إنّهم يعبُّونَ من «بويب» ويُنكِرون!

د. عبد الرضا عليّ *

TT

كان بدر يحسُّ أنه لن يعيشَ طويلاً، فكان جلّ حلمهِ في الحياة ، أن يكون لهُ بيتٌ يجدُ فيه الراحة، والطمأنينة، وامرأة تحبّه، لذلك كانت المرأة (كما صرّح) أكبر حافز دفعهُ إلى كتابة الشعر، وقد وضح ذلك في ديوانيهِ: «أزهار ذابلة» و«أساطير». أما تأثُّراتُه الشعرية، فقد كانت بالبحتري، وعليّ محمود طه، وأبي تمام، والجواهري، وغيرهم من الشعراء العرب، وبـ «شلّي» وشكسبير، وجون كيتس، وتوماس إليوت، وإديث سيتويل، ودانتي، وهوميروس، وفرجيل، وغوته، وغيرهم من الغربيين، لكنه يفردُ لأبي تمّام، وإديث سيتويل مكاناً خاصاً في هذا التأثر، إذ يقول في إجابتهِ لمحمود العبطة: «وحين أستعرض هذا التاريخ الطويل من التأثر أجدُ أنّ أبا تمّام وإديث سيتويل هما الغالبان».

كان السيابُ أول شاعر وظَّف الأسطورة في الشعر الحديث توظيفاً فنياً، وجعلها في محورين: الأول هو المحور الجمالي، والثاني هو المحور السياسي، لأنه أسبق الشعراء ارتهاناً بها، وإن شاركهُ المجايلون لهُ بعد ذلك، ونعني بهم: نازك الملائكة، وعبد الوهاب البياتي، وأدونيس، وصلاح عبد الصبور، وخليل حاوي، وغيرهم.

إنّ بدراً حين وظّف الأسطورة في الشعر وجدها أعلى مراحل الرمز، كما أنه لم ينظر إليها كما نظر إليها إنسانها البدائي، إنما حمّلها موقف الفعل الخلاّق، لذلك لم يكتف بتوظيفها فنّياً، إنما حوّرها، وحمّل بعضها مضامين جديدة، ومن تلك المضامين:

1 ـ التوحد بالأسطورة

2 ـ قلب الأسطورة

3 ـ مزج الأسطورة بغيرها

ومن أمثلة «التوحد بالأسطورة» قصيدتا «المسيح بعد الصلب» و«رحلَ النهار»، ففي الأولى يوحِّدُ السياب بين رمزي «تموز» و«السيد المسيح» عليه السلام، ثم يتوحَّدُ بهما من خلال مناجاة نفسيّة ذات وقعٍ جنائزي:

مت كي يؤكل الخبز باسمي

وكي يزرعوني مع الموسم

كم حياة سأحيا: ففي كل حفرة

صرتُ مستقبلاً، صرتُ بذرهْ

صرتُ جيلاً من الناسِ: في كلِّ قلبٍ دمي

قطرةٌ منهُ أو بعضُ قطره

وفي الثانية «رحلَ النهار»، يوحِّدُ بين رمزي «السندباد البحري العربي» و«عوليس» الاغريقي، ثم يتوحَّدُ بهما. ففي القصيدة صوَّر انتظار حبيبتهِ لهُ بما يشبهُ انتظار «بنيلوب» لـ «عوليس» في الأوديسَّة. ولمّا كان رمز السندباد يُقاربُ من حيث الملمح الشعري رمز «عوليس»، فقد آثرَ السياب أن يتبناهُ في التصريح لكونهِ عربياً، ولأنّ صورة ارتحالهِ الدائم ماثلة أكثر من «عوليس» في وجدان القارئ العربي.

فليس للسندباد زوجة معينة تنتظرهُ كما كانت «بنيلوب» تنتظر «عوليس».

