من مشاغل الخارج إلى العزلة

مراحل في تجربة المغربي محمد بن طلحة

TT

في حمى القصائد التي تسعى الى هدف، تبقى قصيدة الشاعر المغربي محمد بنطلحة بلا هدف. والقصائد الهادفة عادة ما تكون مصوّتة وهي تتسارع الى هدفها، وقصيدة محمد بنطلحة صامتة، حتى أنه يعزز فضيلة هذا الصمت في العملية الشعرية بتطوعه ليصير عكاز اللغة العمياء:

اللغة

حينما عميت عن كلِّ شيء

تطوّع الصمتُ

وصار عكّازها(280)

قصيدة محمد بنطلحة لا شأن لها بالظاهر الذي يحدث، وللظاهر منطقه العقلي الذي لا ينسجم والشعر. قصيدته يستهويها الباطن الذي يحدث، وهذا الباطن له منطقه أيضاً، ولكنه منطقٌ غير عقلي. ما من شيء يتلف الشعر ويسيء اليه قدر ما يفعل انشغاله بهذا الظاهر، لأن الانشغال بالظاهر أو الخارج، سيختلق دراما بين ذات الشاعر والآخر خارجها، ذاتاً كان هذا الآخر أو فكرة، أو حدثا. وهذه الدراما قد تغذي المؤرخ لا الشاعر. الشاعر تغذيه الدراما الداخلية بين ذاته وذاته، إن صح التعبير. تغذيه حالة الضدية التي أضاءها أبو العلاء المعري:

مهجتي ضدٌّ يحاربني أنا مني كيفَ احترسُ

وهذا الانشغال بالباطن لا حدود لعالمه، وتنوعه. قصيدة محمد بنطلحة انتخبت هذا الانشغال في صيغته التي عرضتُ لها في ما سبق، في الاغتناء داخل قشرة الكلمات، وفي الغناء المُطرب خارجها. كما أنها انتخبت حرصها على المنطق في بناء الصورة، حتى لو كان هذا المنطق غير عقلي:

ثوبنا جسدٌ: قدماه مقصٌّ،

ومنكبُه ضحكٌ، أو بكاءْ.

يا أميرَ القوافي!

ويا ظلّ من يرتدي ـ في ركاب التوهمِ ـ خُفّين

أصلهما عطشٌ، ورواءْ!

أفي فتنةِ القول متّسعٌ للزيادةِ والنقص؟

أم أنّ شكلَ المقصّ

يحدد شكلَ الرداء؟(158)

القصيدة تعرض وهما في البيتين الأولين، يخرج من صلب مخيلة منطقية ترتب السياق السردي بصورة مقبولة تماماً. هذه المخيلة المنطقية تمنح الوهم مشروعية أن يكون مرئياً، وهو ليس كذلك. ولذا تهيئ القارئ عن طريق تقبل وحدة المتعارضات: ضحك أو بكاء، عطش ورواء، زيادة ونقص، لا فرق! ثم تُلحق الوهم بمساءلة أمير القوافي، السائر في ركاب التوهم، إذا ما كان في فتنة القول متسع؟ ولا شك أن في «فتنة القول» أكثر من متسع للإيهام. محمد بنطلحة بارع في إضفاء سياق يبدو منطقياً لبنية القصيدة. وبارع في اللمسة الموسيقية الغنائية.

عزلة الشاعر في موضوعه الداخلي، مقارنة بالاندفاعة المصوّتة باتجاه الأهداف، أشبه شيء بخفقة هواء عذب داخل بهو فاسد الهواء. محمد بنطلحة يذكر بذلك، داخل موجة الحماس الشعري المنتصر للحرية، للثورة، للحب، للحداثة، للتجديد...، أو الحماس المعادي ضدها، لا فرق! إنه منشغل بعجوزه الوحيدة، والطريف أنه يختار لقصيدته في هذه العجوز عنوان «ليست للنشر»، وكأنه يريد أن يعتذر لقارئه عن هذا الانشغال البطر غير المعهود!:

للعجوز الوحيدةِ منذ سنين هواياتُها.

في الصباح المبكر ترسمُ فوق ملاءتها:

هُدهداً،

وزنابقَ.

بعد الزوالِ تُهيئ قهوتها بالقُرنفلِ والمسك.

