المشهد الثقافي المصري خلال 2004: كوميديا هزلية بلا قضية أو حوار أو أسئلة حقيقية

TT

تبدو الكتابة عن المشهد الثقافي المصري خلال هذا العام ثقيلة الوطأة، بل غير ذات جدوى، إزاء مشهد يكرر أقنعته ووجوهه، وأصبحت فيه الثقافة مجرد حشو باهت، وأصبح غالبية ما ينتجه لا يتوافر فيه أبسط حدود المتعة، ناهيك عن القيمة الفنية الرفيعة.

حتى على المستوى الإنساني تلاشت أواصر الدفء والحميمية بين معظم صناع هذا المشهد، من كتاب وشعراء ونقاد وغيرهم. وحلت محلها نظرة دونية، تولي المنافع والمصالح الخاصة الضيقة الاعتبار الأول والأخير. ولكم كانت هذه الحميمية هي المحرك والحافز للكثير من الأنشطة الثقافية الجادة، والموجات الأدبية والشعرية الأصيلة في الماضي القريب.

وبعيداً عن هوجة معرض فرانكفورت التي تحولت إلى مسخة على يد غالبية من شارك فيها من الكتاب والمثقفين، يبدو الأمر من قبيل العبث لو فتشنا عن قضية ما، أو أسئلة حقيقية شغلت هذا المشهد وأرقت هواجس صناعه ورؤاهم على مدار هذا العام، بالرغم من امتلائه بالعديد من القضايا والأمراض التي كم هي في مسيس الحاجة ـ ومنذ سنوات عديدة ـ إلى المساءلة النقدية الصحيحة. إن نظرة سريعة لما ينتجه هذا المشهد بمؤسساته الثقافية المتعددة، تؤكد أن الثقافة أصبحت مجرد ترف في عرف القائمين على هذه المؤسسات، حتى أن النفر القليل منهم، والذي يملك رؤية مستنيرة سرعان ما تتبخر هذه الرؤية، وتصبح مجرد قناع أمام شهوة الحفاظ على المنصب، ولعبة التوازنات مع خطاب السلطة الرسمي بكل تبدياته السياسية والاجتماعية والثقافية. لقد شاخ معظم هؤلاء المسؤولين، وأصبحت أفكارهم مجرد أدوات بالية للترطيب والهدهدة وتسكين الوضع القائم، وتزيينه ـ أحياناً ـ ببريق زائف، على اعتبار أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان.

ومن ثم تجهض أية رغبة للحوار النقيض والضد والموضوعي، التي تتمخض عنها هبات الكتاب والمثقفين بين الحين والآخر إزاء ما يتهدد الثقافة والوطن من أخطار حتى يظلوا في دائرة الظل التي تحددها لهم المؤسسة الرسمية، وتظللها ـ أحياناً ـ بنثارات رشيقة من قبيل المصلحة العامة، والانفتاح على الآخر، والتواصل مع التراث.

ولو تساءلنا: ما الذي يشد هموم صناع هذا المشهد ويوحدها، بعيداً عن أركان المقاهي والمنتديات الضحلة التي أصبحت مرتعاً للثرثرة والنميمة الفجة، بل ما الذي يحفزهم لمغامرة الإبداع بكل إلتباساتها المجنونة الشائكة، ويشعرهم في الوقت نفسه، بأن لهم حقوقاً على هذه المؤسسة، تجعلهم طرفاً حقيقياً وأصيلاً في كل ما تتخذه من أفكار ورؤى وقرارات تتعلق بالهم الثقافي.. لا شيء، لا أحد يذهب إلى المبدع. وليت الأمر يقف عند محنة الكتابة، بل عليه وحده أن يتحمل محنة نشر كتابه، بخاصة حين يصطدم مع ذائقة المؤسسة التقليدية، أو يقع فريسة لناشر خاص، أو يسقط في براثن الغوغائية النقدية التي صدأت وتكلست أدواتها، ولم تعد صالحة، لا للأمس أو اليوم أو الغد.

مشهد ثقافي لا حوار فيه، لا قضية، لا منبر حقيقياً، لا هم يحرك الروح.. ناهيك عن المغامرة والحلم الخلاق.

والمؤسف أن هذا المشهد يبدو على السطح مكتظاً بالعديد من الأنشطة: ندوات ومؤتمرات ومهرجانات ومعارض يصعب على المرء متابعتها، لكن معظمها لا يؤصل لشيء، ولا يخرج عن نطاق الحشو، وترقيع الجسد المهترئ. ومن ثم لا يبتعد عن هذا المجلات التي تصدر عن هيئات تابعة لوزارة الثقافة، وهما مجلتا «المحيط الثقافي» و«الثقافة الجديدة»، وكذلك صحيفة «القاهرة» الأسبوعية. فكلها تحكمها آلية نمطية، وتفتقد أبسط حدود الرؤية الصحيحة في تناول مشكلات وقضايا الواقع الثقافي، ويغلب عليها طابع «الباترونات» والعواميد الصحافية السمجة. خارج هذا السرب تقف مجلة «فصول»، التي تصدر عن هيئة الكتاب كاستثناء وحيد في هذا السياق، لكن طابعها كمجلة محكمة وفصلية، يجعلها بمثابة كتاب جيد، يصدر كل ثلاثة أشهر، ثم إن رؤيتها أكثر انفتاحاً على المنجز الغربي، وقضايا الثقافة الغربية بشكل عام، ويظل الواقع الثقافي المصري مجرد هامش ضئيل في طيات أعدادها.

