البيزنس والواقعية الثقافية

الطلاق ليس بائناً بين الإبداع وجني طائل الأرباح

TT

يخطئ من لا يعتبر كارلوس غصن واحداً من أبرع مبدعي هذا الزمان. فالرجل استطاع أن يخرج شركة «نيسان» للسيارات من الإفلاس في سنة ونصف ويجعل منها الماركة الأكثر ربحاً في العالم. والنتيجة ان هذا البرازيلي ـ الفرنسي، اللبناني الأصل بات قبلة المفلسين وحلم الطموحين، تتنافس عليه الشركات، بعد ان دخل التاريخ الياباني بفضل المعجزة التي حققها هناك. ولو قرأت المقابلة التي أجرتها معه مجلة «لوبوان» مؤخراً لأدركت ان الرجل الذي يتقن سبع لغات، ودرس الآداب إلى جانب الهندسة، ليس مجرد مديرٍ يفكّر في المال بل في حديثه كلام عن «القيم» و«الحضارات» و«الاختلاجات النفسية»، والقدرة على الجمع بين «المحافظة» و«قوة الاقتصاد»، وله رؤيا في السياسة، وإدراك عميق لتأثيرات المشاعر الدينية على المسالك البشرية. ويصف كارلوس نفسه بالبدوي لأنه خارج الجغرافيات، ويستطيع أن يتأقلم مع شتى الظروف والمناخات. وإن كان المثقفون والفنانون التقليديون الذين يأنفون من حسابات الربح والخسارة لا يعترفون بهذا الصنف من المبدعين فبإمكانهم ان يجدوا في مواصفاته ما يغريهم بمقاربته. فهو ـ بحسب ما كتب عنه ـ يأنف من العلاقات مع السياسيين، ويستعصي على التصنيف، ويقول ما يفكر به من دون مواربة وتدليس، ويعرف كيف ينفّذ ما يقول.

عدم الاعتراف بأصحاب الرؤى التي تدرّ المال كخلاّقين يستحقون القراءة والتحليل لا يجعل النوم يطير من عيونهم، لكنه يؤثّر سلباً وبؤساً على «المبدعين التقليديين» الذين باتوا يدورون في حلقة جهنمية، لأن البساط يسحب من تحت أرجلهم في كل مجال. فرجال الأعمال الأذكياء هم الذين يديرون عالم الموسيقى والكتب والرسم والصحافة. ومؤخراً اشترى سيرج داسّو صاحب إمبراطورية «داسّو» الفرنسية الشهيرة لصناعة الطائرات الحربية والإلكترونيات مجلة «الاكسبرس» وصحيفة «لوفيجارو»، وهما من نخبة المطبوعات الفرنسية، ورغم ان الرجل لا يجد الوقت الكافي للقراءة ـ كما يقول ـ إلا انه يسخر من صحافة تجمدت في مكانها منذ ثلاثين سنة، ولم تتمكن من مواكبة تغير الأذواق، وتبدّل أمزجة الأجيال. وفي نقد مبطنٍ للمثقفين، يقول داسّو إنه يشفق على «الحالمين الذين يثرثرون كثيراً ويفعلون قليلاً».

والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم وبإلحاح، هل ما يزال تعريف المثقف هو نفسه منذ مئة سنة إلى اليوم؟ وإذا كان الأمر كذلك، فأين نضع نخبة النافذين، اصحاب الرؤى والمشاريع البرّاقة التي تفتن الناس وتسرق عقولهم عبر القارات؟ بعض هؤلاء المتمولين يقولون ان الناس يكرهون المال ويحسدون الموسرين لذلك يخرجونهم من دائرة الاحتفاء بالمهارات والاعتراف بالإنجازات. وقد يكون ذلك صحيحاً. فلماذا لا نعترف ان الاختراع الجديد لقلم يستطيع ان يقرأ لك الكلمة التي تكتبها، ويبين لك الخطأ، هو إنجاز قد يغيّر النظرة كلية لاستخدام القلم، الذي تغزّل به الشعراء وتأمله أدباء الزمان وهم يستنطقونه فإذا به أخيراً يتكلم.

