ماذا تبقى من وجودية جان بول سارتر في الذكرى 100 لولادته؟

احتفالات عالمية بصاحب «الغثيان»

TT

تحل هذا العام الذكرى المئوية لولادة، جان بول سارتر، والذكرى 25 لرحيله عن عالمنا في 1980، ولجنازته التي مشى فيها 50000 شخص، في مشهد شكل لحظتها علامة من علامات انتصار الكلمة والفكر على التنميط والبلادة الاستهلاكية. واذا كان لا بد من مدخل للحديث عن جان بول سارتر، الذي تنظم تظاهرات متعددة للاحتفاء براهنية فكره هذا العام في انحاء متعددة من العالم، فإن هذا المدخل لا يمكن أن يكون إلا بالحديث عن لحظة ولادته، وعن لحظة الوعي بهذا الحدث لدى فيلسوفنا الكبير. فالمغامرة الميتافيزيقية والوجودية بدأت لديه في هذه اللحظة بالضبط. ولذا جعل من التفكير في ملابسات ولادته المنبع الاول لفلسفته التي ملأت الدنيا وشغلت الناس. وقد بدأ سارتر تأمله في الموضوع كله بملاحظة بالغة البساطة: ملاحظة دور الصدفة في الجمع بين والديه وفي كل ملابسات مجيء الانسان، أي انسان، الى هذه الدنيا الفانية، وهي ملابسات ذات طابع عرضي واحتمالي حسب سارتر، بمعنى ان وجود الفرد كان يمكن ان يلغى بمجرد صدفة مضادة. وبمعنى آخر فإن وجود الانسان أو وجود الفرد هو وجود طارئ وزائد وإضافي وغير ضروري في العالم. وهكذا يصبح الانسان كائنا يتميز عن غيره من المخلوقات باحساسه بأنه قد قذف به الى الوجود من دونما وجهة محددة، غير تلك التي يختارها لنفسه بمحض ارادته، الشيء الذي يجعله في مواجهة الحرية ويمنحه قصب السبق على الحياة بشكل من الاشكال.

وهذا هوالاسهام الاساسي الذي قدمه جان بول سارتر للفلسفة. انه مفهوم جديد وثوري لوجود الانسان في الكون، لوجوده لا السياسي فحسب بل الانطولوجي. فالانسان كائن منذور للقلق بمجرد شروعه في تأمل حقيقة وجوده ووضعيته في العالم وفي التاريخ، الشيء الذي يمنعه من ان يعيش وجوده بهدوء، ويخلق بينه وبين نفسه مسافة تجسد ما يمكن ان نسميه حرية الضمير. غير ان القضية لا تتوقف هنا، فالمشكلة هي أن هذه الحرية حرية صعبة لأنها تلقي على كاهل الانسان، من دون غيره من المخلوقات، مسؤولية ضخمة يستحيل عليه الفرار منها، الا اذا حاول ممارسة الكذب على الذات وعلى الآخرين. الا ان هذه الحرية تسمح كذلك بإتاحة الفرصة امام ابراز مظاهر عظمة الانسان حين يتحمل مسؤولية الحرية في مواجهة كل الحتميات التي تحيط به، والتي ينبع بعضها من دواخله، مثلما هوالامر مع اللاشعور.

وقد تعززت هذه الرؤية السارترية للاشياء منذ الكتابات الاولى لهذا الشاب اللامع، الذي احتل الرتبة الاولى على رأس فوجه لدى تخرجه من المدرسة العليا للاساتذة، مدرسا للفلسفة عام 1929، في حين احتلت رفيقة عمره سيمون دوبوفوار، الرتبة الثانية بعده مباشرة، مقدمة بذلك تفسيرا آخر متميزا للقول المأثور:«وراء كل عظيم امرأة». ثم جاءت الحرب العالمية الثانية بكل فظاعاتها لكي تعزز المفاهيم والآراء التي اطلقها سارتر، ولكي تقدم له صورة أعمق وأوضح لحقيقة الانسان ولوجوده في الكون.

