وجوه

TT

علي أحمد زعله لم تكن رغبتي في النوم كبيرة، لكنني كنت مرهقا حد الفناء بعد يوم مشحون بالعمل من بزوغ الشمس وحتى انكفائها الى حضنها الازرق العميق.. أحسّ بخمول عظيم يتمطّى في مفاصلي، وتوتر يزمجر في اعصابي..

حين دخلت المنزل ما كنت أنوي على شيء سوى الفراش.. أدفن فيه ذلك الارهاق المتعاظم في كل ذرة من جسدي المهترئ، حتى أمي التي فارقتها باكرا لم استطع القاء تحية المساء عليها او حتى تقبيل يدها وجبينها المتغضن، كما هي عادتي كل مساء، فضلا عن محادثتها وايناسها بتناول فنجان من (المردوم) الجنوبي الاصيل..

دلفتُ مباشرة الى غرفتي، ادرت المفتاح في ثقب الباب، فأنا لا اتركها مفتوحة ابدا.. حتى اثناء وجود امي في البيت.. ازعم ان فيها اشياء من تفاصيل حياتي المهمة!! دخلت غرفتي المبعثرة تماما كأشلاء روحي، لم اقلق شبح الظلام الجاثم في ارجائها، استلقيت بعشوائية.. تذكرت ان حذائي القذر بكل ما يحتضنه من بقايا الشارع لم يزل ملتصقا بقدمي.. لا بأس.. لست اريد النوم، بل سأسترخي قليلا ثم انهض لأبدل ملابسي واستحم واجلس الى امي.. و .. اخذتني سنة لذيذة كنت فيها اشبه بمخمور بلغ ذروة النشوة.. دق جرس التاسعة، اللعنة على هذه الساعة.. بل اللعنة على الغربيين الذين صنعوها!! اشعر حينما يدق جرسها ان مطارق الحديد ترجف في كبدي، انها تنغص عليّ دائما لحظاتي الجميلة التي لا ألتقيها غالبا إلا في المنام! عندما انهض سأنقل هذه اللعينة الى الصالة.. هكذا أنوي منذ اشتريتها قبل سنتين! وبينما انا اجدد العزم على الفتك بالساعة الآثمة عاودتني اغفاءة أعمق من سابقتها.. ولكن شبحا غريبا مرق بجواري وغمز حذائي باتجاه باب الغرفة، وهناك توقف.. انني اعرف ذلك الشبح تماما; ليست المرة الاولى التي اشاهده فيها.. انه يحمل وجهي، ولكن جسده لا يشبه جسدي فهو متورم قليلا.. والعجيب انني رأيته يحمل على شفا جيبه حفنة من الاشخاص!! مَن أولاءِ المتعلقون؟! ذاكرتي لا تنكرهم، ولكنني اجد صعوبة بالغة في التعرف على اسمائهم او اماكن لقائي بهم.. او اي شيء عنهم.. بالتأكيد اعرفهم.. آه لقد تذكرت، انهم أولئك النفر الذين يعملون في القسم الذي أديره بالمؤسسة، لقد عرفتهم برائحة العفن التي تفوح من وجوههم وعيونهم.!! كانوا يتعلقون بجيبه يحاولون ان يرتقوا اليه بأي سبيل، حين دققت النظر اكثر تبينت ان ثمة مجموعة منهم وبرغم تعلقهم إلا انهم لم يكونوا يحاولون الصعود.. كانت ايديهم تلمع بياضا! اشار الرجل بأطراف اصابعه كأنما هو يزيل قذاة علقت بثوبه.. فأسقط أولئك البيض، انكبوا على الارض بعنف..

وأما البقية فما زالوا يقاتلون من اجل ولوج ذلك الجيب، وفجأة قذف احدهم قطعة مستديرة براقة ثم اتبعها بأخرى الى داخل جيبي.. اعني جيب ذلك الرجل الذي يعتمر وجهي!! عندها وبعد ان اطمأن الى استقرار القطعتين في غيابة جيبه سارع ذلك الصفيق الى حمل صاحبهما ثم واراه داخل جيبه.. والباقون بين ساقط متهالك وآخر يحاول التعلق او .. الحصول على قطعة ما..

كان ذلك هو المشهد الاخير الذي قام به الرجل قبل ان يتوارى من فضاء الغرفة.. اين ذهب؟ وكيف اختفى بكل هذه السرعة؟! انني ابحث عنه في كل الزوايا المنفرجة التي تكتنف غرفتي السوداء، أتقراه في طلاء الغرفة الممتقع وألتمسه بين اغلفة الروايات الممزقة.. رغم ذلك الغطيط الذي ينبعث واهنا من صدري إلا انني لست نائما! بل اشعر أني لم اكن بمثل هذا الصفاء الذهني من قبل.

وبعد لحظات من البحث العائم.. انه هو لقد وجدته، ها هو يتربع على سطح مكتبي الذي ليس له من اسمه إلا قوائمه الاربع، عندما حدقت في الرجل ادهشني نحوله الشديد، لقد عاد ضئيلا لا يملأ الكف ولكنه ما زال يحمل وجهي وقد ابهجني ذلك الرواء والصفاء الطافح من جبيني المعلق على ظهره هذه المرة!! وعندما هممت بندائه استقبلني بصدره الذي يحمل وجهي ايضا لكن صفرة عجيبة كانت تحتويه وتشي بعاهة ما.. انه بوجهين إذن.. لم اعد متأكدا من يقظتي الآن! حاولت ان أسأله: من انت يا هذا؟

وكيف دخلت غرفتي؟

والسؤال الملحّ: لماذا تحمل وجهين كوجهي؟! ما علاقتك بي؟ وما..؟؟! عصفت كل تلك التساؤلات واكثر منها في فكري المكدود.. اغاظني بوداعته وصمته.. وبتلك النظرة المريبة التي تسمرت باتجاهي، استجمعت قواي وهممت بطرح اسئلتي عليه.. لم أتمكن من ذلك.. لقد عادت الساعة اللعينة لتعلن العاشرة..