الرواية هي الضحية الكبرى للنقد؟

روائيون عراقيون يتحدثون لـ«الشرق الأوسط» عن جناية النقد الأدبي على الفن الروائي

TT

* عالية طالب: ليس على الناقد إلا الإشارة لبواطن الإبداع

* الشبيب: معظم الدراسات النقدية في ذهنها النموذج التقليدي للكتابة

* جواد: النقد الرديء قد يسهم في زيادة بيع الروايات بغداد: «الشرق الأوسط» ربما يبدو مصطلح النقد الروائي مثيراً للالتباس، فهو قد يوحي بأن المشكلات التي نعنيها، إنما هي مشكلات نقدية، وهو من جهة أخرى يومئ إلى أن الرواية كجنس أدبي لها مشكلاتها، حين يتعرض النقد لها بالدراسة والتقويم. ولكن الحديث عن مشكلات النقد الروائي ينطوي على تساؤل آخر وهو: هل أن هذه المشكلات تتعلق بالناقد الروائي والعملية النقدية التي يمارسها، ام أن هذه المشكلات نابعة من طبيعة الفن ذاتها؟ مجموعة من الروائيين والمشتغلين بالنقد الروائي في العراق يجيبون على هذا التساؤل:

يقول القاص والروائي خضير عبد الأمير: لكل رواية مشكلاتها، فالرواية عالم صغير له مكوناته، ومسبباته حتى يتحول هذا العالم إلى سعة تستوعب حركة الواقع، وربما الماضي والحاضر. وكل هذه السعة تحتوي على رموز واضحة وخفية، فهي أما أن تكون حكاية للمتعة الخاصة، أو حكاية تخدم ذاتها، وترمز إلى وضع الآخر. وفي جميع الأحوال هي ذات أشكال متعددة في بنائها الفني المتصور.

من هنا يمكننا أن نتعرف إلى مشكلات الرواية في مجالين: الأول يهدف إلى عرض صورة من صور الحياة ذات انسيابية مهما تعددت مشكلات الشخوص داخل تلك الصورة.

والثاني متعلق بالنقد الذاتي لحركة الواقع وتصرف الآخر.

والناقد عندما يبدأ بالقراءة، يكون حذراً من لعبة الانسياق مع تيار الأحداث وتراكمها، فهو يؤكد على قيمة العقل أو ما هو معقول، ولا يريد أن ينساق وراء رموز الرواية، رغم معرفته واطلاعه، ولكنه ينطلق من فهم خاص جداً، وكلما تعددت الثقافات، كان النقاد أمام انحياز خاص، يصفونه بمعقولية خاصة أيضاً.

ومثل هذا الأمر يكون من خصوصية الناقد ومن نتاجات ثقافته و(توهمه) بالمعرفة أحياناً. وحينما يكتب قد يترك الرواية، ذلك العمل الفني، ويكتب لذات ثقافته الخاصة، وينطلق منها واجداً في أحداثها، أي الرواية (عصا) يهش بها على أحداث روايات أخرى، وقد لا يلتفت الناقد إلى مشكلات الرواية ذاتها، تلك التي يواجهها الروائي، والتي تملي عليه أفق كتابة خاصة، وتصرف كتابي خاص له صنعة مرتبطة بالأحداث، وله شخص أو شخوص متعددة تنهل وجدها أو كرهها من منابع الفكرة، التي تبدأ عادة مسطحة، ثم تتصاعد مع كثرة الأحداث المتشعبة الأخرى. من هنا تتولد لدى الروائي مشكلات معينة منها:

عملية التغيير في بناء الرواية من شكل إلى اخر، ومن نهاية إلى اخرى ، ومن استيعاب لحدث معين إلى اخر. ومنها أيضا مشكلة حوارات شخوصها، أو حوارات مقتضبة مصاحبة لتلك المشكلات المنبثـقة من ذلك التسطيح، لتتصاعد عمودياً وافقياً أو تنعكس إلى الاسفل، ومنها ايضاً اللغة، ذلك التعبير عن كل تلك الأحداث.

