صدور الأعمال الكاملة للروائي المغربي الميلودي شغموم

أسئلة الواقع بتعقيداته المختلفة وتتعدد أسئلة الكتابة والسرد

TT

تواصل وزارة الثقافة المغربية مشروعها الطموح نشر الأعمال الكاملة للكتاب والأدباء المغاربة، وتحديدا على مستوى الشعر والقصة القصيرة والرواية، باعتبارها الأجناس الأدبية الأساسية التي تحقق داخلها تراكم وافر لدى الأدباء المغاربة، إلى حد الآن.

وأخيرا فقط، انضاف اسمان جديدان إلى قائمة الأدباء المغاربة الذين استفادت أعمالهم الروائية من هذه التجربة الناجحة مع «الأعمال الكاملة»، ويتعلق الأمر، هنا، بالروائيين الميلودي شغموم ومحمد عز الدين التازي، اللذين يعرفان كذلك بكتابة القصة القصيرة، وقد صدرت لهما في هذا الجنس الأدبي العديد من المجاميع القصصية. غير أن «الرواية» تبقى، إلى حد الآن، الأوفر حظا من القصة القصيرة، من حيث الاهتمام بجمع نصوصها في إطار «الأعمال الكاملة»، وإن حضرت القصة القصيرة في هذه السلسلة في تجربة سابقة مع القاص المغربي إدريس الخوري، وفي تجربة أسبق مع الأعمال القصصية الكاملة «ديوان السندباد» لأحمد بوزفور، الصادرة عن منشورات الرابطة.

صدرت الأعمال الروائية الكاملة للميلودي شغموم ومحمد عز الدين التازي في ثلاثة أجزاء تضم، بالنسبة لشغموم عشر روايات، هي: الضلع والجزيرة (روايتان) ـ الأبلة والمنسية وياسمين ـ عين الفرس ـ مسالك الزيتون ـ شجر الخلاطة ـ خميل المضاجع ـ نساء آل الرندي ـ الأناقة ـ أريانة. والميلودي شغموم من الرعيل الأول من الكتاب المغاربة الذين طبعوا المشهد الأدبي بالمغرب بحضورهم وبكتاباتهم المجددة. تتعدد صوره ومستويات انشغالاته الثقافية والفكرية والأدبية والنقدية، بشكل يجعله كذلك واحدا من القلائل الذين عرفوا بكتاباتهم المؤثرة، وبأفكارهم الجريئة، وبدفاعهم المستميت عن البعد المغربي في الكتابة والإبداع والثقافة العربية. غير أنه من بين الصور التي يرتضيها شغموم لنفسه صورة ذلك الروائي الذي صاره، وهو ما تعكسه بالفعل الأعمال الروائية الكاملة الصادرة له أخيرا عن منشورات وزارة الثقافة(2005)، منها نصوص سبق نشرها خارج المغرب (في بيروت تحديدا)، في حين نشر معظمها بالمغرب، في إطار قناعة شخصية وتصور ذاتي للكاتب لمسألة النشر داخل المغرب.

تراكم روائي مهم، إذن، ذاك الذي عمل الميلودي شغموم على بنائه على امتداد أزيد من ثلاثة عقود من الزمن، ومن الكتابة والتفكير والإبداع، هو الذي يعرف كذلك بوفائه المنتظم في الكتابة والنشر، عدا مساهماته في مجال الترجمة وانشغاله بالبحث والدرس الجامعي والنقدي..

وتشغل الرواية الحيز الأكبر في تفكير الميلودي شغموم الإبداعي والنقدي، فحتى أبحاثه وآراؤه الفلسفية والتأملية والجمالية تجد صداها داخل رواياته، وخصوصا ما يتعلق منها بقضايا المقدس والتصوف والذوق والجمال.

لقد بدأ الميلودي شغموم الكتابة في سياق مناخ ثقافي وأدبي مشدود إلى روح التجديد والتجريب والمغامرة وتجاوز السائد، مستندا في ذلك كله إلى وعي نظري وفلسفي وفكري وأدبي ونقدي، يتأمل عبره الكاتب مسألة الإبداع وموضوعاته الإنسانية والجمالية.

