عرض مسرحي مصري يعيد شاعر الكوميديا الإغريقية «أريستوفانيس» إلى المشهد العراقي الراهن

«سلام النساء» والاختيار الصعب بين الحب والحرب

TT

«إما الحب وإما الحرب» اختيار صعب وثنائية شائكة يتعرض لها جميع أبطال العرض المسرحي المصري «سلام النساء» الذي عرض على المسرح المكشوف بدار الأوبرا المصرية تأليف وإخراج لينين الرملي، بالاشتراك مع المركز الثقافي اليوناني بالقاهرة.

إذا استعرضنا أبطال هذا العرض سواء على مستوى الأدوار الرئيسية أو الثانوية، سنجد أننا لن نعرف أياً من الممثلين على الإطلاق باستثناء فردين شاركا في بعض عروض مسرح الدولة. فقد اعتمد المؤلف والمخرج لينين الرملي في هذا العرض على الكثير من الممثلين الهواة والقليل من المحترفين الذين يمتلكون خبرة لا بأس بها لتقديم عرض جاد، وهي جرأة فنية ولا شك تذكرنا بتجربته المسرحية أو بمعنى أدق مغامرته الفنية «بالعربي الفصيح»، التي قدمها يوما ما بالتعاون مع الفنان محمد صبحي. في العرض السابق وافق محمد صبحي على القيام ببطولة العرض حتى يمنحه ما يستحقه من الشهرة والخبرة والنجاح، وبعدها اكتفى صبحي بمقعد المخرج وترك مع لينين العرض كاملا لمجموعة كبيرة من هواة المسرح بعد تزويدهم بالتدريبات اللازمة. لكن الحال يختلف الآن كثيرا بعد حالة الانفصال الفني المستمرة بين محمد صبحي ولينين الرملي، وهو ما دفع لينين لإعادة نفس التجربة مع عدم الاعتماد على اسم النجم، بالإضافة إلى أنه تولى بنفسه مهمة الإخراج أيضا إلى جوار التأليف. وقد أوضح المؤلف صراحة أنه اعتمد في خطوط البنية التحتية للدراما المقدمة على مسرحية أغريقية شهيرة، يرجع تاريخها إلى عام 411 قبل الميلاد عندما كتب أريستوفانيس شاعر الكوميديا الإغريقي العظيم ملهاة بعنوان «ليزيستراتي».

ويعتبر هذا النص من أهم الأعمال المسرحية المناهضة لفكرة الحرب، وتقوم فكرته على دعوة بطلتها ليزيستراتي نساء مدينتها أثينا ونساء عدوتها اسبارطة على توحيد جهودهما معا لإجبار الرجال على الجبهتين لوقف الحرب التي كانت قائمة لمدة أربع وعشرين سنة. وحتى لا تشتعل شرارة الحرب مرة ثانية في فورة غضب أو تهور أو تلذذ بممارسة فعل الحرب في حد ذاته، نادت النساء بعقد معاهدة سلام بين الجانبين حتى تنجح البطلة في ذلك بالفعل. وفى حقيقة الأمر فقد توقفت الحرب فعليا بين أثينا واسبارطة بعد مرور ست سنوات على ظهور هذا العرض المسرحي الجريء. وبنفس المفهوم الذي طرحه أريستوفان قيد التجربة، عاد لينين الرملي يضع أبطاله أمام نفس المواجهة في إطار العصر الحاضر فيما يخالف أحداث النص الإغريقي من حيث الزمان والمكان والشخصيات. فقد عاد بنا عاما ويزيد قليلا إلى الوراء ونقل أحداث الصراع الدرامي إلى أرض العراق مباشرة وبالتحديد قبل اندلاع الحرب وهبوط القوات الأميركية بدعوى البحث عن أسلحة فتاكة وهى تخبىء الغرض الرئيسي لاحتلال البلاد الثرية بالنفط والخيرات في جيوبها الكبيرة والصغيرة. إذن فقد اشترك لينين الرملي مع أريستوفان في الاعتماد على واقعة حرب حقيقية شديدة الدموية بين شعبين، ويقدم الاثنان وجهة نظرهما في مفهوم الحرب أولا ثم يفتشان عن حل جذري عقلاني لتلك المعضلة الدموية الهادرة، على أمل أن تنجح في منع نزيف الحرب قبل أن يبدأ وعلى الأقل منعه أثناء تساقط اوراق أشجار الضحايا ورقة ورقة. ولأن طرح ثنائية «إما الحب وإما الحرب» هو في الحقيقة ضرب من الجنون لدى الكثير من البشر، فقد أضاف إليها العرض الحديث مثل العرض القديم جنونا على جنون عندما وضعاها على لسان أنثى في مجتمعات ذكورية صرفة في قديمها وجديدها. فبعد الكثير من التفكير في ويلات الحروب وأبواق الحرب الأميركية تدق أبواب العراق بقوة في ظل حكم الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين، ملت السيدة الذكية لبيبة من كل هذا الحزن الجاثم على القلوب، وهي التي تعيش وحيدة منذ زمن طويل بسبب اختفاء زوجها في المنفى، كما أن ابنها الشاب علي يحارب منذ زمن طويل على الجبهة ولم تره منذ سنوات في ظل حروب العراق المتوالية وإعلان حالة الطوارىء باستمرار. من هنا أطلقت لبيبة دعوتها المجنونة على الصعيد المحلي والدولي، ودعت نساء العراق ونساء أميركا لمقاطعة أزواجهن خاصة والرجال عامة محاولة لفرض السلاح وإطفاء فتيل الحرب قبل أن تشتعل ونشر السلام في العالم. وبالطبع كانت الساحة الدرامية مهيأة أمام المؤلف والمخرج لينين الرملي تماما لتقديم طلقات متوالية من الكوميديا السوداء المريرة، خاصة وهو يقدم شخصيات كاريكاتيرية صارخة تمثل المخابرات العراقية التي تراقب الجميع في أدق خصوصياتهم، لكنها في النهاية تعتمد على رجال خائفين خائبين يمر كل شيء تحت أنوفهم وذقونهم، وما عليهم إلا السمع والطاعة من القيادة العليا وإفراغ كل كبتهم على أنقاض الشعب المستكين برجاله ونسائه في ظل حكم ديكتاتوري غاشم. ورغم اختلاف العادات والتقاليد والحرية والملابس واللغة، لكن هذا لا يمنع من تكتل السيدات المدافعات عن حقوق المرأة لهجر الأزواج وقطع العلاقات وسحب السفراء، مع إعلان هذا الاحتجاج الصارخ من خلال الاعتصام في وزارة النفط بعد الاستيلاء عليها لأنها ببساطة مركز الثروة الحقيقي في البلاد..