فللرواية لغتها الفنية دائماً وان تحولت تلك اللغة إلى أشكال اخرى، منها ايضاً دخول منهج الاسلوب والاسلوبية وكيفية تناول الكاتب لاسلوب كتابته. فهل اللغة ذاتها ام أن اسلوب الرواية الذي هو اسلوب الكاتب، يمكن اعتباره (ملكته) الخاصة التي حصل عليها من التبحّر في (امهات) كتب الفن والادب والشعر والمسرح، بما فيها القصة والرواية؟ وهكذا يتكون كل شي وفق شي كبير وجميل وله صفة محددة بهذا الفن الاصعب. تلك المهمات وغيرها، تواجه الكاتب الناقد عند ممارسته لعملية الكتابة، وقد يصادف غيرها، ولكن بالاساس رؤية الناقد تختلف عن رؤية الكاتب، حتى تكاد أن تصيبه بالدهشة.

اغتراب النقد الروائي أما القاصة والروائية عالية طالب فهي ترى أن الرواية باستغراقها الشامل في تكوينات جزئية وفرعية واساسية، تبدو اكثر تقبلاً لمداخلات النقد وكشوفاته المضيئة و(المظلمة) على حد سواء. وقد يشعر الناقد بتحقيق انتصارات خاصة، حين يضع مبضعه على نقطة الشروع او «الاقتناص» وقد يكون محقاً بأدلة لا تقبل المجادلة. ولكن هل يستوي الخطأ، إذا كان هناك خطأ ما، مع الفعل الإبداعي الشامل؟ وهل يبدو ذلك التواجد الضئيل بمطباته ذا مشروعية في الطعن والتناول المتقصد، ام أن على الناقد أن يتساءل، ولأكثر من مرة، عن قصديات الروائي المنظورة وغير المنظورة، قبل أن يشرع أسلحته في مواجهة قد تبدو صامتة لدى الطرف الآخر؟

لقد قرأنا تحليلات نقدية لعديد من النقاد حول روايات قرأناها. لكننا لم نكن نتصور حجم الاغتراب الذي ولدته لدينا تلك الكتابات النقدية، حتى لتبدو ذات الرواية وكأنها ليست التي قرأنا، او انها رواية اخرى لا نعرفها.

هذا الاغتراب الذي أوحى لنا به النقد، ليس الروائي هو المسؤول عنه، بل الناقد الذي تشابكت لديه قناعات ذهنية وتحليلية خاصة، فأسقطها على العمل الادبي، من غير أن ينتظر ليشاهد آثار صوره الجانبية على رواية اعاد خلقها من جديد ـ سلباً أو ايجاباً.

ليس على الناقد الا الاشارة لبواطن الابداع وتمكين القارئ من الانتباه إليها، والتأكيد على مقاطعها من دون التأثير على العمل وسحب القارئ إلى مديات أخرى.

الرواية والموضوعة الفلسفية الروائي الدكتور طه حامد الشبيب يتحدث عن علاقة النقد برواياته بقوله:

الرواية كجنس ابداعي لها خصوصية فنية نابعة من الرؤيا الشاملة التي تنطوي عليها، ذلك أن الرواية فن يعالج موضوعة فلسفية كبرى، على هذا الاساس هنالك صعوبات حقيقية تواجه الناقد، فسبر اغوار معالجة فنية لموضوعة فلسفية ليس بالامر الهين، لاسيما اذا اتبع الروائي، وينبغي له أن يتبع، «المفهوم القائل بان الموضوعة تشترط التقنية».