ولكنها في المساء الرمادي تمحو الذي رسمته،

وتجنح للمدفأة،

فيسبقها هدهدٌ فوضويٌّ،

وزنبقةٌ

كلُّ شخص رآها يقول: امرأة.(105)

يبدو أن المراحل الثلاث ليوم المرأة، الصباح، الظهيرة، والمساء، هي مراحل العمر. الصبا الحالم، والنضج المحتفي بعطايا الحياة، ثم الشيخوخة الرمادية التي تطمع بالنسيان. الهدهد والزنبقة يردان على المرأة وعلى القصيدة من عالم الغيب. يردان في الطفولة على هيئة أحلام وأمنيات، يؤكدهما الفعل (ترسم فوق ملاءتها..)، لأن الرسم وليد مخيلة رائية. ولكنهما يعاودان في آخر الشيخوخة من دون انتساب للمرأة، وبدون إرادتها. بل يعاودان رغم المرأة التي (تمحو الذي رسمته) راغبة بالنسيان. يسبقانها مثل نبوءة مشؤومة هذه المرة. والهدهد طائر نبوءة على كل حال.

في مسار محمد بنطلحة الشعري مراحل ثلاث. قصائد المجموعات الشعرية الأربع التي بين يدي(«ليتني أعمى» ـ الناشر«فضاءات مستقبلية ـ الدار البيضاء) تبدأ من مطلع السبعينات. كان فيها الشاعر مفتونا بما يُفتن به الشاعر الشاب آنذاك، من رغبة بالمواجهة اليقينية والحاسمة مع الخارج. مواجهة يكون قلب الشاعر فيها «براكين تشهق».(37) مواجهة مع الحياة كما يراها، أو تراها مُثُله ومعاييرُه. وهي لا تنصاع بالتأكيد لهما.

وانه أكثر مرونة من صلابة الحياة في معرفة سبل مقاومتها:

أي وجهٍ لم تدسه الخيلُ؟

حين استقبلتني النظرةُ الشزراء بالشبهةِ

داستني المساميرُ.

فلم أعبأْ.

وغيرتُ اتجاهي.(21)

إلا أنه مع هذا اليقين الفتي يحسن التساؤل المتشكك:

من يؤدي في ختام السهرة الألفِ

ـ إذنْ ـ دورَ البطلْ؟ (17)

ختام هذه السهرة ودور البطل المسرحي فيها، يقود محمد بنطلحة الى مرحلته الوسطى، مرحلة الانحناء الى الداخل، واكتشاف محاور للصراع جديدة. لنتأمل المقطع الثاني من قصيدة «موجة من رماد الجسد»، التي يهديها الى الشاعر اللبناني المنتحر خليل حاوي، لأن فيها فاصلَ هذا التحول مرصوداً بوضوح:

في الرصيف المقابلِ مرّ:

يدٌ تستحث الخطى،

ويدٌ خلف ظهره.

هل عاد للتو من ساحةِ الحرب؟

ماذا رأى؟

غير ما قد رأى الخبراءُ؟

وما قد رأى السفراء؟

...

رأى

ما يرى الشعراءُ.

وعاد الى ساحة الحرب منفرداً.

صمتُه مخزنٌ للمؤونةِ، والأسلحة.

وقلبه عاصمةٌ،

ومفاتيحها في يديه.(65)

البطل في الحرب في كلا الفقرتين. ولكن شتان ما بين حاله في الأولى، وحاله في الثانية! في الأولى رأى ما رأى الخبراء والسفراء من أطراف المعترك مع الخارج: أكان هذا الخارجُ متمثلاً في آخرَ أو في فكرة. وفي الثانية رأى الذي رآه الشعراء من أطراف لا تقل عدداً، ولكن في المعترك مع الداخل. هنا في داخله عثر على مؤونته وأسلحته، وعلى مفاتيح عاصمته. ولكن الذي لا يقلّ إثارةً للانتباه هو المشهد الأول الذي أراده الشاعر عن قصد أن يكون مطلعاً كوميدياً، وهجائياً بالتأكيد. اختار للمشهد مكتبَ جريدة من الجرائد المحلية يردها خبرُ موت الشاعر، على ما يبدو، أو هكذا اجتهدت مخيلةُ القارئ فيَّ! ولكن، وبالحرف الأسود الكبير، يصيح المصففُ:« مقفلةٌ طبعةُ اليوم. مقفلةٌ طبعةُ الغدِ. مُقفلةٌ طبعةُ السنةُ المقبلة».