إنّ منجزات السياب الجماليّة، لم تتوقف عند التوظيف، إنما تجاوزتها إلى آفاقٍ فنية أخرى، كما في منجزات التداعي الحر، والمونولوج الدرامي، والمحاورة، والتناظر المصطنع، لكنّ الرمز ظلّ أثيراً في تجربتهِ الفنّية، فثقافتهُ الواسعة، ووعيهُ التام، جعلاهُ أقدر من غيرهِ على تفعيل الإبداع وجودياً، والدفاع عن هذا الاستخدام الجديد نقدياً، ولعل رسالته إلى سهيل إدريس في 7/5/1958، قد كشفت عن عمق قراءاته في هذا الجانب، فلأول مرة يتضح للمتلقي العربي أن مدينة (تعز) اليمنية، تسمية مأخوذة من (تاعوز)، التي تعني أصلاً (تموز).

ولأهمية هذا الرأي، فإننا نقتطع هذا الجزء من الرسالة ونضعهُ بين أيدي القرّاء وأعينهم ليكون شهادة في صالح الإبداع الواعي، الذي يحمِّل الرمز موقف الفعل الخلاق، لهذا قال ردّاً على من سألهُ عن تلك الرموز: «إنّ العربَ أنفسهم تبنّوا هذهِ الرموز، وقد عرفت الكعبةُ بين إبراهيم الخليل.. وظهور النبيّ العربي العظيم جميع الآلهة البابليّة، فالعُزّى هي عشتار، واللاة هي اللاتو، ومناة هي منات، وودّ هو تموز، أو (أدون = السيّد)، كما كان يسمى أحياناً. بل إنّ العرب الجنوبيين أيضاً عرفوا هذه الآلهة. فتموز الذي يروي لنا بعض المؤرخين العرب، أنهُ رأى أهلَ حوران يبكونهُ، تحت اسم تاعوز.. عرفتهُ اليمن باسم تعز، وما زالت إحدى مدنها تسمى باسمه حتى اليوم، وتقابل تعز الذكر أُنثاهُ العُزّى. بل يخيلُ إليّ أحياناً أنّ قوم عاد وثمود قد كانوا من عبدةِ تموز: عاد ، أو آد ـ العين والهمزة تحلُّ إحداهما محل الأخرى بين لغة سامية وأخرى ـ عاد = عادون، هو آدون: السيد، وثمود هو تموز».

إذا كان السيد المسيح عليه السلام، قد حلَّ راغباً في أجسادِ مريديهِ، وظلّ دمهُ سارياً في قلوبهم:

صرتُ جيلاً من الناسِ: في كلِّ قلبٍ دمي

قطرةٌ منهُ، أو بعضُ قطرهْ

فإنّ شعر السياب/ دمهُ قد حلَّ هو الآخر في بعض تجارب الأجيال الشعريّة التالية لهُ رغبة منهم ، مع سبق الإصرار والترصّد ، وليتهم اعترفوا بهذا التأثر، وأومأوا إلى أمكنةِ حلولهِ، وتركوا المكابرة، وتحلّوا بالأمانة الإبداعيّة في أقلِّ تقدير، لأننا وجدنا بعض مريديهِ ممن كانوا يعبُّونَ من بويب عبّاً، قبل إحكامهم الصنعة، قد تجّرأوا على إلقاء بعض الحصى في «بويب» ناكرين أنهم قد عبّوا منهُ، أو حتى ارتشفوا منه رشفات، انهم كانوا قد تجاوزوا مرحلة الظمأ، وهم في قرارة أنفسهم كاذبون يدركون جيدا ان الزبد يذهبُ جفاءً ، وأنّ ما ينفعُ الناسَ هو الذي يمكث في الأرض، ويبقى. ولسوف يدركون عاجلاً أم آجلاً أنهم لن يتركوا بعدهم منازلَ عظيمة في بيتِ الفن كما تركها السياب، ولن يجد الصادي عندهم نهراً كبويب يعبُّ منهُ ساعة الظمأ.

رَحِم اللهُ السيّاب الذي توحَّد بالسيد المسيح عامداً، فماتَ ليلة عيد ميلادهِ المجيد في 24/12/1964 .

* ناقد وأكاديمي من العراق

يُقيم في بريطانيا