سياب القراءة الجديدة : الشعر من المعترك التاريخي إلى المعترك الداخلي

فوزي كريم

TT

عزلة السياب عن المعترك الآيديولوجي الصاخب في محيطه العراقي والعربي كانت عزلة «شعرية» عميقة غير ظاهرة. الشعر، وليد المعترك الداخلي، لم يترك للسياب فرصة الخوض في المعترك الخارجي إلا في الظاهر، بسبب ضعف شخصيته، وانعدام إرادته، وسهولة مكسره، ومحدودية ثقافته أيضاً. ولذلك فإن كل انتماءات السياب، وحماساته الآيديولوجية، هوائية، وقشرية، ووليدة استجابة لا يد له عليها رغم كل المسحة الجدية التي منحها لها النقاد لأنهم يرون الشاعر، ببساطة، عبوة أفكار ومواقف مسؤولة، وملتزمة، لا عبوة مشاعر والتباسات ناسفة.

كان السياب ماركسياً حيناً، وقومياً عربياً حينا آخر، بسبب ضعفه وبسبب الضغوط القاسية واللا إنسانية من محيطه الثقافي. كان يجب عليه أن يتقبل من المحيط الأقوى الهوية المفترضة. وهل يمكن أن يواصل شاعر وأديب منذ الخمسينات كونه شاعراً وأديباً من دون هوية ؟ ماركسية السياب أعطته موقعاً ممتازاً. ثم حقق امتيازاً أكثر حين صار قوميا عربياً، وأخطر حين توهمه البعض في رحاب القومية السورية. ولذلك أعتقد أن فهم شاعرية السياب لم يحن زمانه بعد تماماً. حين تلغى الهوية ويتلاشى شاعر القضية سيضع الفضاء المفتوح كل شاعر في مكانه الذي يستحقه.

شعر السياب ذهب، بفعل عزلته العميقة غير الظاهرة، بعيدا باتجاه الانسان العراقي كإنسان. باتجاه الانسان عاريا من الانتساب الوطني، القومي، الأممي أو الطبقي. يمكن بالتأكيد لإنسانه أن يظل عراقيا وعربيا وطبقيا.. ولكن كخصيصة إنسانية، لا تشكل «النموذج الذهني الأمثل» للوطني، القومي، الأممي، والطبقي، الذي فرضته المشاعر العقائدية، والذي ألفناه في قصائد الملتزمين من أبناء جيله والأجيال اللاحقة.

بهذا المعنى سيقرأ الناس والنقاد السيابَ بطريقة جد مختلفة، طريقة أكثر صحية ووفاءً، لا لشعره وحده، بل للشعر جملةً. سيقرؤون «أنشودة المطر» عارية من المعاني التي فرضت عليها بفعل هيمنة «الالتزام بالمعاني الوطنية والاجتماعية» في الستينات والسبعينات. سيُفهم الجوع العراقي، والحزن العراقي الذي يبعثه المطر، ونشيد المهاجرين: مطر، مطر، مطر...» بصورة أعمق من المعنى الظاهر النفعي الذي فرضته الذائقة الملتزمة. والتي لا تقرأ الشعر إلا كمادة تؤكد مصداقية الأفكار الملتزمة.

الرائع أن السياب سيبقى في ذاكرتنا مجتمعاً، من دون استثناء في قصائده. الحكمة من ذلك أن الشاعر الذي ينصرف للإنسان، ولمعتركه الداخلي ـ لا المعترك الخارجي ـ يبقى شاعراً حتى في أسوأ قصائده. للسياب قصائد ضعيفة. يعرف ذلك من قرأ :

«وما من عادتي نكران ماضيّ الذي كانا / ولكن كل من أحببتُ قبلك ما أحبوني»

