الجنادرية تكرم الشاعر عبد الله الجشي .. عاشق الأرض والإنسان

TT

كرم مهرجان الجنادرية أمس شخصية هذاالعام الشاعر عبد الله الجشي وقد قدمت عدة اوراق في الندوة المخصصة لتكريمه تناولت تجربته الحياتية والشعرية ورغم أنه يقترب الآن من العقد الثامن من عمره، يبدو الشاعر السعودي عبد الله الجشي أكثر التصاقاً بالأرض التي حمل عشقها ردحاً من الزمن وتغنى بها في ملحمة شعرية فريدة من نوعها.

منذ عام 1993 ألقى عبد الله بن الشيخ علي الجشي، رحله في الأرض التي شهدت مولده، بعد جولات من السفر والاغتراب.

وانشطر الجشي في هواه الى قسمين: القطيف في السعودية التي احتضنت ولادته، وعمل فيها فيما بعد وعشقها كأشد ما يعشق المحبون أوطانهم، ونظم في مدنها وهضابها وصحرائها ومعالمها; الشعر والنثر، فكتب عن دارين واليمامة ومدرج الرسالات، وكتب عن سعفات هجر، وعن القطيف.

أما القسم الآخر فهو العراق، بلد الصبا، ومرتع الشعر والذكريات، والبلاد التي اتجه إليها في كهولته وشيخوخته.. ولأنه ولد لأم عراقية، فلم يكن العراق بالنسبة إليه مجرد هوى المكان وظل الجغرافيا، بل كان ارتباطه ارتباطاً روحياً عميقاً نابضاً .

وننشر هنا ورقة من الأوراق المقدمة على أن تتبعها أوراق اخرى.

من أوراق الجنادرية

السفر إلى العراق والإقامة في النجف

د.مبارك بن راشد الخالدي

في عام1935 ، سافر عبد الله الشيخ علي بن حسين الجشي وأسرته الى العراق لمواصلة دراسته الدينية وزيارة أخواله، وما لا يحتاج الى تأكيد أن والدة الشاعر كانت أكثر المسافرين الى العراق فرحا، فتلك أوبة الى الأهل نأت بها الأيام عنهم.

استقرت أسرة عبد الله الجشي في النجف وسكنت في بيت جده الحاج محمد الجشي الذي أوقفه ليدفن فيه هو وكل من يتوفى في العراق من أسرته. عاشت الأسرة القطيفية في النجف حياة بسيطة، خالية من الهموم والمتاعب، تسودها روح التعاون والمودة بين أفرادها، مستعينة على العيش بدخلها من بساتين نخيلها، بالإضافة الى ثلاثة دنانير كانت تتلقاها مساعدة شهرية من المرجع الديني الكبير السيد أبو الحسن الأصفهاني، ورغيف من الخبز لكل فرد من الأسرة صباحا وظهرا ومساء.

في النجف تابع الجشي دراسته الأولية تلميذا للشيخ أديب النجفي ثم بدأ دراسة قواعد اللغة العربية عند فضيلة الشيخ علي بن الشيخ منصور المرهون في مدرسة العلامة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، وكان أستاذه المذكور يقيم في إحدى غرف المدرسة، إذ كانت المدارس الدينية القديمة تؤدي وظيفتين: التدريس وتأمين السكن الداخلي. بعد ذلك درس الجشي على يد الشيخ عبد الله الخليفة الاحسائي علوم البلاغة، ودرس عند والده علم الصرف والرياضيات والمنطق، كما درس عنده أيضا الفقه والأصول. وتألفت قائمة الكتب التي قرأها بالتوالي من:

1 الأجرومية في قواعد اللغة العربية لابن اجروم الصفي

2 ألفية ابن مالك في قواعد اللغة العربية لابن مالك

3 قطر الندى في قواعد اللغة العربية للتنفازاني

4 المطول في البلاغة والبيان والبديع للتنفازاني

5 الحاشية في تعريف اللغة

6 المنطق

7 الرياضيات من حساب وهندسة

8 الشرايع في الفقه

9 الرجال وهي دراسة الرواة وذي الثقة بهم وهي الكشي والنجا

10 الأصول وهي تختص بطرق استنباط الأحكام.

شهدت الفترة من عام 1936 إلى 1941 تردد عبد الله الجشي على المكتبات العامة والخاصة والجمعيات والنوادي، وكان الشعر يحظى بجزء كبير من اهتمامه وقراءته.

