كلكامش العراقي.. موجة طوفان لا تستقرّ على حال

ترجمة إنجليزية جديدة لأقدم ملحمة إنسانية

TT

رحبت الأوساط الثقافية ببريطانيا، ترحيباً مفرطاً، بترجمة الشاعر الإنجليزي ستيفن ميتشل الجديدة لملحمة كلكامش على الرغم من أنّها مترجمة سابقاً، أكثر من دزينة من المرّات، وهو إلى ذلك، لا يعرف اللغة السومريّة أو الأكدية بشقّيها البابلي أو الآشوري. ما فعله بالضبط، أنّه قارن موازناً، بين ستّ ترجماتٍ قديمة، ثمّ صاغ منها نصّاً جديداً نثريّاً كمرحلة أولى، ثمّ «بدأ عمله الفعلي» كما يقول، ليصوغها صياغة شعريةً بمصاف الشعر الإنجليزي. (المقدمة: ص 65 ـ 66).

ليست طريقة ستيفن ميتشل هذه، صنعةً لا أختَ لها في الترجمات الإنجليزية عموماً، وفي ترجمة ملحمة كلكامش على وجه الخصوص. فقد صدرت من قبل مثلاً، ترجمة ديفد فيري FERRY في عام 1992 ولم يكن يعرف هو الآخر اللغة أو اللغات التي كُتِبتْ بها كلكامش. جاء في المقدمة التي كتبها وليم ل. موران لهذه الترجمة: «لقد اعتمدَ على ثلاث ترجمات سابقة… دعنا نقول عاجلاً إن هذه الترجمة هي قصيدة ديفد فيري… فبدل إعطائنا ترجمة ـ كما يُفهَم من هذا المصطلح ـ أعطانا تحويلاً أو استحالة لها: Transformation (ص:x1). اتبع هذه العادة باللغة العربية عبد الحق فاضل. إذ ترجم هذا الأديب المبرّز نفس الملحمة شعراً من قبل، وهو لم يكنْ يعرف من لغاتها الأصلية شيئاً، إنّما اعتمد على مصدرين فقط عربي وإنجليزي. (حتى هذا المصدر العربي لكلكامش - الطبعة الأولى ـ كان قد ترجمه طه باقر عن الإنجليزية مع بشير فرانسيس). وذكر عبد الحق في مقدمته: «فتكون الملحمة مناصفة بينه (أي المؤلف) وبيني. ملحمة داخل ملحمة. ملحمة عصرية داخل ملحمة أثرية. هو كتب لأبناء جيله وأنا أكتب لأبناء جيلي». (المقدمة: ص:25)

يقيناً ما دفع ستيفن ميتشل إلى ترجمته الجديدة هو خيبته من الترجمات السابقة، وهي تقريباً نفس الخيبة التي برّر بها عبد الحقّ فاضل ترجمته.

يقول ستيفن ميتشل: «لقد شرعتُ في هذه النسخة المعدّلة (Version) (لم يُسَمِّها ترجمةً عن عمد) من كلكامش لأنني لم أكنْ مقتنعاً أبداً بلغة أية ترجمة من ترجماتها التي قرأتها. أردت أن أوجد للقصيدة صوتاً أصيلاً: كلمات لدنة وقويّة بما فيها الكفاية لتوازي متانة القصّة».

بينما يقول عبد الحق فاضل :«فتشت عن أيّ كتاب يتناول فنيّة الملحمة في دراسة شاملة تفصيلية فلم أجدّ. واتصلتُ ببعض المكتبات العالمية فلم أفُزْ بطائل. فحصل عندي ما يشبه القناعة بأن مثل هذه الدراسة التفصيلية لا وجود لها» (المقدمة ص:13). ولكن لماذا لم يُكتبْ لترجمته الفنّية هذه النجاح، كما سنرى؟

لا ريب; أنّ لمترجميْنا هذين أسوة بالمترجم الآشوري سين ـ ليقي ـ اونني الذي ترجمها عن البابلية، ربما حوالي 1250 ق. م. فغيّر وقدّم وأخّر، وأضاف وحذف، وهو عين ما فعله مترجمانا.

وبعدُ: لماذا كلّ هذا الاهتمام العالمي بهذه الملحمة؟

يقول آرثر أيْ. براون في كتابه: «السرد، ومعنى الحياة، وملحمة كلكامش»: «نقرأ ملحمة كلكامش بعد أربعة آلاف سنة لأننا علماء وأشباه علماء، ونودّ أن نتعلم شيئاً عن التاريخ البشري، ونقرأها كذلك لأننا نريد أن نعرف معنى الحياة».

