شاعر سوري ولد في السينما على مسند مكسور

أقوال محمد فؤاد الحكائية في «.. قال بيدبا»

TT

ولدتُ في السينما

بين مقعدين، على مسند مكسور

أمي كنَّتني بسبعة أسماء

كي لا يعرفني الموت

ومسحت رأسي بالزيت

حتى أملص كالصُّوص

من الفتحة الضيقة

للحياة الواسعة

هكذا يبتدئ (محمد فؤاد) مجموعته الشعرية الجديدة، الموسومة بعنوان أليف، مثلما هو بعيد (.. قال بيدبا)، بعد مجموعتيه (طاغوت الكلام) و(المتروك جانبا).

عنوان المجموعة هو عنوان القسم الثاني ـ والأخير ـ من الديوان، ولكنه، ولمرة نادرة، يكون منطبقا على محتوى الديوان كله، ذلك ان جميع القصائد تندرج ـ كما رأيت ـ تحت أقوال حكائية، انطلاقا من كونها تعبر عن الواقع والوقائع بطريقة الحكاية، قناعا جميلا ومبررا، من أجل ان يكون الشعر حكاية، وهذا ـ كما أرى ايضا ـ من الرغبات الاكيدة للمستقبل الذي يرغب فيه الشاعر لنصوصه.

عند هذا، لا نعود نحاسب الشاعر على المنطق، لأن النص يحمل منطقه الخاص، حتى ولو كان خرافة.. خرافة تؤكد ذاتها بأسلوب الخرافة، رغم انها تعبر عن احاسيس مؤكدة واوجاع رصينة (!!) وفكاهة كالمأساة واغنيات تحز في الروح وتحتزُّها.

بعد هذا لن نجد ما يبرر التساؤل: كيف ولد محمد فؤاد في السينما، ولا لماذا «بين مقعدين، على مسند مكسور».. بل نرى ان ولادةً على «مسند مكسور» أصلح للحكاية المرجوة والمقصودة من ولادة في البيت أو في المستشفى.. أما التملص «من الفتحة الضيقة للحياة الواسعة» فهي الانسب للحيثيات السابقة.. ولكن ضيقا آخر يأتينا في قوله:

من مكاني الضيق

أنظر الى السماء الضيقة بين البنايات

قطعة نقد صغيرة يمكن ان تغطيها

لكنها على أي حال كافية

لأرى شيئا ما يعبر

أظن أنه سنونو

.. في النص السابق كانت «الفتحة الضيقة» للخروج الى الحياة، لكائن لا ندري ما سيكون، أما المكان الضيق هنا، والسماء الضيقة بين البنايات فهي للشاعر الذي كلما كان صغيرا صار قادرا على ان يرى اشياء كثيرة، ونادرة، وبعيدة، ولا مرئية، وغير متوقعة.. وهنا تكون الرؤية، فتنقلب المعادلة الى تجليها في العملية الابداعية باستعارة قول النفَّري:

«كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة!»

بمعنى ان عدسة الشاعر (والمبدع عموما) الضيقة ترى مشهدا واسعا، وبتفصيلات عديدة، غير انه يعبر عن علاقات بين تلك التفصيلات يندر ان تكون موجودة في الواقع، ولكنها موجودة في تركيباته الابداعية، انطلاقا من صور الواقع المتاحة والحيادية.

انا ـ شخصيا ـ أرى ان قصيدة (السريان القديمة) التي أوردت مطلعها قبل سطور «من مكاني الضيق..» هي عمدة هذه المجموعة الشعرية، بل ورؤيتها عبر محاولات الشاعر للتمكن من حرفته.. كما ارى ان كل القصائد كامنة في هذه القصيدة، أو ان تلك القصائد نابعة منها، على نحو من الحكاية ـ الخرافة:

البنايات جاءت

بعد أن جاء السكان

هكذا قالوا لي

السريان ناموا هنا

ثم بنوا فوقهم طوابق كثيرة

.. ويتابع الشاعر حكايته ـ حكاياته مثل (بيدبا) ولكن بالمقلوب، لأنه لا يعرض حكاية الا بمغزى غير مباشر.. الا بمغزى غير تعليمي، وعلى نحو بعيد عن الحكمة البديهية الباردة، فيقول كلاما ساذجا ومجنونا، وربما تقليديا «احب الموسيقى / ولأن بيتي زجاج / أخاف الحجارة».

وبينما يقول ذلك، يتبعه بهذه الابيات المفارقة «أصلح الله الأمير / ما ترك لي فرصة لأقول لا / أو لأضحك من كل قلبي» ثم يقطع هذا التسلسل بتسلسل آخر هو «أعطاني الجاحظ موعدا/ ونسيته في الكتاب / الذي سقط على رأسي / وقتلني!»

إنها مقاطع ـ لعبة.. إنها (استغماية) ينتهجها (بيدبا ـ محمد فؤاد)، فهو ينقلنا من حب الموسيقى، الى مثل دارج وساذج.. الى حكاية دارجة.. الى قصة الجاحظ المعروفة، لكنها ـ هنا ـ بطراز مختلف، إذ أن الشاعر يقتله كتاب واحد، لا رف من الكتب!

.. ويتابع الشاعر نهجه الغرائبي التهكمي:

جاءت سحلية من القامشلي

مشيا على الاقدام

وفيما يبدو الامر طبيعيا لسحلية

يصبح لا

لحمامة

انظر

جاءت الحمامة من القامشلي

مشيا على الاقدام.

هنا أجد ان النقطة جاءت مجيئا حقا.. أعني: هنا انتهت القصيدة، أما المقطعان بعد ذلك فأراهما عالة على القصيدة، وهما شرح ـ شرح لها، قوله: «غريبة بعض الشيء؟!! الفكرة كلها غريبة بعض الشيء؟!!» وهذا اجهاض للقصيدة.. أما المقطع الاخير فهو الاجهاض الاكبر «لا يمكن ضبطها / الهواجس / في الرابعة صباحا»، فهذان المقطعان الأخيران يبدوان لي كما لو أنهما تعليق يمكن ان يقوله ناقد القصيدة لا مبدعها.. إن المقطع الاخير هو قصيدة قائمة بذاتها، لا خاتمة لقصيدة (سحلية)!

إن قصيدة (سحلية) هي الثانية تحت عنوان (قال بيدبا)، ولكن الاولى تحت عنوان (أغنية) هي الاكثر سذاجة وبامتياز:

أغنية الصف الثالث الابتدائي

في كتاب حديقتي

تذكرتها البارحة

كانت عن طائر ما

أو خروف أجعد

أو عَلَم.

ويتابع الشاعر سذاجته المحببة، حين يتابع ذلك الطائر الذي «سقط من البرد / بين براثن قطة / ربما».. أو ذلك الخروف.. و«لكن القلم كان مرفوعا» و... و... ويختم النص بالقول «في الحقيقة / لا يبدو أنني تذكرت تماما» مؤكدا عنصر الحكاية لبيدباه هو لا لبيدبا (ابن المقفع)!

أخيرا، أقول انني انتقيت «الزبدة» التي تعنيني من هذا الكتاب الشعري للشاعر محمد فؤاد، وهي زبدة نافعة ـ كما اعتقد ـ وتغاضيت ـ قصدا ـ عن هفوات لا بد ان تحصل عبر تضاعيف محاولة الشاعر لقول الشعر على نحو آخر.

* قال بيدبا ـ شعر محمد فؤاد ـ التكوين للنشر والتوزيع ـ بيروت 2004 .