كاتب جنت عليه السياسة

وليمة و حرير و عش عصافير للفلسطيني تيسير نظمي

TT

كل أديب في العالم يتمنى لو أنه كتب عملاً سبقه إليه كاتب آخر، فهذا أناتول فرانس كان يرجو لو أنه (هو) من كتب رواية (الدون كيخوته) لثربانتس، وجان بول سارتر كان يتمنى لو أنه كتب إلياذة هوميروس، وحنا مينه كان يعشق (موبي ديك) وتمنى أن يكون مؤلفها، ونجيب محفوظ في أول حوار معه كان يتمنى لو أنه (هو) الذي كتب ألف ليلة وليلة، وهكذا مع أسماء وقامات أدبية معروفة، تراها تحلم لو أنها هي التي أبدعت نصوص قامات عملاقة سبقتها إلى ذاك المنجز العظيم.

ويأخذني الظن إلى أن تيسير نظمي كان يتمنى بدوره لو أنه (إدغار ألن بو) أو (فرانز كافكا) حتى يتمكن من الغوص عميقاً في لجة الكوابيس وأن يدخل العالم السفلي للكائنات البشرية المسحوقة والمهمشة والمنسية والتي ترزح تحت ضغوط نفسية ولا صوت لها غير الأنين، وبرغم أن عنوان مجموعته القصصية (وليمة وحرير وعش عصافير)، وهو عنوان يوحي بجماليات الدنيا وعصافيرها، إلا أن القصص جميعها تحكي عن أشياء سوداء لا حرير بينها ولا زقزقة عصافير فيها، بل هو عالم يغرق في البؤس واليأس واللعنات من الصعب أن تحسم أمرك بين أشواكه ومساميره وصخوره، إذ لا وقت للتأمل أو ركوب طوق النجاة في زحمة القهر الذي يطارد أبطاله في كل جزء من المكان الذي هو فيه. هناك مرارة على طول الخط، لا مكان للسعادة في عالم تيسير نظمي، العالم مزحوم بالأخطاء وليس من ثغرة نحو النور، يأس مطبق وخوف عارم مثل أمواج غاضبة تلتهم كل شيء في طريقها، والإنسان في قصصه مأخوذ ومجذوب وغير مرغوب فيه. والبطل في هذه القصص دون أية بطولة، ممسوخ، مرعوب، مطارد، يكاد من ثقل همومه أن يسقط أرضاً حتى تكاد (أنت القارئ) أن تسأل نفسك: من أين يأتي هذا الرعب الذي يمسك برقاب شخوصه؟ أين تحيا تلك الكائنات وعلى أي أمل تعيش؟ يقول خليل السواحري: «عوالم هذه القصص تشبه إلى حد كبير عوالم كافكا، حيث يتحول المعقول إلى لامعقول وتغدو اللحظة النفسية عبئاً كبيراً على من يعيها».

* عطب في الصميم

* في قصة «الأسم الأول له.. الاسم الثاني له» بطل الحكاية يبحث عن صديق قديم ، هو البحث عما بقي في الدنيا من ذكريات جميلة، لكن بحثه يطول في الشوارع ويمتد في الأزقة حتى يصل عمارة من أربعة طوابق. اسم صديقه محمود أبو الليل (صديق الأيام العصيبة) الذي يستجير به ولا يرّد له أيما طلب، أو هكذا كان كما يتذكره الآن، وبعد عناء واستغراب تفتح الباب زوجة صديقه الأثير، لكنها تقول: (لا نعرف شخصاً بهذا الاسم)، وهو على يقين أن هذا البيت هو بيت صاحبه القديم صديق أيامه الصعبة، بل يسمع صوته من وراء الباب وهو يسأل عمن جاء يطرق الباب !

ليس من حنين ولا ذكريات ولا ذاكرة، العالم أصابه عطب في الصميم، علماً بأن اختياره اسم بطل القصة (أبو غضب) جاء طريفاً وعلى مقاس اللوعة.