إلاّ أنّ مكانة كلكامش لا تقتصر على أهميتها الدينية، أو الثقافية، أو الفيلولوجية فقط، وإنما، وبالدرجة الأولى ـ بالنسبة لنا كقرّاء ـ على تقنياتها في فنّ التأليف الأدبي. هذه التقنيات هي التي حدتْ بالشاعر الألماني البارز رينر ماريا ريلكه على القول في إحدى رسائله عام 1916: «ملحمة كلكامش مذهلة… أعتبرها من بين أهم الأشياء التي يمكن أن يصادفها إنسان». «لقد غمرت نفسي بها، فخبرتُ في تلك الكسر الهائلة من الألواح الطينية المفخورة أنظمة وأشكالاً تنتمي إلى الأعمال الأدبية المجوّدة التي أنتجتها (الكلمة) الساحرة في كلّ تاريخها». يعلّق ستيفن ميتشل على قول ريلكه هذا: «ومثلما ظهر قصر «علاء الدين» (المسحور) من لا مكان بلمح البصر، هكذا ظهرت ملحمة كلكامش لريلكه لأوّل مرّة كتحفة من تحف الأدب العالمي». (المقدمة ص:3).

مع ذلك، ما من ناقد - على حدّ علمي ـ حاول دراسة هذه الملحمة من حيثُ تقنياتها التأليفية دراسة نقدية تشريحية، تلك التقنيات التي ما أن يمرّ بها المرء حتى يطير النوم من عينه.

إذنْ أدناه محاولة أولية لسدّ هذا الفراغ. نظراً لضيق المجال، ولأنني محدد هنا بعددٍ معيّن من الكلمات، لذا سأقتطع من هذه المقالة الطويلة مقطعاً واحداً يتناول تقنيات عمليات التشابيه التي تَفَوّق، وبرع بها شاعر هذه القصيدة الملحمية، لدرجة قد لا يكون لها مثيل في مكان آخر.

تدلّل التشابيه في هذه القصيدة الملحمية على قدرة شاعرها على تقمّص واستبطان الكائنات الحية والجامدة، وهذا ما يندر وجوده في الشعر العربي، كما تدلل على سعة وشموليّة الذهنيّة التي تقف وراءها، بحيث يصبح المشبَّه والمشبَّه به توأميْن يولدان وينموان معاً، ولا يكمل وجود أحدهما إلاّ بوجود الآخر كما سنرى. يصبح التشبيه حصيلة طبيعيّة.

لنا أن نعجب بقدرة امرىء القيس، أو قيس بن الخطيم، أو المتنبي، على التشبيه في الشعر العربي، أو حيويّته لدى شكسبير الإنجليزي، وييتس الإيرلندي، في الشعر الإنجليزي. ولكنّ تشابيه لورنس دَرُلْ، في النثر الإنجليزي تبقى حالة نادرة.

بالمقارنة، كثيراً ما يأتي التشبيه لدى أحمد شوقي، ومحمد مهدي الجواهري، على سبيل المثال لا الحصر، في القافية مؤدياً لها. وبتوقيته الاضطراري هذا، كثيراً ما يعتوره التمحّل. إنه عملية قيصرية لإنقاذ القافية المضنية في كثير من الأحيان. هنا قد لا نجد للتشبيه صلة بما قبله وما بعده.

خلاف ذلك، تمرّ عمليّة التشبيه في ملحمة كلكامش بثلاث مراحل متواشجة. المرحلة الأولى احتفالية تمهيدية له، هي كالاحتفالية بولادة طفل قبل مجيئه في حالة الفرح، وكالوصية تحسباً للموت في حالة الحزن.

بعد تلك الاحتفالية الأولى، وقد تطول، يولد التشبيه ولادة عفوية وحتميّة في آنٍ واحد.

أما المرحلة الثالثة فيبدأ فيها التشبيه بالعمل داخل الصور الشعرية اللاحقة. بكلمات أخرى لا ينقطع وبالتالي لا يتوقف مفعوله. لنأخذ التشبيه التالي في وصف البطل كلكامش:

«إنّه موجةُ طوفانٍ عاتيةٍ تُحطّم حتى جدران الحجر»