هنا يبرز الاشكال امام الناقد غير المستعد لمواجهة معالجة من هذا النوع. وإذا تحدثت عن تجربة النقد مع اعمالي، فان من العسير علي أن اضرب مثلا بدراسة نقدية معينة، استوفت هذه النقطة، أي أن معظم الدراسات جاءت وفي ذهنها النموذج التقليدي للكتابة الروائية، ربما لاحساس البعض بصعوبة الاحتمال، أن لم اقل عدمه، في ظهور تقنية جديدة في الكتابة الروائية، يمكن أن تنبثق في العراق. الكل مذعن لمفهوم «التقنيات الجديدة تأتي من خارج الوطن العربي». أقول ربما كان هذا السبب في عدم ايلاء النقد العراقي اعمالي اهتماماً مضاعفاً للوصول إلى استنتاجات محددة بخصوص التقنية التي ازعمها.

ضحية النقد الكبرى على هذه الاتهمات يرد الناقد الدكتور عبد الستار جواد، فيقول عن علاقة النقد بالرواية: «في عام 1983 أتيح لي أن اقضي في صحيفة الغارديان البريطانية عدة اسابيع، بحكم التلمذة، والرغبة في الاستفادة من تجربة الصحافي والكاتب «بل ويب» الذي أمضى في تحرير الصفحة الادبية ربع قرن او ما يزيد على ذلك. وكنت بالطبع أشعر بأن الرواية «اكثر من غيرها من الانواع الادبية الأخرى هي ضحية النقد الكبرى، لاسيما النقد الصحافي منه، الذي ينشر في صفحات الجرائد والمجلات.

وكثيراً ما كانت تثار في الاوساط الثقافية والادبية شكاوى كتاب الرواية من ناقديهم ومراجعي رواياتهم في الصحافة الادبية. ولعل الطريف في ذلك أن محرري الصفحات الادبية يشكون هم ايضاً من النقد الروائي الذي يثير لهم مشكلات عدة ازاء جمهور القراء.

وربما كان كتاب الروايات الجدد اكثر شعوراً بالحيف من غيرهم، ذلك أن النقاد يلاحقون الاسماء الكبيرة، ويتابعون نتاجهم الروائي، إذ قلما تجد رواية لكاتب جديد نصيبها من النقد والمتابعة، بينما تحظى روايات لاسماء كبيرة بالاهتمام الواسع من لدن الصحافة ووسائل الاعلام.

ولكننا مع هذا يجب أن لا نبالغ في خطورة النقد هذا على الرواية كجنس ادبي ابداعي، فمثل هذا النقد قد يقضي على عروض مسرحية او سينمائية او فنية، ويؤثر في «شباك التذاكر»، في حين أن النقد الرديء احياناً قد يسهم من حيث لا يريد في زيادة بيع الروايات واقبال القراء عليها. وتشير الارقام إلى أن المساحة النقدية المخصصة للرواية هي 71 في المائة، بينما تحتل كتب السيرة 3 في المائة.

مع كل هذا فإننا نرى أن مشكلة النقد الروائي الحقيقية تكمن في سوء الفهم الحاصل لدى النقاد الذين يتصدون لاصدار احكام نقدية على الروايات، وسوء الفهم هذا قد يؤدي إلى اطلاق احكام نقدية خاطئة.. فاذا كان اختلاف وجهات نظر القراء مسألة مشروعة، فان اساءة فهم الرواية ليست كذلك.

والواقع أن طبيعة الرواية نفسها قد اسهمت بشكل او اخر في ابراز مشكلات الرواية، وتعدد اسبابها. فالرواية تتطلب من الناقد متابعة جادة لأدق تفاصيل الحبكة وتطور الشخوص ونمو الاحداث. وهي لذلك تتطلب مهارة فائقة وذاكرة حادة إلى جانب الحاسة الفنية التي تمكن الناقد من التقاط الخيوط الأساسية التي تنظم الفعل الروائي، إضافة الى أن الكاتب الروائي يكتب بطريقة تختلف تماماً عن طريقة الناقد، فالأول يفكر في خلق الشخصيات، بينما يسعى الثاني لتفحصها كي يقدم مادته النقدية من خلال الموضوع الذي يطرحه.