من الأحداث ذات التأثير الكبير على شخصيته وعلى تحديد مسار حياته في المستقبل وصقل موهبته الشعرية وتعميق اهتمامه بالتاريخ، وبزوغ اهتمامه بشؤون وقضايا مجتمعه أيضا، كان حدث انضمامه عام 1941 عضوا الى جمعية الرابطة الأدبية في النجف، وهي جمعية تخطى مجال نشاطها تشجيع المواهب الشابة الواعدة ليشمل إحياء المناسبات الدينية والاحتفال بالذكريات الوطنية والتاريخية واستقبال كبار السواح والرواد وتعريفهم بالنجف وتاريخه وإقامة الصلات والعلاقات معهم.

ظل الجشي مواظبا في حضور الفعاليات الأدبية الثقافية للرابطة، التي شكلت بدورها جسرا للتواصل بين الأدباء والشعراء، وفي تلك الأجواء الزاخرة بالمناظرات والدراسات النقدية، تطور ميله الشعري من حفظ الشعر إلى نظمه، مستفيدا من آراء وتوجيهات من سبقوه إلى الدخول في جنان الشعر الغناء، بمختلف أغراضه وموضوعاته، الغزل، وشعر المناسبات، والشعر القومي الراصد لنكبة فلسطين والحروب العربية للاستقلال من الاستعمار الأجنبي، كل ذلك في وسط اجتماعي يشرع أبوابه للشعر والشعراء، ويحفهم بالإجلال والتقدير.

الحيدريون الأربعة:

في النجف التقى أربعة فتيان، وسرعان ما تطورت علاقة المعرفة بينهم الى صداقة قوى أواصراها ووشائجها ولعهم بالشعر والأدب، فكانوا يتابعون بشغف منقطع النظير ما تنشره الصحف لشعراء جماعة أبولو وعلي محمود طه من مصر، والشاعر محمد مهدي الجواهري من العراق، ومن لبنان الأخطل الصغير، وابو القاسم الشابي من تونس، والشعراء بدوي الجبل وعمر أبو ريشة وسليمان العيسى من سورية. كان الأصدقاء يجتمعون في الليالي الشتائية في غرفة من الصحن الحيدري، وفي الصيف كانوا يتفيأون ظلها ويعقدون فيه ندوتهم الصغيرة، يتابعون ويناقشون ما يستجد في الساحة الأدبية. وكان هؤلاء الحيدريون الأربعة (نسبة إلى الصحن الحيدري) هم: عبد الرضا صادق من النبطية في لبنان، والشيخ باقر بن الشيخ موسى أبو خمسين من الأحساء، والشيخ عبد الحميد الخنيزي، وكان الرابع عبد الله الشيخ علي بن حسين الجشي الذي تولى مهمة شراء الصحف الأدبية المصرية من مكتبة عبد الأمير الشريفي في النجف الكبير، وإحضارها إلى أصدقائه لقراءتها والتعليق على ما ينشر فيها من أشعار وكتابات أخرى، وفي منتداهم الصغير كانوا يقرأون يستمعون إلى قصائدهم.

عايش الجشي في النجف طيفا شعريا عريضا، تألفت ألوانه من المدارس الشعرية العربية السائدة آنذاك، من شعراء تقليديين، وأبولويين( نسبة إلى جماعة أبولو)، كما كان لوجود عدد كبير من المعلمين العرب في العراق دور كبير في إثراء الساحة الأدبية ومدها بنسغ الحيوية والتجدد والتنوع في التجارب الإبداعية. وقد كان لهذا الانفتاح على تلك التجارب والعطاءات الشعرية المتنوعة أثر بالغ القوة على شاعريته، وربما وضعه ذلك الانفتاح في مواجهة ما يعرف بـ( قلق التأثر) بشعراء كبار مثل الجواهري، أبرز الوجوه الشعرية وأعظمها شعبية، الذي كان يرتجل القصائد محمولا على أكتاف المعجبين به في الطرقات والساحات. ولم يكن الجواهري الشاعر الوحيد الذي انفرد في التأثير على الشاعر الشاب، إذ نافسه في ذلك أبو القاسم الشابي والأخطل الصغير وايليا أبو ماضي، وشعراء آخرون نشأوا وأبدعوا في مناخات ثقافية مختلفة ومتمايزة، وكان لهذا التنوع في التجارب الشعرية الذي انفتح عليه تأثير عميق وعريض على تجربته وموهبته وطاقاته الإبداعية التي كانت في طور الصيرورة والتشكل. كما أتاحت له إقامته في العراق معايشة ومواكبة ولادة القصيدة العربية الحديثة بدور ريادي لنازك الملائكة وبدر شاكر السياب.