حمد الجاسر: الإسلام أول من نادى بالجديد والحداثة

علاَّمة الجزيرة العربية يتحدث عن مشواره المعرفي وآرائه في قضايا مجتمعه

TT

هذا الحوار مع علاَّمة الجزيرة العربية هو من سلسلة لقاءات وحوارات مع مفكرين وباحثين وأدباء وفنانين أجريت في حقب مختلفة على أربعة عقود وهي تنشر للمرة الأولى

منذ ما يزيد على الربع قرن، التقيته في بيته بمدينة الرياض، وكان الدكتور عبد الرحمن الضويحي، الذي سبق ان التقيته في أميركا حاضراً في تلك الجلسة، وكان الحوار بيننا يدور حول عدم اهتمام الشباب بالأدب الجاد، وانصرافهم نحو وسائل الاعلام كالإذاعة والتلفزيون والصحف السيارة، فقلت للاستاذ الجاسر: لعل هذه الفرصة تكون لها جدوى وفائدة، لو أنك أتحت لي مجالاً للتحاور معك عن مسيرتك الثقافية والفكرية؟! فوجدت لديه استعداداً طيباً، ورحب بالفكرة أيما ترحيب.

* لنفرض ان حمد الجاسر، يتحدث الى حشد من الشباب عن مسيرته، وكيف استطاع ان يتبوأ هذه المكانة الرفيعة التي يحتلها، ليس في المملكة العربية السعودية فحسب، بل في الوطن العربي بأسره، فمن أين تبدأ حديثك؟

ـ أعتقد ان الانسان في هذه الحياة، لا بد ان تكون له دوافع تحفزه للاتجاه الذي يريد السير عليه في حياته.. طبعاً أنا درست في المعهد الاسلامي السعودي، وكان ذلك بين سنتي 1348، و1349 هجرية وما بعدهما.. هذا المعهد أنشئ في أول عهد الملك عبد العزيز عندما استولى على الحجاز، وأريد من هذا المعهد ان يكون مدرسة تُنشر فيها المبادئ والتعاليم الدينية الصحيحة، مضافة إليها العلوم الحديثة.

وكان البعض في ذلك الزمن ينفرون من التعليم الحديث في أول هذا القرن، خاصة في أوساط أهل نجد، وكما هو معلوم ان التعليم الحديث هو الاساس الذي يمكن بواسطته ان نستفيد من الحضارة.. وعندما أقول الحضارة، أقصد حضارة اليوم.

فالملك عبد العزيز، رحمه الله، أمر بإنشاء هذا المعهد، وان يقرر فيه تدريس العلوم الحديثة، التي كانت حلقات التدريس في الرياض وفي غيرها من المدن لا تقبل بهذا النوع من الدروس.. فالتحقت بهذا المعهد، وتخصصت في القضاء الشرعي.

بعد أن أكملت الدراسة الابتدائية والثانوية، ثم القسم العالي الذي هو القضاء الشرعي.. إلا أنني اتجهت بعد التخرج الى مهنة التعليم، وعينت أول ما عينت مدرساً في مدينة ينبع، وكنت أقوم بتدريس اللغة العربية والمحفوظات والانشاء، وكل ما يتعلق بهذه التخصصات.

* لا شك ان تجربة التدريس في ينبع، لها بعض الذكريات في نفسك؟

ـ هذا صحيح.. أنتم تعرفون أن ينبع عبارة عن ميناء يطل على البحر، وأنا أتيت إلى هذه المدينة، وفي صبيحة اليوم التالي ذهبت إلى المدرسة فقال لي المدير: ان طلبة السنة الثالثة الابتدائية عندهم درس في المحفوظات، والمحفوظات ـ كما هو معروف ـ عبارة عن قطع مختارة من الأدب شعراً أو نثراً.. وكانت القطعة المختارة يوم ذاك قصيدة أبي العلاء المعري المعروفة:

ألا في سبيل المجد ما أنا فاعلُ

عفافٌ واقدامٌ وحزمٌ ونائلٌ

أتيت إلى الطلاب فقالوا لي: نحب أن تشرح لنا القصيدة، فشرعت في الشرح، وقلت في اثناء ذلك: (ويثقل رضوى دونما أنا حامل).. ورضوى جبل عظيم سهل المرتقى قريب من المدينة ترقاه الابل (كما درست، وتعلمت) فقال لي الطلاب بصوت واحد: لا.. لا يا أستاذ ـ وكانت النافذة مفتوحة في الفصل ـ واذا بالطلاب جميعا يقولون لي وهم ينظرون من خلال النافذة: انظر إلى هذا الجبل الأسود الشامخ أمامك!! انه هو جبل (رضوى) وليس قريباً من المدينة!