في (أيام المستنقع) يقع الكاتب في مطب القصة ـ القصيدة، حيث القافية والوزن أحياناً يطغيان على سياق الموضوع، خذ مثلاً قوله:

- كل ما هو في البلدان من غدر الخلان

وحتى الحوار يقع في المطب نفسه إذا ما سمعنا صوت الضابط على الصفحة 8 وهو يصرخ بالموقوف:

انزع حزامك وأعطني ربطة عنقك وفتش بنفسك هندامك، ودّع أحبابك وكل خلانك، لسانك هو حصانك، وعليك أن تفكر من صانك ومن خانك، هيا أمامي، فلا تظن أنني سأمشي طوال الطريق قدّامك.

هذه الطريقة في الكتابة، كما نعلم، فات زمانها، وقد كانت سائدة في الخمسينات وما قبلها. يلتذ كتّابنا بالسجع والطباق وبقية فنون اللغة ويشعر البعض منهم بالإطراء إذا قيل بأن أسلوبه شاعري، مع أن لغة القصة تختلف تماماً عن لغة الشعر.

لاحظ معي عناوين قصصه، وبعضها أطول مما يجب، فهذه قصة (النمور في اليوم الـ23 تشرب ماء العدس)، وهي تعتمد على قصائد محمود درويش وسميح القاسم وأحمد دحبور، مع أن (الطبخة تفسد كلما أكثرنا من طباخيها) كما يقول هو نفسه في أول السطور، وجاء على ذكر أرسطو وزكريا تامر و«الأوديسة»، مع منتخبات من أقوال مأثورة، ثم إشارة صريحة إلى أدونيس في قصيدته (مفرد بصيغة الجمع) إلى جانب الضجر واليأس والإضراب عن الطعام و(الثورات التي يفكر بها دهاة القوم وينفذها الشجعان ويستفيد منها الانتهازيون)

وحذار من جوعي ومن غضبي كما يكرر محمود درويش طبعاً.

أما في قصة (آخر النمور) فيستمر مع إحساسه بسقوط الحياة ويرى في الإنسان قوة مسلوبة، مع إحباط بلا حدود، وكل صحراء يمشيها وراءها صحراء خلف صحراء وما وراء الصحراء سراب من الجهات كلها، لكنه يرجع إلى الشعر والسجع مرة ثانية ليقول على الصفحة 31:

«وكان واحداً وأحد، لم ير في زماننا له أماً ولا ولد، وكان نمراً وكان البلد، أسلمني روحه وأناخ الجسد».

كما يستجير بالقرن التاسع الميلادي فيختار كلاماً قاله علي بن محمد شعراً:

سلام عليك يا خير منزل

خرجنا وخلفناه غير ذميم

فان تكن الأيام أحدثن فرقة

فمن ذا الذي من ريبهن سليم

تشعر أن تيسير نظمي يريد أن يسكب معلوماته وقراءته في كل قصة يكتبها، مع أن القصة القصيرة (حصرياً) لا شأن لها بالمعلومات أو قراءات مبدعها، وقد يتحقق ذلك في الرواية نوعاً ما.

تيسير نظمي نشر أول قصة له عام 1972 لكنه على ما يبدو لم يلتفت إلى نفسه وقصصه، وكان عليه أن يكتب أكثر حتى يأخذ حصته ونصيبه من هذا الفن الصعب، لكن كتاباته في السياسة أخذت الكثير من جرف القصة القصيرة، ويكفي أن نذكر بعض أساتذته حتى نعرف على يد من تتلمذ تيسير، فهذا علي الراعي، وطه محمود طه، وسليمان الشطي وغيرهم، مما يشير إلى نوع قراءته واهتماماته في ظل أسماء معروفة تعّلم منها الكثير، ويضاف إليهم الروائي إسماعيل فهد إسماعيل. كما انه نشر مبكراً في مجلة (الآداب) البيروتية و(أفكار) الأردنية، وكذلك في مجلة (الكرمل) و(كتابات) و(عمان) وغيرها.

يقول عنه وليد أبو بكر: «إنه أحد الكتاب المهمين على المستوى العربي الذين لم يحظوا بشهرة يستحقونها وذلك لأسباب سياسية».

* وليمة وحرير وعش عصافير. قصص قصيرة. تيسير نظمي. دار الكرمل للنشر والتوزيع. عمان. الأردن. عام 2004