية خاصة بسليمان الحلبي الذي اعدم بالخازوق فوق (تل العقارب) في (القاهرة ـ المحروسة) في الساعة الحادية عشرة والنصف من ظهر يوم 28 يونيو 1800، وهكذا فإن دعوة الدكتور عبد الرحمن الجميعي الى تجريد اسم سليمان الحلبي من شرف الاستشهاد في سبيل مرضاة الله وحرية مصر، قد جاءت كما نلاحظ بعد مائتي عام وستة أشهر من استشهاد هذا الفتى السوري المجاهد الذي وهب مصر حياته، وهو الذي ما انفكت مصر تعتبره بطلاً شهيداً منذ مائتي عام ونيف وتطلق اسمه على عدد من الشوارع في القاهرة ومدن وقرى مصرية اخرى، وتكرس حكاية بطولته في بعض البرامج التعليمية المدرسية، كقدوة جديرة بأن تحتذى، وكبطولة جديرة بالتكريم والتخليد.

ولقد كان بديهياً بعد اطلاق دعوة الدكتور الجميعي ان يتساءل (قارئ عربي) كمثلي التساؤل الآتي: لماذا وكيف اذاً ظلت مصر تعتبر سليمان الحلبي بطلاً شهيداً طيلة مائتي عام متصلة، رغم انه، كما اخبرنا الدكتور الجميعي، لم يكن سوى مجرم أهوج انتهازي عميل وقاتل مأجور بلا دين ولا هدف، وعلى هذا فهو لا يستحق أن يكون قدوة تقتدى، ولا بطلاً جديراً بالتخليد؟ وهل كان الأمر يحتاج الى انتظار مرور مدة مائتي عام، حتى يتحقق هذا الاكتشاف الهام المثير الذي انفرد به استاذ للتاريخ الحديث في احدى الجامعات المصرية في نهاية القرن العشرين، ونشره على صفحات الجرائد (الوفد 19/11/2000) وقد اسند اكتشافه هذا الى المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي الذي عاصر عملية اغتيال سليمان الحلبي، الجنرال كليبر، الذي خلف نابليون بونابرت في قيادة الحملة العسكرية الفرنسية التي غزت أرض مصر بدءاً من الاسكندرية يوم الثالث من يوليو (تموز) 1798؟

كان بديهياً ان أسارع من جانبي الى قراءة ما ورد في تأريخ الجبرتي (عجايب الآثار في التراجم والاخبار)، وبالتحديد في الجزء الرابع منه المعنون بـ (الغزوة الفرنسية: صدمة الغرب) الصادر في القاهرة عن مكتبة مدبولي عام 1997، كما اعده وحققه الاستاذ عبد العزيز جمال الدين، وهو يقع في ألف ومائة وعشر صفحات من القطع المتوسط. وقد انكببت على مطالعته مطالعة ممحصة متأنية جداً، منقباً في جميع صفحاته عن أي موضع فيه اشارة الى سليمان الحلبي، وعن كل كلمة وردت عنه في هذه الصفحات وقد أعانني ذلك على الاحاطة باخبار الأحوال المصرية في جميع مناطق مصر العليا ومصر السفلى التي وقعت خلالها واقعة الاغتيال، وهي الاحوال التي لا يجوز فصل إقدام سليمان الحلبي على اغتيال الجنرال كليبر، عنها على الرغم من وضوح حقيقة أن الجبرتي كتب تاريخ الوقائع التي عاصرها من منظور موضوعي حيادي صرف، وكأنما هو (عدسة آلة تصوير) تنقل الى ورقة الصورة، ما قابلها فانعكس عليها، دون ان تضيف أو تنقص منه شيئاً... أي أن موضوعية الجبرتي قد بلغت حد عدم الانحياز الى حركة المقاومة الشعبية المصرية الوطنية التي كانت ذات هوية وطنية مصرية دينية اسلامية خالصة، تجمع في ما بين المصريين والعثمانيين والمماليك، وتتنافر مع الغزاة العسكريين الفرنسيين الذين كان المصريون والأتراك والمماليك ينظرون اليهم كغزاة اعداء اغراب (كفرة). وهكذا، ضمن اطار هذا الفرز أو التقسيم، شارك عرب جُدّه وعرب ينبع وعرب مكة الحجازيون بحركة المقاومة الشعبية المصرية الاسلامية التي قادها (مراد بك) في صعيد مصر، بعد انهزام جيشه أمام جيش نابليون في معركة امبابة يوم الأربعاء 21 يوليو 1798.. كما شارك الشوام من أهل فلسطين وسورية ولبنان في هذه الحركة، متحالفين مع (ابراهيم بك) الذي انهزم أمام نابليون على الضفة الشرقية من نهر النيل، ثم انسحب من (المحروسة ـ القاهرة) الى المطرية، ثم الى بلبيس (في محافظة الشرقية) ثم الى (القطية) قرب (الفرما) في منطقة (القنطرة شرق).. ثم الى غزة في 13 اغسطس (آب) 1798 حيث تحالف مع والي عكا احمد باشا الجزار، ومع (الوزير الأعظم) أو (الصدر الأعظم) في الاستانة، عاصمة الخلافة العثمانية.

