«المذكرات والسير الذاتية في فلسطين وبلاد الشام» في ندوة فلسطينية - لبنانية

TT

ما علاقة المذكرات والسير الذاتية بالكتابة التاريخية؟ وما الفارق بين كتب السيرة وكتب التراجم والطبقات؟ وهل تعتبر السير والمذكرات مصدراً من مصادر التاريخ ام مجرد مصدر ثانوي يستأنس به علم التاريخ احياناً؟ وما هو شأن الصورة الفوتوغرافية في معرفة التاريخ، وكيف يمكن التفريق بين الوثيقة التاريخية والأوراق التاريخية؟

هذه الاسئلة وغيرها كانت محور الندوة التي عقدتها «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» في بيروت بالتعاون مع مؤسسة هينرخ بُل الالمانية، واستمرت ليومين دارت خلالها مناقشات علمية مهمة حول مجموعة من البحوث انتظمت كلها تحت عنوان شامل واحد هو: «المذكرات والسير الذاتية في تاريخ فلسطين وبلاد الشام». وقد شارك في هذه الندوة باحثون من الولايات المتحدة واسبانيا ولبنان وسورية وفلسطين.

رحب الدكتور سليم تماري (استاذ علم الاجتماع في جامعة بير زيت) بالباحثين المشاركين، ثم افتتح الدكتور طريف الخالدي (استاذ الدراسات الاسلامية في الجامعة الاميركية في بيروت) اعمال الندوة بكلمة اشار فيها الى غنى التراث العربي بهذا الحقل من المعرفة، واعاد التذكير بكتب الطبقات والتراجم والسير المشهورة في تاريخ التدوين العربي القديم. وعلى الفور بدأت جلسات الندوة على النحو التالي:

ادار الجلسة الاولى الدكتور فواز طرابلسي (الجامعة اللبنانية ـ الاميركية) وتحدث فيها كل من الدكتورة خيرية قاسمية (جامعة دمشق) والدكتور دوايت رينولدز (جامعة غرناطة) والكاتبة دلال البرزي (الجامعة اللبنانية) والدكتور فيصل دراج (دمشق). وتركزت ورقة خيرية قاسمية على المذكرات والسير الذاتية كمصدر لتاريخ فلسطين في القرن العشرين، فرأت ان تسجيل المذكرات وكتابة السير الذاتية لم تنالا العناية الكافية في الكتابات العربية مع انهما تشكلان مادة اساسية لدراسة التاريخ، فهما تقدمان شهادة شخصية صادرة عمن شارك في صنع الحدث، وتغوصان في تفضيلات انسانية من الصعب العثور عليها في الكتب العادية.

أما ورقة دوايت فكانت بعنوان «من ترجمة النفس الى السير الذاتية»، تحدث فيها عن الابعاد التاريخية والادبية لهذا الحقل من التدوين. بينما رأت دلال البرزي في ورقتها «السيرة والتاريخ: زمن واحد بمخيلتين متكاملتين» ان التاريخ يلتقي السيرة في وحدة الزمان والمكان وفي الفعل والمعنى، وميزت بين السيرة المكتوبة بقلم صاحبها (أي السيرة الذاتية) والسيرة المروية بقلم باحث آخر (أي السيرة الموضوعية)، وخلصت الى أن الضرورة تحتم تضافر التاريخ والسيرة معاً لتكوين المعرفة التاريخية. وقدم الدكتور فيصل دراج ورقة بعنوان: «السيرة الذاتية كتاريخ موضوعي: قراءة في مذكرات خليل السكاكيني ونجيب نصار»، فرأى ان نص «مفلح الغساني» وهو سيرة نجيب نصار نفسه، فضلاً عن مذكرات خليل السكاكيني تكمن، بالدرجة الاولى، في انها سيرة ذاتية لمثقف ثقافة حديثة ويعيش في الوقت نفسه، في مجتمع تقليدي. وفوق ذلك فإن مذكرات السكاكيني عبارة عن بانوراما واسعة للحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية في فلسطين في النصف الاول من القرن العشرين.