فقلت في نفسي: لا خير في استاذ يكون طلابه أعلم منه بما سيلقيه عليهم في درسه الأول.. واستفدت شيئاً آخر: ان ما في الكتب ليس صحيحاً من كل وجه! لأنني هكذا تعلمت، وهكذا حفظت، وهو موجود في الكتب ان (الرضوى) قريب من المدينة، وانه سهل، وان الابل ترقاه.

فاتجهت بعد هذه الحادثة الى التعمق في معرفة المواضيع التي وردت في الشعر العربي القديم، ووجدت ان دراسة هذا النوع من العلم دراسة ممتعة.

واكتشفت ان الانسان عندما يريد ان يبحث مثلا عن (رضوى) في مختلف المعاجم، يجد أشياء طريفة من ناحية التاريخ. فـ(رضوى) عند الشيعة هو الجبل الذي اختفى فيه الإمام المنتظر، ولذلك ذكره كثير في شعره، و(رضوى) هي التي وردت في الحديث انها من جبال الجنة.

وعندما نطلع على بداية معلقة زهير بن أبي سلمى نجد أن بها الكثير من الأماكن قد ذكرت فهو يقول:

أمن أم أوفى دمنة لم تكلم

بحومانة الدراج فالمتثلم

ودار لها بالرقمتين كأنها

مراجيع وشم في نواشر معصم

فهو يذكر هنا (الدراج) و(المتثلم) و(الرقمتين)، وهناك (السوبان).. وأيضاً (وادي الرس).. الخ..

وعندما يبحث المرء في هذه المواقع، لا يجد البحث جافاً كما يتصور، بل يجد أن فيه شيئاً من النعومة المريحة لذهن الباحث.

* هل اتخذت من ذكر الأماكن في الشعر العربي منطلقاً لبعض دراساتك في الجغرافيا؟

ـ نعم.. ووجدت أن الدراسة في هذا الموضوع مهمة جداً، لأنها تربط حاضر الأمة بماضيها. فإذا أردنا المحافظة على كيانها، يجب أن ننقب، ونبحث، فالقرآن الكريم عندما يذكر: (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم)، وأنت كمسلم عليك ان تعرف أين يقع (حنين)، و:(لقد نصركم الله ببدر)، كذلك يجب ان تعرف هذه المواضع لكي تكون لديك صورة كاملة لهذه الواقعة، وان تتصورها. كذلك عندما تقرأ قول امرئ القيس:

غشيت ديار الحيّ بالبكرات

فعارمة فبرقة العبرات

فامرؤ القيس هنا لا يرطن، وانت عليك كقارئ أن تتبين حقيقة هذا الشعر، وتدرس بيئة الشاعر.

* إلى أين قادك البحث في مثل هذه الأمور؟

ـ قادني إلى التأليف، فألفت عدة كتب بعد أن قمت بزيارات كثيرة في داخل الجزيرة، وكان من نتيجتها أن ألفت:

«بلاد ينبع»، «مشاهد وانطباعات»، «مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ»، «في شمال غرب الجزيرة»، «غامد وزهران».

ثم اتجهت مع اخوان لي لوضع معجم جغرافي تاريخي شامل للبلاد العربية السعودية، هذا المعجم نذكر فيه ـ مثلا ـ اسم الموضع، ونذكر ما ورد عنه في كتب المتقدمين، ثم نصفه على ما هو عليه في وقته الراهن.. هذا المعجم في الحقيقة لا يزال في مراحله الأولى، وقد صدر منه حتى الآن سبعة عشر مجلداً، لأنني عندما أردت العمل في هذا، وجدت أن من الصعب ان يقوم امرؤ واحد به، فهو عمل جماعي، وكان لا بد من الاستعانة ببعض الاخوان من ذوي الاختصاص، فهذا استاذ من (جيزان) طلبت منه ان يكتب عن بلاده.. ورسمت له الطريقة التي يجب عليه ان يتبعها. وكذلك من بلاد (غامد وزهران)، وثالث من بلاد (القصيم)، ورابع من (عالية نجد). وهكذا استطعنا ان نضع اللبنات الأولى. وأصدرنا هذه المجلدات مبنية على دراسة وعلى مشاهدة.. فالدراسة وحدها لا تكفي، ولكن لا بد ان يقوم الانسان بزيارات ميدانية للمواقع ويشاهدها، لكي يستطيع ان يتكلم بها عن علم وبصيرة، فالدراسة الجغرافية ترتبط بالبشر، وبحياتهم الاجتماعية، والاقتصادية، اضافة الى دراسة حياتهم التراثية القديمة، ومأثوراتهم الشعبية، وكل ما يرتبط بحياتهم.