وفيما هو معروف: ان سليمان الحلبي ولد عام 1777 في قرية (عفرين) في الشمال الغربي من مدينة حلب السورية، من أب مسلم متدين اسمه محمد أمين، كانت مهنته بيع السمن وزيت الزيتون: فلما بلغ سليمان العشرين من عمره، أرسله أبوه برا، عام 1797، الى القاهرة لتلقي العلوم الاسلامية في جامع الأزهر حيث انخرط سليمان في (رواق الشوام) المخصص لطلبة الأزهر من أبناء بلاد الشام، فيه يتعلم ويأكل وينام مع كوكبة من اقرانه الفتيان الشوام من اضرابه.. وقد وطد صلته بالشيخ أحمد الشرقاوي أحد الاساتذة الشيوخ الذين تتلمذ عليهم، واحياناً ما كان سليمان يبيت في منزل استاذه الشيخ الشرقاوي الذي رفض الاستسلام للغزوة الفرنسية فساهم بإشعال فتيل ثورة القاهرة الأولى بدءاً من يوم 21 اكتوبر (تشرين الأول) 1798، أي ان سليمان الحلبي كان الى جانب استاذه الشيخ الشرقاوي حين اقتحم جيش نابليون أرض الجيزة، ثم أرض (المحروسة ـ القاهرة)، حيث راح الغزاة الفرنسيون ينكلون بالشعب المصري اشد التنكيل كما يذكر الجبرتي، في الوقت الذي كان فيه (ابراهيم بك) يحرض المصريين على الثورة ضد الغزاة (الكفرة) من مكانه في غزة، و(مراد بك) يحض الشعب المصري على المقاومة من مكانه في صعيد مصر، وهو التحريض الذي دفع بونابرت الى الزعم الباطل في رسالة بعث بها الى شريف مكة في الحجاز غالب بن مسعود، وفي بيان وجهه الى مشايخ وأعيان (المحروسة ـ القاهرة)، بأنه قد هدم الكنائس في أوروبا وخلع بابا روما قبل قدومه الى مصر، وأنه عاشق للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، نصير للدين الاسلامي!! إلا أن حصافة الشعب المصري لم تكن عاجزة عن ادراك بطلان هذا الزعم الكاذب الذي رافقه التنكيل بالمصريين الذين أججوا (ثورة القاهرة الأولى) ضد الغزاة (الكفرة) انطلاقاً من منطقة الجامع الأزهر.