وبعد صدفة الولادة البيولوجية سيجد سارتر مرة أخرى نفسه داخل دوامة صدفة ولادته الفكرية، التي تمت عبر دخوله بصعوبة، لا يمكن الا ان تذكرنا بآلام المخاض، الى عالم النشر. فبعدما كتب روايته الاولى التي اشتهرت تحت عنوان «الغثيان»، وكان قد اسماها في البداية «تأملات في الصدفة»، عرضها على، سيمون دوبوفوار، التي وجدتها مملة ولا تتضمن عنصر التشويق، فأعاد سارتر صياغتها قبل ارسالها الى الناشر الفرنسي «غاليمار»، لكن لجنة القراءة رفضتها واعتبرتها غير ذات شأن. كانت النتيجة إصابة الكاتب الشاب بالإحباط الشديد والاكتئاب. الا أنه قرر التصرف بشكل عملي هذه المرة ملتمسا من صديقه، شارل دولان، التوسط لدى الناشر، غاستون غاليمار. واقترح الناشر تعديلات وتغييرا للعنوان إلى «الغثيان». وهكذا ظهرت للوجود الرواية المؤسسة لشهرة جان بول سارتر، فحصدت النجاح الجماهيري المنقطع النظير والترحيب النقدي المتحمس المعروف والتنويه الشديد بحصافة الناشر، الذي انتبه الى هذه الموهبة الفلسفية الصاعدة بقوة الصاروخ.

وقد كان لهذه الرواية الفضل في وصف التجربة الاساسية التي ترتكز عليها الوجودية السارترية، تجربة الاحساس بهشاشة وجود الانسان والاشياء في الكون، وبكون الوجود كله غير ضروري، يقول المؤلف عن ذلك في «الغثيان»:«لم افكر من قبل في ما تعنيه كلمة (وجود)، لأنني لم أكن أشاهد الا الموجودات، أما الوجود فهو شيء يختفي عن مجال رؤيتنا عادة». وهذا هو السؤال المحوري، الذي طرحته الوجودية، سؤال الوجود الذي لا تبدو منه الا الموجودات في حين يظل فعل وجودها، غامضا مستعصيا على التفسير.

وبهذه الملاحظة المؤسسة، استهل سارتر عملية تحويل مسار الفكر في النصف الثاني من القرن العشرين، عبر مجموعة من المبادرات يكمن أهمها في:

ـ أولا: إعادة قراءة، هوسرل، و، هايدغر، بطريقة عميقة وشاملة، واخراج الفلسفة من الفضاء الجامعي والاكاديمي الضيق الى رحاب الحياة العامة ودفعها الى لعب دور فاعل في التاريخ وفي الاحداث. فالقراءة السارترية لهوسرل، و، هايدغر، عوضت مجرد اسبقية الوجود على الجوهر بنفي قاطع لوجود هذا الجوهر في حد ذاته.

ـ ثانيا: إعادة النظر في مفهوم الفكر الفلسفي وفي اتجاهه الى خلق نزعة انسانية تقود الى «الانسان المطلق».

ـ ثالثا: إعادة النظر في العلاقة مع التحليل النفسي عبر تصور جديد لمفهوم الوعي اوالضمير.

ـ رابعا: انشاء علاقة من نوع جديد بين الفكر والادب. اذ تمكن، جان بول سارتر، من تحقيق حلم شبابه في أن يكون «سبينوزا وستاندال في نفس الوقت». ولم يتمكن أحد قبله، منذ الحركة الرومانسية، من المزج العميق بين الممارسة الفلسفية والادبية، ليلغي بذلك الحدود بين انواع التعبير والتفكير، وليفتح المجال لجميع التساؤلات اللاحقة حول اشكاليات المعنى وسلطة الخطاب.