الكاتبة العربية تقتحم فناً كان مقصوراً على الرجال : السيرة الذاتية ونقدها

TT

لم يعد الحديث عن السيرة الذاتية ونقدها، في الأدب العربي الحديث، مقتصرا، كما في السابق، على نوع كتابة السيرة الذاتية والنقدية التي ينتجها الكاتب والناقد الرجل فقط، الذي قدم في هذا الشأن العديد من النصوص السيرـ ذاتية، وكذا العديد من الخطابات النقدية الموازية لها، سواء في شكلها الكتابي القديم أو الحديث. ومن بين هؤلاء النقاد والمهتمين، من الرواد والمحدثين، نذكر: شوقي ضيف، أنيس المقدسي، يحي إبراهيم عبد الدائم، إحسان عباس، جابر عصفور، محمد عبد الغني حسن، ماهر فهمي، محمد المعاملي، عبد القادر الشاوي، عمر حلي، مصطفى نبيل، أنور الجندي، عبد العزيز شرف، أنور شقير، شكري المبخوت، عبد الله عبد الرحمن الحيدري، عبد اللطيف محمد السيد الحديدي، وغيرهم من النقاد والباحثين العرب ممن اهتموا بدراسة وتحليل خطاب السيرة الذاتية العربية في بعدها الأدبي القديم والحديث، سواء تم ذلك عندهم بشكل متخصص، مكثف ومسترسل، كما هو الشأن لدى بعض الأسماء السابقة، أو تم ذلك بشكل دوري وعابر. وأسماء النقاد العرب المرتبطة بهذا المستوى الثاني تبقى كثيرة ومتفرقة جغرافيا. ومن شأن المتأمل كذلك في التراكم الحاصل، اليوم، في الإنتاج الأدبي والنقدي السير ـ ذاتي الذي حققته المرأة العربية أن يلمس عن كثب مدى الطفرة الكمية والنوعية التي حققتها المرأة العربية، الكاتبة والناقدة، على مستوى كتابتها للسير الذاتية، وأيضا على مستوى إنتاجها لخطاب نقدي وتحليلي سيرـ ذاتي مواز، سواء اشتغل هذا الخطاب على السير الذاتية العربية التي كتبتها المرأة أو التي كتبها الرجل.

وإذا كانت الدراسات والكتابات التي ألفها النقاد العرب، ممن تمت الإشارة إليهم من قبل، تبدو معروفة ومتداولة على نطاق مرجعي وقطري واسعين، فإن معرفتنا بما أنجزته المرأة العربية الناقدة، في هذا الإطار من البحث والنقد السير ـ ذاتي، مازالت غير معروفة بالشكل الكافي الذي يضمن لها التأثير والمرجعية التي تستحقها اليوم، بالنظر لتراكمها ولأهميتها وللنتائج التي حققتها أيضا، وهو ما يعني أن مساهمة المرأة العربية في بلورة خطاب نقدي أدبي بشكل عام لا يقل أهمية وتأثيرا مما حققه الناقد الرجل في هذا المجال.

وبالنظر إلى الكتب والدراسات المفردة، التي أنجزتها المرأة العربية الناقدة حول السيرة الذاتية تحديدا، نجد أنه تراكم مهم ولافت، لما يتميز به من جدة في البحث في قضايا السيرة الذاتية عموما في أدبنا النقدي العربي الحديث، وكذلك اعتبارا لندرة من يشتغلن من النساء الكاتبات في العالم العربي اليوم بالنقد الأدبي، وخصوصا ما يتعلق منه بجنس السيرة الذاتية. ويكفي أن نذكر، هنا، بعض أسماء هؤلاء الناقدات، ممن ساهمن بكتبهن وبمقالاتهن النقدية في بلورة خطاب نقدي أتوبيوغرافي حداثي، لكي نلمس عن قرب مدى الحضور اللافت الذي حققته المرأة العربية الناقدة اليوم على صعيد الممارسة النقدية الأتوبيوغرافية العربية بشكل عام، وخصوصا في مصر وتونس، في الوقت الذي تغيب فيه تمثيلية بعض البلدان العربية على مستوى هذا الضرب من الاهتمام والممارسة النقدية، ويتعلق الأمر هنا بالباحثات والكاتبات والناقدات العربيات: رشيدة مهران، مها فائق العطار، ليانة بدر، فوزية الصفار الزاوق، ريم العيساوي، تهاني عبد الفتاح شاكر، فدوى ملطي دوغلاس، ماري تريز عبد المسيح، أحلام دياب، هدى الصدة، سعاد عبد الوهاب، زهرة جلاصي، شيرين أبو النجا.. وهو ما يظهر أنهن يشكلن اليوم تراكما مهما في الأسماء والكتابات، هذا الذي ما فتئ يزداد اتساعا وتأثيرا، وخصوصا على مستوى الدراسات والأبحاث الأكاديمية.

فأخيرا فقط تعززت الدراسات الأدبية النسائية حول السيرة الذاتية العربية الحديثة بكتاب جديد للباحثة التونسية الدكتورة جليلة الطريطر، بعنوان «مقومات السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث: بحث في المرجعيات». وهو كتاب ضخم صدر عن منشورات مركز النشر الجامعي ومؤسسة سعيدان للنشر، تونس 2004.