تحزّ في النفس هذه الأيام رؤية المثقفين والفنانين يعانون الأمرّين في مرحلة انتقالية لا يستطيعون مسايرتها ولا يملكون قوة رفضها. فهم في غالبيتهم يشكون جور الدهر ويضيعون في متاهة اليأس والحرمان. ها هو مخرج مسرحي لبناني يستجدي أصدقاءه عبر رسائل تلفونية ليهبوا لنجدته ويأتوه بجمهور بعد أن فرغت الصالة من المتفرجين لأيام متواليات. مخرج آخر، موهوب ومعروف، يروي انه دخل معرض الكتاب ولم يتمكن من شراء شيء لأن جيوبه خاوية وليس معه ثمن كتاب واحد. ممثل معروف يقول انه اشتاق لتحية الجمهور ولسماع صوت التصفيق، فمنذ سنوات لم يعتل خشبة ولم يؤد دوراً، وآخر لا يقلّ أهمية يلعن الدوبلاج الذي بات وحده مصدر رزق العيال. عشرات المسرحيات التي تعرض على المسارح اللبنانية لا تستطيع ان تستمر لأكثر من ستة أيام، ولا تتمكن من سد عجزها ومصاريفها الضئيلة. الجمهور ليس ملاماً فالفنان المسرحي يفترض نفسه كالرهبان المتبتلين الذين يكفيهم ان يصفّوا النية ويحسنوا التأمل، فإن نجحوا نجوا وإن أخفقوا فهذا قدر الله. الكتّاب ليسوا أفضل حالاً، فهم لا يكفّون عن التسطير والتدبيج والطبع والتوقيع للرفاق، ومن ثم مساءلتهم إن قرأوا الكتاب ليرضوا بعضاً من نرجسيتهم المشروخة بفعل الإهمال.

وقريباً قد يدفع الكاتب لقرائه كي يحتملوا ثقل دم كلماته ويقبلوا على مؤلفه وكأنه ضرب من العقاب. والرسامون الشبّان يقولون انهم يكتفون من مجد معارضهم بزيارة بعض النواب الذين يشدّون على ساعدهم ويديرون ظهورهم دون ان يشتروا لوحة أو يفتحوا في ظلمة ليلهم كوّة. «أنتِ في لبنان» أجابني أحد الفنانين حين سألت عن ثمار معرضه الأخير، «بالكاد زارونا وصافحونا»، استطرد آسفاً على الجهد الذي ضاع.

على من تقع مسؤولية هذا البؤس الذي بات يطاول شريحة كانت ذات يوم زبدة المجتمعات، ونجمة الأضواء. أيعقل ان يطلب من كل ممثل ومخرج ورسام وكاتب أن يقضي ليله يفكّر في أساليب اصطياد المال. وما العمل بعد ان اصبحت المؤسسات الرسمية بالكاد تسدّ عجزها وتنوء بعبء مثقفيها المتذمرين الناقمين؟ وما السبل السريعة اليوم لتغيير نظرة هؤلاء المثقفين لأنفسهم ومهمتهم بعد أن تربوا على رومانسية عصفت بها الانقلابات؟ من يقنعهم ان الملياردير بيل غيتس صاحب مايكروسوفت التي أطاحت برامجها ومخترعاتها بالبداهات، لا يتربع على «إمبراطورية الشيطان» كما يدّعون، لكنه واحدٌ من أعظم صنّاع قيم هذا العصر.

بكثير من الحزن والأسى لا بد ان ينعى المثقفون الحالمون في صوامعهم البريئة موت مفاهيمهم القديمة، وأن يكسروا مراياهم الكاذبة، ويخرجوا من نرجسياتهم إلى دنيا انقلبت عليهم في غفلة منهم.

للأحلام اقدام فلا تتركوها بلا أحذية.