أوّلاً خصّ الشاعر الموجة بموجةٍ طوفانية، وخصّ الجدران بالجدران الحجرية. بهذه الحيلة الفنية البارعة قرّب الشاعر الصورة الشعرية من اليقين والواقع، مبعداً إيّاها في الوقت نفسه، عن الخيال. لكن قبل ذلك كان التأكيد في الأبيات السابقة على مآثر كلكامش في بناء أسوار أوروك التي «تومض كالبرونز»، وعلى الحجر المفخور، وعلى الأسس القوية للبناء. بالإضافة إلى ذلك فإنّ عملية البناء بحدّ ذاتها تدلّ على بداية تحضّر الإنسان. ملحمة كلكامش لا ريب معنية عموماً ـ من بين ما تُعنى به ـ بالصراع ما بين العهد الرعوي وعهد الاستيطان والتحضّر. لذا فجدران الحجر مؤثرة لأنّها مبنيّة بجهود بشرية وما تحطيمها إلاّ كارثة حضارية واقتصادية في آن واحد. يمكن قراءة التشبيه على ضوء آخر. فالموجة العاتية هي الظاهرة الطبيعية التي تتغلب على القوة البشرية. هذه الثيمة في الصراع بين قوى الطبيعة والبشر ستستمرّ إلى نهاية الملحمة. أكثر من ذلك، لقد سبق تشبيه كلكامش بموجةِ طوفانٍ عاتية، تشبيهٌ آخر بأنّه ثور نطّاح، ثمّ قال:

«إنّه المقدّم في الطليعة

وهو كذلك في الخلف

إنه المظلّة العظمى حامي (أتباعه) من الرجال

إنه موجة طوفان عاتية»

يبدو أن الشاعر أراد أن يوهمنا بأنّ كلكامش أصبح ظاهرة طبيعية خارقة أو هو شبيه بها. فالثور لدى السومريين والبابليين قوة سماوية، وهو بلا شك أحد البروج. بهذة القدرة الخارقة يستطيع أن يكون في المقدّمة وفي المؤخرة بلمح البصر.

هاتان الصفتان هما صفتا كلّ موجة، لأنها في المقدمة وفي المؤخرة بالنسبة إلى موقعها بين الأمواج الأخرى.

وحتى وصفه لكلكامش بنطح الثور لا يبتعد كثيراً عن الموجة. فهو مثلها يقتحم ثمّ يعود ثانية إلى الخلف ليستجمع طاقة أخرى للهجوم ثانية. (في كتاب ر. س. كلوغر: Kluger:

The Archetypal Significance Of GILGAMESH معلومات ميثولوجية مفيدة عن الثور والحيوانات الأخرى الوارد ذكرها في ملحمة كلكامش).

لنأخذْ مثالاً آخر. يصف راوية الملحمة في أول مشهد يظهر فيه الإنسان المتوحش أنكيدو. يقول:

«يكسو جسمه الشعر الكثّ

وشعر رأسه كشعر المرأة

ونمتْ فروع شعر رأسه جدائل كشعر «نصابا»

كانت هذه صورة أنكيدو قبل أن يدخل في مرحلة التحضّر. تأتي أهمية التشبيه أعلاه من الترميز للتوحش وللمرحلة الرعوية، بالشَّعَر المتروك على طبيعته. لا سيّما إذا قارنّا تلك الجدائل، بشعر كلكامش، وهو ابن المدينة حينما عاد إلى أوروك بعد قتل العفريت خمبابا في غابة الأرز:

«غسل (كلكامش) شعره الطويل وصقل سلاحه

وأرسل جدائل شعره على كتفيْه»

إنّ كلمة: غسل وصقل وأرسل تدلّ على أفعال إراديّة بعكس شعر أنكيدو.

قلنا إنّ التشبيه لا ينقطع مفعوله في ملحمة كلكامش. رأينا أوّلاً كيف قابل شاعر الملحمة، الشَّعَر الكثّ بالشّعَر المرسل على الكتفيْن. وثانياً لتهويل التوحش، أحضر الشاعر شخصية صياد في المشهد. لا بدّ أنه رأى أنواعاً مختلفة من الوحوش إلاّ أن أنكيدو وحش نادر جعل وجه الصيّاد «يمتقع من الخوف». عندها يدخل الصياد مع حيواناته إلى بيته. وحتى تكبر صورة الخوف جعل الشاعر الخوف يلازم الصيّاد حتى وهو داخل بيته:

«وهو لا يزال مشلولاً مذعوراً

اضطرب قلبه، وامتقع وجهه

حلّ بقلبه الرعب وصار وجهه

كمن جاء من سفر بعيد».

لماذا التشبيه بالسفر البعيد؟ لم تكنْ المسافة بين الصيّاد وبيته مسافة بعيدة. ولكن لأن خوف الصيّاد كان عظيماً، باتت المسافة على قصرها طويلة. ولزيادة التوكيد على الخوف وامتقاع الوجه جعل الشاعر ذلك الصيّاد شابّا لا خبرة له بالحياة. يذهب «فاغراً فاه» إلى أبيه:

«يا أبي رأيت رجلاً عجيباً قد انحدر من التلال»

ثمّ يسرد عليه صفات أنكيدو. ثمّ يذهب إلى كلكامش ويعيد عليه صفات أنكيدو. وهكذا بتعدد المرايا، يتعدد الحدث الواحد، ولكنّ صفرة الوجه تبقى ثابتة حتى النهاية.