اعتمد المخرج لينين الرملي على إلحاح وفاعلية تأثير الموسيقى الحية من خلال جوقة موسيقية صغيرة والعود والغناء الحي الذي لعب دور الجوقة المسرحية، أحدى أشهر الأدوات المعروفة في المسرح الإغريقي والتي تتولى العديد من المهام من بينها السرد والحكي والتعليق على الأحداث وتقديم بعض الشروحات الهامة للمتلقي بهدف إثارة وعيه وإنارة قنوات استقباله. فهذه الجوقة الساخرة اللاذعة الحزينة الجماعية تناور وتحاور وتداور وتناغش المتفرجين أمامها، فهي محاولة فطرية لكسر الإيهام قبل بريخت بقرون طويلة، لفتح العديد من علامات الاستفهام بداخله ليتساءل ويحاول أن يفهم ويدرك. كما لعب الممثلون أنفسهم دور الجوقة الجماعية في بداية ونهاية العرض المسرحي، عندما وقفوا امام المتفرجين يعلنون أنهم مجموعة من الهواة جاءوا ليلعبوا عرضا مسرحيا يطرح قضية كذا والهدف منه كذا ويعلنونا أيضا بالمطلوب منا والدور الذي يجب علينا القيام به أثناء وبعد العرض المسرحي كمتلق إيجابي. كما اعتمد المخرج على نفس منهج المسرح الإغريقي الممتزج بالأداء الكاريكاتيري، وانخرط الممثلون قدر خبراتهم المختلفة في صيغة مبالغة في الأداء والملابس والتعبير الجسمانى والحركى والصوتى، خاصة أن الممثلين الرجال هم الذين لعبوا أدوار النساء الأميركيات. ورغم قلة تصميم الميزانسين الخلاق والإضاءة المشاركة في الحدث دراميا وبصريا، إلا أنه من الملاحظ أن العيب الأزلي في الفن المصري يتكرر كما هو من دون ملل، الذي يخرج علينا في كل مرة بلغة عربية غريبة عجيبة لا علاقة لها بالنحو والصرف وبديهيات النطق أولا وأخيرا; رغم أن الحوار نفسه يعتبر من أجرأ الحوارات التي قدمت على المسرح المصري خاصة في العلاقة بين الرجل والمرأة. أضف إلى ذلك بعض التطويل الذي شاب العرض، مما أدى لانفلات بعض الخطوط الفكرية بين إدانة الحكم الديكتاتوري في العراق ومدعي الديمقراطية في أميركا، والابتعاد تماما عن لب الحجة المزيفة للتفتيش عن أسلحة دمار شامل والتي قامت بسببها هذه الحرب كما يتقول الأميركيون. ومع ذلك فهي محاولة جادة أتاحت لنا على الأقل مناقشة بعض النقاط مهما حققت من إيجابيات وسلبيات، بدلا من معظم عروض مسرح الدولة المكررة منذ شهور والتي لا تستحق أن تعرض أصلا.