ادارت الجلسة الثانية الدكتورة بيان نويهض الحوت وقدمت فيها ورقة الدكتور عادل مناع (مدير مركز دراسات المجتمع العربي في معهد فان لير في القدس) التي قرأها بالنيابة عنه صقر ابو فخر وكانت بعنوان «جبرا ابراهيم جبرا والسيرة الذاتية بعد النكبة». وحاولت هذه الورقة مناقشة إشكاليات استعمال السيرة الادبية في كتابة تاريخ فلسطين قبل النكبة وبعدها من خلال قراءة مقارنة لبعض نماذج السير الذاتية التي كتبها ونشرها فلسطينيون في العقود الاخيرة. اما الدكتور ماهر الشريف (المعهد الفرنسي للشرق الادنى في دمشق) فقدم ورقة بعنوان «المذكرات كمصدر لدراسة تاريخ الحركة الشيوعية في فلسطين» سلط فيها الضوء على مذكرات نجاتي صدقي ومذكرات محمود الاطرش، ووضع المعلومات الواردة فيهما في مواجهة مع المعلومات الواردة في وثائق الارشيف السري للكومنترن الخاص بفلسطين. وعرضت الباحثة والاستاذة روشيل دايفز (جامعة ستانفورد) ورقة بعنوان «الكتب التذكارية للقرى المهدمة في فلسطين كسير جماعية». وهذه الورقة المهمة تختلف، الى حد ما، عن بقية الاوراق في هذه الندوة، لأن الكاتبة اختارت ان تركز على تاريخ القرى المهدمة لا على الاشخاص، باعتبار ان تاريخ القرية، او سيرتها، هي جزء من الذاكرة التاريخية الفلسطينية.

وختم الدكتور وجيه كوثراني (الجامعة اللبنانية) هذه الجلسة بورقة عنوانها «اشكالات الزمن التاريخي في قراءة المذكرات: مذكرات جمال الدين القاسمي ومشاهداته كنموذج». وبحثت هذه الورقة في اشكالات الزمن التاريخي استناداً الى تعريف مارك بلوخ للتاريخ بأنه علم البشر في الزمن وليس علم البحث في الماضي، وحذرت الورقة من «مرض الذاكرة» الذي يؤدي الى اختلاط الازمنة. ادار الجلسة الثالثة الدكتور محمد علي الخالدي (الجامعة الاميركية في بيروت) وتحدث فيها الدكتور عصام نصار عن «الالبوم الفوتوغرافي العائلي كمصدر لدراسة التاريخ»، فأشار الى غياب الارشيف الصوري الفلسطيني بسبب ضياع فلسطين وتمزق النسيج الاجتماعي والمؤسساتي، فلم يبق الا بعض الصور لدى عائلات هنا وهناك. وهذه الورقة غنية جداً بمحتواها وطريفة في موضوعها، ولعلها من البحوث القليلة في هذا المجال. اما الدكتور سليم تماري فقدم دراسة عن القدس في عهد الانتداب بعنوان: «مدينة الاوباش: القدس الانتدابية في المذكرات الجوهرية»، عالج فيها، استناداً الى مذكرات الموسيقار واصف جوهرية، الفترة الفاصلة بين المرحلة العثمانية والمرحلة الانتدابية في حياة القدس وكيف بدأت مظاهر الحداثة تزحف على هذه المدينة، هذه الحداثة التي تجلت في اضمحلال الهوية الحاراتية في البلدة القديمة وظهور ثقافة الشارع التي كانت تتسم بالمشهدية العلمانية.

خاتمة المطاف في هذه الندوة كانت مداخلة روز ماري صايغ عن مذكرات زوجها الدكتور يوسف صايغ التي لم تنشر بعد. وأعقبت ذلك مناقشة عامة نقدية تناولت الآراء التي عرضت في هذه الندوة، والتي اشتبكت مع الفكرة الاساسية لهذه الندوة، اي علم التاريخ من خلال مصادره المتاحة، بما في ذلك الصورة والوثيقة والخبر الصحافي.