الخطة والتنفيذ وقد رد عليها الغزاة بقذائف مدافعهم غير الرحيمة التي نالت من مبنى (المسجد الأكبر) الذي لم تشفع له قدسيته كمسجد للعبادة الاسلامية، فقامت خيول الغزاة المسلحين بالبنادق والسيوف باحتلاله.. وحكمت على ستة من شيوخ الأزهر بالاعدام كان بينهم استاذ سليمان الحلبي الشيخ أحمد الشرقاوي، الذي اقتيد الى القلعة حيث ضربت عنقه مع اعناق الشيوخ المجاهدين الخمسة الآخرين، وفصلت رؤوسهم عن اجسادهم، ودفنوا في قبور غير معلوم مكانها حتى اليوم.. وبعد تمكن الغزاة من اخماد ثورة القاهرة الأولى، تضاعفت مظالم الغزاة، وطورد كل مشبوه بانتمائه الى حركة الجهاد والمقاومة الشعبية الوطنية المصرية الإسلامية، فاختفى من اختفى، وهرب من مصر من هرب، وبذلك توافرت الظروف لتوحيد (خطط الجهاد) داخلية وخارجية، وكان ممن غادروا أرض مصر الى بلاد الشام، سليمان الحلبي، بعد ان أقام في القاهرة ثلاث سنوات، حيث توجه الى مسقط رأسه (عفرين) في الشمال الغربي السوري وليلتقي في حلب (أحمد اغا) وهو من انكشارية (ابراهيم بك)، وليكتشف ان والي حلب العثماني قد بالغ بفرض غرامة على والده بائع السمن والزيت محمد أمين، وكان من البديهي ـ وهو منخرط في التنظيم الذي كان الشيخ الشرقاوي قد أنشأه في المحروسة، ثم احياه (ابراهيم بك) في غزة ـ ان يحاول السعي لرفع الغرامة عن ابيه، وقد وعده (أحمد اغا) بذلك، وكلفه بالتوجه الى مصر التي كان اقام فيها ثلاث سنوات، لأداء واجبه الاسلامي الجهادي باغتيال خليفة بونابرت الجنرال كليبر، بعد ان تمكن بونابرت من اجتياح خان يونس والعريش وغزة ويافا، وبعد فشله في اجتياح أسوار عكا التي كان واليها احمد باشا الجزار، متحالفا مع ابراهيم بك الذي غادر غزة الى القدس، وجبال نابلس، والخليل، مع استمرار سعيه، بالتحالف مع الاستانة، لإقلاق الغزاة (الكفرة) داخل مصر. وبعد فشله باقتحام عكا، عاد نابليون بجيشه الى مصر مدحوراً من بلاد الشام، ومنها توجه سراً بحراً الى فرنسا ليلة الاثنين 16 اغسطس 1799، تاركاً قيادة جيشه في مصر الى الجنرال كليبر، بعد ان دعا نابليون في بيانه الشهير اليهود الى اقامة دولة اسرائيل الكبرى.. بدءاً من ارض فلسطين.. بوصوله القدس، صلى سليمان الحلبي في المسجد الأقصى في مارس (آذار) 1800 ثم توجه الى الخليل حيث ابراهيم بك ورجاله في جبال نابلس، ومن الخليل توجه بعد عشرين يوماً من اقامته فيها في ابريل (نيسان) 1800 الى غزة حيث استضافه (ياسين اغا) احد انصار ابراهيم بك في الجامع الكبير، وقد سلمه سليمان رسالة حملها اليه من (احمد اغا) المقيم في حلب، وكانت تتعلق بخطة تكليف سليمان بقتل الجنرال كليبر باعتبار سليمان عنصراً من عناصر المقاومة الاسلامية التي وضعت على كفيها عبء النضال لتحرير مصر من الغزاة (الكفرة). وفي غزة انقد ياسين اغا سليمان الحلبي (أربعين قرشاً) لتغطية كلفة سفره الى مصر على سنام ناقة في قافلة تحمل الصابون والتبغ الى مصر، ولشراء (السكين) من أحد المحال في غزة، وهي السكين التي قتل بها سليمان، الجنرال كليبر. وقد استغرقت رحلة القافلة من غزة الى القاهرة ستة أيام، انضم بعدها سليمان الى مجموعة من الشوام المقيمين في (رواق الشوام) كطلبة في الأزهر، وقد كانوا أربعة فتيان من مقرئي القرآن من الفلسطينيين ابناء غزة، هم: محمد وعبد الله وسعيد عبد القادر الغزي، وأحمد الوالي. وقد ابلغهم سليمان بعزمه على قتل الجنرال كليبر، وبأنه نذر حياته للجهاد الاسلامي في سبيل تحرير مصر من الغزاة.. وربما لم يأخذوا كلامه على محمل الجد باعتباره كان يمارس مهنة كاتب عربي (عرضحالجي).