يقع هذا الكتاب المهم في 790 صفحة، ويعتبر، إلى حد الآن، الأضخم من بين الكتب والدراسات التي اهتمت بمقاربة النصوص السير ـ ذاتية العربية، بحيث يتوزع على جزءين أساسيين، كما يشتمل على ستة أبواب كبرى تضم بدورها مجموعة من الفصول والمباحث، وهي: الملفوظ السير ـ ذاتي بوصفه ملفوظا سرديا ـ السيرة الذاتية من النص إلى الجنس الأدبي ـ إشكالية إنماء السيرة الذاتية إلى الملفوظين التخييلي والواقعي ـ خطاب السيرة الذاتية العربية النقدي: السمات والإشكاليات ـ المدونة السيرذاتية العربية الحديثة ـ المقومات الإبداعية للسيرة الذاتية العربية الحديثة. والكتاب في الأصل عبارة عن بحث أكاديمي أعدته جليلة طريطر بتونس تحت إشراف الدكتور حمادي صمود، رغبة منها في تسليط المزيد من الضوء على النصوص الممثلة لهذا الجنس في أدبنا العربي، وتعمق خصوصياتها، التي لا يمكن فهمها حق الفهم إلا في علاقة الجنس السير ـ ذاتي بسياقيه: الأدبي وسياقه التاريخي العام (ص1 ـ 2).

وأهمية هذا الكتاب، كذلك، تكمن في المجهود الكبير الذي بذلته الباحثة التونسية في تتبعها وتقصيها للمشهد السير ـ ذاتي النقدي العربي، بما يقتضيه ذلك من إضافات وتعديلات، ومن عمل على ربط ذلك كله بالمقاربات السير ـ ذاتية الأوروبية خصوصا، وهو ما يظهر جليا من خلال المباحث التي خصتها الباحثة لهذا المستوى من الدراسة والتحليل والتقويم، مع ما تطلبه ذلك منها من استيعاب لأهم النظريات السير ـ ذاتية الغربية، ومواكبة لمختلف الدراسات التطبيقية التي تولدت عن تلك النظريات، وعبرت عن توجهاتها، باعتبار ذلك يشكل الخلفية النقدية العامة التي انطلقت منها الباحثة لتحسس قضايا السيرة الذاتية، إلى جانب أخذها بعين الاعتبار كذلك لخصوصية النصوص السير ـ ذاتية العربية، في محاولة منها لتفادي الإسقاط المفاهيمي الغربي على نصوص المدونة السير ـ ذاتية العربية، تلك التي حددت الباحثة زمنيتها من أواخر العشرينيات إلى الستينيات، أي انطلاقا من المرحلة التأسيسية الأم لظهور نصوص السيرة الذاتية العربية الحديثة. ويتعلق الأمر بالنصوص السير ـ ذاتية لكل من طه حسين وتوفيق الحكيم وجرجي زيدان وعباس محمود العقاد وسلامة موسى وميخائيل نعيمة، إلى جانب توسلها بعض النصوص السير ـ ذاتية العربية التكميلية، على اعتبار أن ذلك كله يشكل فضاء سير ـ ذاتي للدراسة والتقويم واستخلاص العديد من النتائج التي توصل إليها هذا البحث، سواء ما يرتبط منها بالشكل الفني للسيرة الذاتية، أو ما يتعلق بمحتواها الآيديولوجي.

والمتأمل في التراكم النقدي الأتوبيوغرافي النسائي، بشكل عام، يتبين له مدى انفتاح العديد من خطاباته ومقولاته النظرية والنقدية على المنجز النظري والنقدي الغربي، الفرنسي والانجليزي على الخصوص، من زاوية استلهام وتشغيل بعض مفاهيمه ومعطياته النظرية الجوهرية، كما حددتها «نظرية الأتوبيوغرافيا»، وكما تبلورت قسماتها العامة عند المنظر الفرنسي فيليب لوجون، على وجه الخصوص، وأيضا عند غيره من المنظرين والنقاد الغربيين، كجورج ماي وجورج كيسدورف وجان ستاروبنسكي وإليزابيت بروس، وغيرهم.. وذلك من غير أن تغفل تلك الدراسات تفكيرها الموازي، أيضا، في المنجز النقدي السيرذاتي العربي، الأمر الذي أكسب هذه الأبحاث والدراسات والقراءات أبعادا منهجية ومعرفية دقيقة في التحليل والمقاربة والاستنتاج.

كما أن من شأن مثل ذلك الاهتمام والتفاعل أن يدعما كذلك، كتابيا ونظريا، المشروع الأتوبيوغرافي العربي، بشكل عام، في أبعاده الكتابية والنقدية، وأن يدحضا بعض الأطروحات، الغربية والعربية، تلك التي ما فتئت تواجه التراث الأتوبيوغرافي العربي، القديم والحديث، وهي تتوخى بذلك التقليل من أهميته وقيمته، وذلك جانب لم يفت الباحثة جليلة الطريطر أن تتعرض له بالنقد، مبينة بذلك محدوديته وبساطته ونقائصه أيضا، سواء لدى رواده من المستشرقين أو لدى من تبعهم في ذلك من النقاد والمفكرين العرب، الأمر الذي يجعل من هذا الكتاب بحق واحدا من أهم الكتب والدراسات النقدية العربية التي كتبت حول موضوع السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث، بالنظر إلى ما تتميز به مؤلفته من خبرة واطلاع واسعين، ساهما في تعميق مستويات مقاربتها للعديد من القضايا التي تناولها هذا الكتاب بالبحث والدراسة والتأمل والتقصي، وما تميزت به أيضا لغتها النقدية والتحليلية من جرأة في التقويم واستخلاص النتائج، وهو ما يجعل من هذا الكتاب لبنة أساسية وإضافة جديدة إلى المنجز النقدي العربي حول خطاب السيرة الذاتية بشكل عام.