ولو أمعنا النظر في المجلات والصحف الأدبية التي تصدر خارج هذا السياق، وهما تحديداً صحيفة «أخبار الأدب» الأسبوعية، والتي تصدر عن مؤسسة الأخبار، ومجلة «أدب ونقد» التي تصدر عن حزب التجمع المعارض. فالأولى برغم مناوشاتها لقضايا الواقع الثقافي وبشكل ساخن أحياناً، إلا أنها في المحصلة النهائية تظل محكومة بسياسة المؤسسة الرسمية التي تصدر عنها، والثانية يحكمها طابع تجميعي توفيقي يجعل المجلة تقف دائماً في منطقة رد الفعل، وأيضاً في إطار أيديولوجية الحزب.

وفي مجال النشر انطفأ بريق مشروع مكتبة الأسرة، بعد أن اتسعت مساحة المجاملة فيه على حساب القيمة، وبعد أن أصبح حقاً مشروعاً لمجموعة من الكتاب، ورؤساء تحرير الصحف والمؤسسات الثقافية الذين يتخمون المشروع كل عام بكتب لا ترقى ـ في معظمها ـ حتى إلى مستوى الخواطر واليوميات الأدبية. وفي هذا المجال يظل المشروع القومي للترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة، والذي أصدر نحو 800 كتاب حتى الآن هو الأوفر حظاً وقيمة، ويعوض كثيراً عن مؤتمرات وندوات المجلس التي يتساوى فيها الأحياء والأموات، وقلما تلتفت إلى شيء اسمه الثقافة المصرية في واقعها الراهن الحي.

وباستثناء مهرجان الاسماعيلية للأفلام الروائية والقصيرة، الذي يطور نفسه بشكل لافت من دورة الى أخرى يبدو الأمر محزناً في المسرح والسينما، فليس ثمة عرض مسرحي واحد خلال هذا العام يلفت النظر ويعلق بالذاكرة. ومن زمرة 24 فيلماً سينمائياً يبقى فيلم «بحب السيما» الوحيد الجدير بالمشاهدة والاهتمام، وللأسف حوصر هذا الفيلم، ووصل الأمر إلى مطالبة القضاء بوقف عرضه بسبب ما يكشف عنه بطله القبطي من تناقضات حول رؤيته لذاته، ولواقعه القبطي الذي تقترب منه السينما المصرية لأول مرة بعمق فني وإنساني نبيل.

ولا يختلف الأمر كثيراً حين نمد المشهد إلى الحركة التشكيلية. فبرغم تعدد وتنوع قاعات العرض الرسمية والخاصة، واستضافة القاهرة لأكثر من بينالي على مدار العام، إلا أن هذه الحركة لا تزال تعاني قصوراً نقدياً حاداً يضيء سلبياتها وإيجابياتها، ويخلق حتى لدى قطاع كبير من المثقفين وعياً بالقيمة البصرية، وبماهية الفن التشكيلي نفسه.

ويجتهد المسؤولون في دار الأوبرا المصرية على أن تظل الأوبرا فن الصفوة، من أصحاب الياقات المنشاة وأربطة العنق البراقة، حتى أصبحت الأوبرا مكاناً مقصوراً على الحفلات والمهرجانات فحسب، وليس بؤرة إشعاع يمكن أن تساهم في خلق وعي فني بالتراث الموسيقي العالمي والعربي، وتلعب في الوقت نفسه دوراً في تنقية أذن الناس من التلوث الموسيقي الذي يكاد يصيبهم كل يوم بالصمم والخواء.

ومن باب الرثاء والوجع أتذكر أنه منذ مؤتمر المثقفين المصريين الشهير في عام 1967 بمدينة الزقازيق وفي أعقاب هزيمة يونيو (حزيران) المريرة، لم تشهد الحياة الثقافية في مصر مؤتمراً للمثقفين المصريين. لقد طرح المثقفون والكتاب والشعراء والنقاد على اختلاف مشاربهم في ذلك المؤتمر، همومهم وانتقاداتهم للنظام الحاكم آنذاك بكل صراحة وجرأة، وجسدوا ذلك في مجموعة من التوصيات المهمة، تحول الكثير منها إلى برامج وخطط ثقافية. والسؤال الآن: هل تصلح مؤتمرات أدباء الأقاليم التي تباركها وترعاها وزارة الثقافة أن تكون بديلا عن هذا المؤتمر، وهي مؤتمرات يعرف المسؤولون عنها مدى تعفنها وضحالتها، وأنها لا تغني ولا تسمن من جوع!

ماذا تبقى إذن في هذا المشهد الثقافي المزري غير أن أذرف دمعة على كاتب جاد، أو فنان أصيل رحل عن عالمنا تحت وطأة المرض أو الجوع أو الحرمان.. أو على واقع ثقافي كان له بالأمس القريب كينونته وجماله الخاص.. أو على أحزاب وقوى سياسية ترفع كل يوم شعارات التغيير والإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولا يخطر ببالها أن ذلك كله مرهون بإصلاح الجذر الثقافي، فهو القيمة والمقوم الأكثر تأثيراً وعمقاً في تشكيل الهوية والوعي والوجدان.