صباح يوم 15 يونيو 1800 كتب الفتى سليمان الحلبي عدداً من الابتهالات والدعوات الى ربه على عدد من الأوراق، ثم ثبتها في المكان المخصص لمثلها في الجامع الأزهر ثم توجه الى (بركة الأزبكية) حيث كان الجنرال كليبر يقيم في قصر (محمد بك الألفي) الذي اغتصبه بونابرت واقام فيه، ثم سكنه بعد رحيل بونابرت إلى فرنسا، خليفته الجنرال كليبر الذي ما ان فرغ من تناول الغداء في قصر مجاور لسكنه (ساري عسكر داماس)، حتى دخل سليمان حديقة قصر محمد الألفي بك الذي يقيم فيه كليبر، ومعه كبير المهندسين الفرنسيين (قسطنطين بروتاين)، وقد تمكن سليمان من ان يطعن بنصلة السكين التي اشتراها من غزة، الجنرال كليبر، اربع طعنات قاتلة: في كبده، وفي سُرّته، وفي ذراعه اليمنى، وفي خده الايمن. كذلك تمكن من طعن كبير المهندسين قسطنطين بروتاين ست طعنات غير قاتلة: في الصدغ من ناحية اليسار، وفي الكف، وبين ضلوع الصدر من جهة اليسار، وتحت الثدي الأيمن، وفي الشدق الأيسر، وفي الصدر من الناحية العليا.

وقد تمكن اثنان من العساكر الفرنسيين هما العسكري الخيال الطبجي جوزيف برين، والعسكري الخيال الطبجي روبيرت، من القاء القبض عليه في الحديقة، ومن العثور على السكين التي نفذ بها (مهمة القتل) التي كلف بها كمجاهد اسلامي وهب حياته لحرية مصر وكبرياتها المثلوم.

حوكم الفتى سليمان بعد حرق يده اليمنى خلال التحقيق معه حتى عظم الرسغ، لكنه انكر صلته بالشيخ الشرقاوي، وبحركة المقاومة الشعبية الاسلامية المصرية المختلطة (المصرية ـ العربية الحجازية ـ المملوكية ـ التركية العثمانية ـ الشامية). وبما أن رفاقه المقيمين معه في رواق الشوام في الأزهر كانوا أربعة جميعهم من غزة، وليس فيهم مصري واحد، بل وبما أنه لم تكن لهؤلاء الأربعة الفلسطينيين أية صلة بعملية القتل، فقد اعترف سليمان بأنه كان مقيماً معهم مدة 34 يوماً قبل اقدامه على تنفيذ (مهمة القتل)، عقب وصوله الى القاهرة من غزة مكلفاً بقتل (ساري عسكر كليبر).. وبأنه أسَّر اليهم بعزمه على قتل الجنرال كليبر من منطلق جهادي نضالي صرف، لكنهم لم يأخذوا كلامه على محمل الجد. وبذلك أدانتهم المحكمة بالتستر على (الجريمة) قبل وقوعها، وحكمت على سليمان بالاعدام بالخازوق، وعلى أحمد الوالي ومحمد وعبد اللّه الغزي (سعيد عبد القادر الغزي كان هارباً) بالإعدام، وفصل رؤوسهم عن أجسادهم، على أن يتم قطع رؤوسهم أمام سليمان قبل إعدامه بالخازوق.

وفي الساعة 11.30 من يوم 1800/6/28، نفذ حكم الإعدام بالفلسطينيين الثلاثة أمام عيني سليمان، ثم حرقت أجسادهم حتى التفحم، ثم غرس وتد الخازوق في مؤخرة سليمان الحلبي فوق (تل حصن المجمع ـ تل العقارب)، ثم ترك جثمانه المغروس في احشائه وتد الخازوق النافذ، عدة أيام، تنهشه الطيور الجوارح والوحوش الضواري، عقب دفن جثمان الجنرال كليبر في موضع من القاهرة قريب من (قصر العيني)، بعد تشييعه في احتفاء رسمي ضخم، وقد كان جثمانه موضوعاً في تابوت من الرصاص ملفوفاً بالعلم الفرنسي، وفوق العلم سكين سليمان الحلبي المشتراة من غزة.

وثائق الحملة مع الإعلان عن مقتل الجنرال كليبر، خلفه الجنرال جاك مينو الذي كان من قبل (صاري عسكر مدينة رشيد) وفيها شهر إسلامه في لعبة سياسية لا يعسر تفسيرها، وسمى نفسه (عبد اللّه مينو)، وتزوج من نسائها سيدة مطلقة اسمها زبيدة بنت محمد البواب، وقد انجب منها، ورحلت معه إلى فرنسا بعد نجاح الخلافة العثمانية بالتحالف مع بريطانيا في إرغامه على الانسحاب من مصر ومعه كل رجاله.. لينضم إلى مسيرة نابليون بونابرت الذي ارتقى إلى منصب قنصل فرنسا، قبل ان يغدو امبراطورها الأعظم.. ثم أسيراً في جزيرة البا، ثم في جزيرة سانت هيلانة حيث قضى نحبه مسموماً بسائل الزرنيخ.

