مرافعة ضد ممارسة النفاق والتضليل في عالم الطب

«الأطباء الثلاثة» للفرنسي مارك زفران تعكس صورة غير مألوفة لعالم يفترض أن تسوده الرحمة

TT

تاريخ العلاقة بين الأدب والطب قديم في التقاليد الأدبية الغربية، سواء على مستوى تصوير وانتقاد عالم الاطباء أو على مستوى قيام ممارسي العلاج باقتحام عالم الكتابة، مسلحين بمعرفة الجسد في مسعاهم لدراسة نفسيات الشخصيات وهواجسها. وينشغل الوسط الثقافي الفرنسي هذه الأيام بصدور رواية جديدة للكاتب مارك زفران، المولود في الجزائر عام 1955، تحمل عنوان «الأطباء الثلاثة»، بشكل يحيل ذاكرة القارئ على رواية ألكسندر دوما الشهيرة «الفرسان الثلاثة».

غير أن هذه الرواية لا تحمل، مثل العديد من سابقاتها اسم الدكتور مارك زفران، اختصاصي الحمل والولادة في أحد المستشفيات الفرنسية، بل اسم فني اختاره المؤلف ليوقع به كتاباته التخييلية هو مارتن وينكلير. فيما يمهر باسمه الحقيقي فقط كتبه ومقالاته التي تتناول المواضيع العلمية والطبية، رغم أن النجاحات الأدبية لهذا الطبيب قد فاقت بكثير ما قام به في ميدان تخصصه.

ويكفي أن نعرف أن روايته التي تحمل مثلا عنوان «مرض ساش» الصادرة في 1998 قد بيع منها 600 ألف نسخة، وحققت انتشارا لا يحلم به حتى كبار الكتاب والأدباء، رغم أن تكوين زفران كان طبيا محضا في البداية، بسبب ولادته من أب اشتغل بدوره طبيبا اختصاصيا في الأمراض الصدرية بالجزائر خلال فترة الاستعمار الفرنسي، قبل أن تهاجر الأسرة إلى فرنسا سنة 1961، وقبل أن يدخل صغيرها مارك عالم الأدب من باب الهواية.

وما أطلق شرارة الكتابة لدى زفران، كان دخوله إلى معترك التكوين القاسي في كلية الطب بمدينة تور الفرنسية، حيث أهالته درجة قسوة الأساتذة على طلبتهم، وعنف الطلبة اتجاه بعضهم البعض وتنافسهم في إطار نظام تعليمي انتقائي يختتم بمباريات لإقصاء الأضعف والأقل قدرة على المنافسة. لذا يتساءل زفران: «كيف يمكن لأساتذة كلية الطب، وهم من كبار الأطباء أن يمارسوا مهنة النبل والرحمة ومساعدة المرضى وتخفيف آلامهم إذا كانوا يكونون الطلبة بقسوة وتشدد كبيرين في إطار نظام تعليمي يقوم الفوارق بين القادرين وغير القادرين ويقصي الطالب أو المتدرب لدى أية لحظة ضعف؟ إن هذا النظام وهذا الجو العام متناقضان مع المفهوم العام لمهمة علاج الناس».

هذه هي الأجواء الأساسية التي تحاول رواية «الأطباء الثلاثة» رصدها بدقة العارف، وبخبرة المجرب، هذه الأجواء التي يتدخل التخييل ليزيدها كثافة ورهبة. وخلال تقدم السرد، نلاحظ أن رواية، مارك زفران، تستوحي بنية أحداث رواية «الفرسان الثلاثة» الشهيرة لصاحبها ألكسندر دوما، وتستحضر منها جملا وتعابير وصورا متعددة. كما تقدم مجموعة من عناوين فصولها محاكاة ساخرة لكتاب، دوما، قصد تصوير حياة ثلاثة أطباء معاصرين بدأوا ممارسة المهنة في نفس الوقت.

لكن لماذا لجأ مارك زفران، أو مارتان وينكلير، للاحتماء بظلال رواية كلاسيكية ما دام قد مارس الكتابة والتخييل منذ عقود وحقق نجاحا أدبيا مشهودا، وما دامت رواياته الأخرى قد جعلت اسمه ذا دلالة بالنسبة لاذن القارئ وأفق انتظاره؟ في الحقيقة أن ذلك إنما يأتي لأجل رسم صورة بليغة لعالم الممارسة الطبية المعاصرة الذي يتصرف وفق بنيات لا شعورية تعود لأزمنة قديمة.

فهذا العالم منظم مثل فرنسا ما قبل الثورة، أي مثل فرنسا الإقطاعية التي سيطرت فيها المركزية والعبودية وتنمر طبقة واحدة على باقي مكونات الشعب.

لذا فرواية «الأطباء الثلاثة» عمل يهدف لإشراك القارئ العادي في فهم العالم المغلق للطب وللممارسة العلاجية حتى يتمكن من امتلاك رؤية وموقف صحيحين منه، وكذا لفضح الأطباء ذوي النيات والأخلاق السيئة.

وللإشارة فالنشاط الأدبي لمارك زفران لا يقتصر على الكتابة التخييلية فحسب، بل يمتد كذلك نحو تقديم برامج أدبية في الإذاعة وعلى الإنترنت. وهكذا قدم سلسلة مشوقة له في «راديو فرنسا» قبل أن تحجب بسبب طابعها النقدي. وبعدها اتجه لخلق موقع إلكتروني أدبي زاره منذ اغسطس (آب) 2003 أكثر من 200 ألف متصفح. وهو ينشر فيه كتابات وأعمالا تتركز بالأساس على التنديد بجميع أشكال الشطط في استعمال السلطة العلمية والتضليل الإعلامي والبلادة النمطية السائدة في عالم الممارسة الطبية والعلاجية وفي باقي ميادين الحياة.