* لكن القارئ المتتبع لانتاجك يكتشف الى جانب اهتمامك باللغة في مجلة «العرب» التي تصدرها منذ سنوات، انك أوليت اهتماماً كبيراً لدراسة الانساب.

ـ نعم.. هذا صحيح، لقد ألفت ثلاثة كتب: «جمهرة أنساب الأسر المتحضرة في نجد»، صدر في مجلدين، وكتاب «دراسة في أصول الانساب»، وهذا الموضوع، موضوع الانساب، لا يدركه إلا من عاش في هذه البلاد.. موضوع شائك.. هنا في بلادنا توجد عندنا طبقتان من الناس.. طبقة يقال لها «القبيلية»، وطبقة أخرى هي «الخضيرية»، وهاتان الطبقتان لا تتزاوجان.. قد يتزوج القبيلي خضيرية، ولكنه لا يزوج خضيرياً، وتحدث في المجتمع مشاكل كثيرة في هذه الناحية.

* أين «إن أكرمكم عند الله اتقاكم» من هذا النظام أو هذا العرف؟!

ـ في الحقيقة هذه أمور لا يقرها الدين، ولا عرف اجتماعي قديم، والعرب انفسهم لا يقرونها منذ القدم، لأن العرب كانت طبقة واحدة.

والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: «إذا أتاكم مَن ترضون دينه، وخلقه، فزوّجوه.. إلاّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير».

وأنا في كتابي الأخير، درست الأنساب على هذا الأساس، وتوصلت إلى شيء خطير جداً هو: أن الأنساب لا تقوم على أساس علمي! نعم، علم الأنساب عند العرب لا يقوم على أساس علمي ثابت، إنما هي أشياء متوارثة، متناقلة.

وإذا كان بعض الباحثين يقول عن التاريخ إنه خرافة، فالأنساب هي خرافة الخرافات، هذا ما وصلت إليه. وأنا درست أو ألّفت في هذا العلم من قبيل الحفاظ على مأثورات شعبية، علماً أنني أنتمي إلى قبيلة من الذين يأبون أن يزوّجوا بناتهم إلا لقبيليين!

لكني يجب أن أؤكد أن هذه الأعراف تتنافى مع تعاليم القرآن الكريم، وقول الرسول عليه الصلاة والسلام، لأن أية نظرية علمية تبحث فيها في هذا الجانب لن تجد نصاً صريحاً يقرّ ما هو سائد، ومن قال سوى ذلك فهو مخطئ، ومخالف للدين.

* الواضح أنك تؤمن بأن العلوم الإنسانية الصالحة والمفيدة لا تتناقض مع الشريعة الإسلامية، فماذا تقول لتلك الأصوات التي ترفع عقيرتها كل يوم لتحرّم هذا، وتكفّر ذاك، وترى أن التعايش مع الحداثة كفر صراح؟

ـ يا سيدي، الإسلام أول من نادى بالجديد والحداثة.. والإسلام، نقل العرب من حياة الفوضى وحياة الخرافات، وجدّدهم، فالإسلام هو وسيلة التجديد، ومن ادّعى أن الإسلام ضد التجديد أو ضد التقدم، أو ضد ما فيه مصلحة للأمة وللمجتمع، فهو مخطئ.. ولن يجد لذلك أي دليل.

الإسلام أجلّ وأسمى من أن يُتّهم بأنه ضد التجديد، ومن يروّجون لمثل هذه الأمور، هم قاصرو النظر!.. فالإسلام ليس معناه التفرغ للعبادة والزهد والتقشف، الإسلام الحقيقي هو العمل.

وأنت إذا قرأت النصوص الدينية: «والعصر. إن الإنسان لفي خسر. إلاّ الذين آمنوا».. ووقفت هنا فقط، فأنت تبتر الأمور، عليك أن تكمل: «وعملوا الصالحات. وتواصوا بالحق. وتواصوا بالصبر».

فالإسلام لا يكتفي منك بالعلم، بل يوجب عليك أن تعمل، وأن تكون عضواً عاملاً في مجتمعك: «المؤمن القوي، خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف».

إذا لم يكن لك منفعة لأمّتك، فلا خير فيك!، «من لم يهتم بأمور المسلمين، فليس منهم».. فأية فكرة تقول: بأن ديننا يحول بيننا وبين القوة، وبين العمل، وبين العِلم، وبين الحياة التي نستطيع فيها أن نحافظ على كياننا، هذه فكرة مخطئة، وقائلها لا يفقه شيئاً في رسالة الدين الإسلامي.