وقد حمل الجنرال عبد اللّه جاك مينو معه إلى باريس، عظام الجنرال كليبر في صندوق، وعظام سليمان الحلبي في صندوق آخر، وعند إنشاء متحف (انفاليد ـ الشهداء) بالقرب من (متحف اللوفر) في باريس، خصص في احدى قاعات المتحف، رفان: رف أعلى وضعت عليه جمجمة الجنرال كليبر، وإلى جانبها يافطة صغيرة مكتوب عليها: (جمجمة البطل) الجنرال كليبر، ورف أدنى تحته وضعت عليه جمجمة سليمان الحلبي، وإلى جانبها يافطة صغيرة مكتوب عليها: (جمجمة المجرم) سليمان الحلبي.

والجمجمتان لا تزالان معروضتين في متحف (انفاليد) حتى اليوم..

هذه بإيجاز هي حكاية سليمان الحلبي التي لا يجوز فصلها قط عن الأحوال السياسية والدينية والاجتماعية المصرية خلال فترة ما قبل وما بعد إقدام ذلك الفتى السوري البطل الذي اعدم بالخازوق فوق أرض مصر المحتلة صيف عام 1800، على قتل الجنرال كليبر بتكليف من أطراف عضوية بحركة المقاومة الإسلامية الشعبية المصرية الوطنية.

وقد وصفه الجبرتي في الصفحة 463 من الجزء الرابع من أجزاء تاريخه الخمسة المعنون بـ (عجايب الآثار في التراجم والأخبار) في سياق امتداحه الغزاة الفرنسيين (المتحضرين)، بأنه: «آفاقي» أي من المشردين شذاذ الآفاق، أي من الغرباء غير المصريين، وبأنه «أهوج»، كما وصف المجاهدين الوطنيين المصريين الذين قاتلوا الغزاة الفرنسيين، وقاموا بثورة القاهرة الأولى بأنهم «أوباش العساكر الذين يدّعون الإسلام ويزعمون أنهم مجاهدون».

كذلك وصف الجنرال جاك مينو، خليفة كليبر في قيادة الحملة الفرنسية في مصر، سليمان الحلبي، في البيان الذي أصدره بتوقيعه بتاريخ 1800/6/16 (أي في اليوم التالي ليوم مقتل الجنرال كليبر) بأنه «أحد المجرمين»، وقد كلفه الوزير الأعظم (أي الصدر الأعظم في الأستانة) عن طريق آغا الانكشارية (أي أحمد آغا في حلب وياسين آغا في غزة) بعملية اغتيال حالكة السواد، للرجل «الذي ستظل ذكراه عاطرة خالدة في قلوب الفرنسيين جميعاً» ـ أي الجنرال كليبر (الصفحة 461 والصفحة 462).

وقد ورد في الصفحة 429 من هذا الجزء الرابع من تأريخ الجبرتي، في الملحق رقم 4 الذي أضافه المحقق الاستاذ عز الدين جمال الدين الذي أعد وحقق تاريخ الجبرتي للنشر كما نشرته مكتبة مدبولي عام 1997، نص رسالة جوابية أرسلها (مراد بك) من الصعيد إلى الجنرال (عبد اللّه جاك مينو ـ صاري عسكر أمير الجيوش الفرنساوية)، على رسالة كان الجنرال جاك مينو أرسلها اليه يخبره فيها بإقدام سليمان الحلبي على اغتيال الجنرال كليبر، ما يأتي: «إنه حضر لنا جوابكم، وعرّفتونا بما حصل إلى حضرة مُحبنا العزيز صاري عسكر كليبر، وهذا أمر اللّه تعالى لمْ أحداً بيده حيلة، وأمر اللّه تعالى لا بد من نفاذه، والذي سلط على قتله مثل واحد كبير زي ده، لم هو شأن الأميري، ويبقا خاين وقليل المروّة.. ولكن من قديم الزمان الخوانة لهم وكل أحدا جزائه على اللّه تعالى».. إلخ.. (غني عن التوضيح اننا ننقل من نص هذه الرسالة الوثيقة التاريخية كما كتبها وكما وقعها أمير اللواء السلطاني مراد بك، وكما ارسلها هكذا مكتوبة بالعربية ركيكة غير صحيحة الصياغة إلى الجنرال جاك مينو، مع توضيح ان هذا القائد المملوكي مراد بك، بعد فشل ثورات مدن الصعيد جميعها بقيادته، وهو المتحالف مع قبائل عربية من الحجاز، آثر الانشقاق عن رفيق دربه إبراهيم بك في بلاد الشام، وعن الوزير الأعظم في الأستانة، ليتحالف مع الجنرال جاك مينو الذي ولاّه أميرا على أرض الصعيد، من جرجا حتى إسنا).