فيض من الميوعة والمباشرة. ولكنه فيض شعري على كل حال، يشف عن ميوعة ومباشرة إنسان منقاد من داخله (لا من خارجه!)، حتى في أضعف لحظاته العقلية والروحية. عدد من شعراء جيله والتالين عليهم سيخلفون قصائد يمكن لقراءتنا الجديدة ان تفرز منها الشعر وتهمل ما تجده دخيلا على الشعر، لأنه لا يقود الى داخل إنساني مهما كان ضعفه والتباسه. بل يقود الى استجابة مملاة من الخارج. مع السياب لن يحدث ذلك، لأن أضعف قصائده هي وليدة داخل إنساني فريد الهوية، وحي. هذه الفرادة ولدت من لحم، ودم، وروح، وعقل، وتطلعات، وانكسارات، وقوة، وضعف، وكلية، ومحدودية الانسان، الذي هو السياب الشاعر. وما من ثمرة أو زبدة، تُقطف من هذه التجربة الشعرية، يمكن أن تُختزل بكلمة، أو فكرة، أو قيمة.

الكلمات في تجربة الشاعر، الذي ينصرف للمعترك الداخلي، تنطوي في كل صيغها على معنى الفعل لا الاسم. والأسماء، كما يرى عالم النفس أريك فروم، هي الرموز المناسبة للأشياء التي تشجع على التملك، بينما الأفعال هي الرموز المناسبة للنشاط والفعل، الذي يشجع على الكينونة.

ولنقرأ هذا في قصائد السياب، ولننتخب موضوعة «الموت» الطاغية في تجربته الشعرية.

هناك إقبال واضح على كلمة «الموت» في الشعر العربي، قديمه وحديثه بصورة خاصة. هذا الإقبال على مفردة الموت يخفي، بفعل السيادة اللفظية، دافعاً سايكولوجيا يتنافى مع مهمة الشعر، لأنه يعزز التزوير. هذا الدافع السايكولوجي يكمن في الرغبة اللا واعية لاستخدام مفردة «الموت» كرقية لاتقاء شر الموت. اللعب على الاسم لاتقاء شر المسمى. السياب لم يفكر بالموت بل استشعره، وعاشه. وهو لم يكتب عنه، بل كتب فيه، ومن خلاله. والنقاد لا يحسنون إدراك ذلك لكي يكتبوا عن «موت السياب» في شعره، بل هم يفضلون دائما الكتابة حول «الموت عند السياب». لأنهم اعتادوا، بفعل العرف الشكلي والحذر من الانفراد بالهوية الداخلية، على التعامل مع مفاهيم وأفكار مستقلة وقائمة خارج الشاعر.

يمكن تلمس هذا أكثر إذا ما قارنا تعامل شاعر مثل أدونيس مع الذاكرة، وتعامل شاعر مثل السياب. الأول يستعيد ذكرى شخوص تاريخية «كقناع» فني، كما تحلو للنقاد التسمية، أو يستعيد المدن العربية الكبرى (بيروت، القاهرة، صنعاء...) فيؤرخ لها «داخلياً»، كما يحلو للشاعر والنقاد التسمية. ولكن هذه الاستعادة في حقيقتها لا تعدو استعادة ذاكرة عقلية، ونفعية، عمادها المنطق، حتى في العلاقة بين الأضداد والمتناقضات. والذاكرة، وخاصة الشعرية، يتلاشى فيها العقل والمنطق. قاهرة أدونيس هي القاهرة المدينة ولكن أعاد بناءها بكلمات واستعارات وعناصر مخيلة قدمت كل ما من شأنه أن يقنع القارئ بأن أدونيس ليس إلا مؤرخ من طراز فني. جيكور أو بويب السياب تحولا في لحظات استعادتهما من قبل الشاعر الى مدينة ونهر لا ينتسبان للزمان التاريخي الظاهر، بل لزمان السياب الداخلي. الزمان الخالد. تماما كما تخلق الأساطير في مخيلة الشعوب.

سياب القراءة الجديدة سيستعيد مكان الريادة، لا كمجدد في حقل الرطانة الشكلية غير المثمرة، رطانة محدثي المصطلح المترجم وحقل المعترك التاريخي، بل كمجدد في حقل إعادة الشعر الى حرمة المعترك الداخلي.