هذا يعني أن صفتي (خاين) و(قليل المروة) لم يقصد بهما مراد بك سليمان الحلبي، بل الذين كلفوه بتنفيذ عملية قتل الجنرال كليبر، وهما أحمد آغا في حلب وياسين آغا في غزة، وكل منهما كان انكشارياً من رجال إبراهيم بك، المتحالف مع الصدر الأعظم في الأستانة، ومع أحمد باشا الجزار في عكا، ومع المسلمين في مصر وجميع ارجاء الدنيا، ومع بريطانيا أيضاً.. التي كسبت الشوط في نهاية المطاف، وقد سبقها إلى الكسب محمد علي الكبير الذي تمكن من إزاحة المماليك، ومن اعتلاء عرش مصر عام 1805، ومن إنشاء الدولة المصرية الحديثة، ومن استثمار جميع العلوم وآلات التكنولوجيا الحديثة التي رافقت الحملة الفرنسية على مصر، وهي الحملة التي اندحرت ابشع اندحار في مواجهة تعاظم المقاومة الوطنية الشعبية المصرية الاسلامية المتحالفة مع العثمانيين الأتراك المسلمين، وقد شيع المصريون الفرنسيين عند انسحابهم من مصر بهتافات منها: «سنة مباركة ويوم سعيد بذهاب الكلاب الكفرة». و«اللّه ينصر السلطان، ويهلك فرط الرمان».

من هذا العرض المقتبس في غالبيته مما ورد في تاريخ الجبرتي عن الحملة الفرنسية على مصر، وعن الأحوال المصرية السياسية والدينية والاجتماعية والنضالية في الفترة ما بين صيف 1798 وأواخر 1801، وعن الظروف السياسية والدينية الموضوعية التي حرَّضت سليمان الحلبي على قتل الجنرال كليبر مشاركة مجيدة منه لحركة المقاومة الشعبية المصرية الوطنية الإسلامية التي وهبها حياته دون أي تردد، ودون طمع منه في مغنم خاص بشخصه، تتأكد حقيقة أن سليمان الحلبي كان بطلاً حقيقياً، وفتى من شهداء الإسلام والعروبة والحرية، وأنه جدير بالتخليد، إسما وكفاحا وبطولة، وأن أية محاولة قامت بعد مرور مائتي عام ونيف على استشهاده، لتجريده من مسوّغات التكريم والتخليد، وأية محاولة من هذا القبيل قد تقوم من بعد، ينبغي الرد عليها كما ينبغي أن يكون الرد الموضوعي الصرف، ومحاصرتها كما ينبغي ان تكون محاصرة الحق للباطل.

وما يحزن القلب حقاً، ان تجيء محاولة تجريد اسم سليمان الحلبي من شرف البطولة والاستشهاد، في ذكرى استشهاده المئوية الثانية، من أرض مصر الغالية الحبيبة التي أحبها سليمان الحلبي حتى الموت، ووهبها حياته دون أي تردد تلفظه الجسارة، وتتناقض معه.

وإذا كانت أطراف سورية غير رسمية قد سعت خلال السنتين المنصرمتين لدى فرنسا، معبّرة عن رغبتها برد الاعتبار إلى اسم سليمان الحلبي، وتطهيره من صفة (المجرم) اللصيقة بجمجمته في متحف (انفاليد)، وبالموافقة على ان تسترد سورية رفاته من فرنسا لإعادة دفنها في مسقط رأسه (عفرين) أو في مدينة حلب، بصفته بطلا من شهداء الكفاح من أجل الحرية والاستقلال، فإن العدل وفضيلة الوفاء يقضيان بضم جهود مصر إلى الجهود السورية في هذا السبيل، وبخاصة أن مصر، ملتزمة بفضيلة الوفاء التاريخي في كل العصور.. ومن حق روح سليمان الحلبي عليها، أن يكون له نصيب من هذا الوفاء المصري التاريخي الشهير، المضاد لكل ألوان الإجحاف والظلم والجحود.

* كاتب وإعلامي سوري