فكما تتعدد في روايات شغموم أسئلة الواقع بتعقيداته المختلفة، تتعدد فيها كذلك أسئلة الكتابة والسرد، بما يوازيها من تنوع في مرجعيات الكتابة لدي الكاتب، انطلاقا من تنوع وكثافة مخزونه الثقافي وتعدد مصادره الفكرية والفلسفية، التراثية والحديثة، الأمر الذي يجعل عوالم رواياته مفتوحة دوما على العديد من اللحظات والصور والأسئلة التكوينية والدلالية، تلك التي يتداخل فيها الخيالي بالواقعي، والممكن بالمحتمل، والغرائبي بالأسطوري والعجائبي، والصوفي بالتراثي والشعبي، والنفسي بالجمالي، بموازاة مع الدور الذي يمنحه الكاتب في رواياته على مستوى التشكيل والصور والتعابير والتكثيف والتجريد، فضلا عن الأهمية التي يضفيها الروائي كذلك على صيغ الحكي في رواياته، تلك التي تترواح بين الحكي الشعبي والحكي التراثي وتوظيف الأساليب الجديدة والحداثية، بما تخلقه جميعها من صنعة ولعب وإخصاب للغات الكتابة والسرد.

ومن شأن المتتبع لهذه التجربة الروائية، كما بلورها شغموم في أعماله الكاملة هاته، أن يلاحظ مدى التنوع الذي يميزها على مستوى الأشكال والتقنيات، كما على مستوى المضامين والدلالات، بمعنى أن شغموم، في كتاباته الروائية، كان بالأساس منشغلا بأسئلة الكتابة وبناء المتخيل وصيرورة الحكي بمثل انشغاله بأسئلة الإنسان والكينونة والوجود، بحيث تتميز رواياته، في هذا الإطار، بالعمق والتجذر في الأعماق البشرية وفي الأزمنة المؤطرة لها، منذ بدء الخليقة إلى ما بعد يومنا هذا، حيث تنفتح رواياته على الماضي، كما تستشرف المستقبل، ذاك الذي يتحدد في روايته «عين الفرس»، على سبيل المثال، في عام 2081، وكأن لجوء الكاتب في هذه الرواية إلى المستقبل هو بمثابة احتماء به من الماضي ومن الحاضر أيضا، حيث تعم الهزائم وتخيم الكوابيس والتشاؤم والأوهام، كما يظهر فيه الفرد فاقدا القدرة على التصالح حتى مع ذاته وكينوته، فبالأحرى مع واقعه والعالم الذي ينتمي إليه. وتبرز بعض جوانب اهتمام شغموم بالمغايرة والتجريب والتجديد في رواياته، للوهلة الأولى، من عناوين نصوصه، منذ أولى رواياته إلى آخرها، بمعنى أن لعبة العناوين في نصوصه سرعان ما تلقي بنا داخل فضاء متعدد من القراءات والتآويل، أخذا بعين الاعتبار، هنا، ما تخلقه هذه العناوين كذلك من التباس وتعتيم وتوتر ورمزية وتساؤلات وإيحاءات غير مباشرة، على مستوى التلقي الأولي والبعدي لرواياته، بحيث يصبح أحيانا من الصعوبة بمكان فك التباس تلك العناوين بسهولة من دون إخضاعها لعملية إعادة إنتاج النصوص وإدراك مضانها، الأمر الذي يتطلب من القارئ الكثير من الصبر والتوسل بالمزيد من المعرفة في فهم أولوياتها والكشف عن دلالاتها وأبعادها الرمزية والجمالية، كما هو الشأن أيضا بالنسبة لعناوين بعض فصول وأقسام رواياته، وهو ما جعل العديد من القراءات والدراسات التي تناولت روايات شغموم تفرد حيزا مهما في مفتتحها لمقاربة مسألة العنوان، بمعنى أن رواياته تفرض نفسها على القارئ والدارس في كليتها، أي منذ قراءة أغلفتها الخارجية.

كذلك يعتبر الميلودي شغموم من بين أهم الروائيين المغاربة الذين أولوا اهتماما لافتا ومفكرا فيه بقوة لمسألة «تسمية الشخوص والأمكنة» منذ أولى رواياته، وخصوصا في روايته «نساء آل الرندي». ففي هذه الرواية يبلغ الافتتان باللعب بالأسماء ذروته، بشكل يجعل القارئ أمام سجل حافل بالآسماء الدالة للشخوص والأمكنة والأزمنة، وبصورة تجعل هذه الرواية، كما هو الشأن بالنسبة لغيرها من روايات الكاتب الأخرى، مفتوحة على العديد من العوالم الرمزية والمفارقات الدلالية والاختيارات الجمالية، من حيث كون موضوع الأسماء فيها يحتل مكانة أساسية على مستوى ما تعكسه من أزمة هوية وانتماء، وتناقض اجتماعي وصراع ضد الاستلاب والقهر، مع ما يرتبط بذلك كله من تحول في المصائر وزيف في العلاقات.

وكما تتعدد صور الواقع في روايات شغموم تتعدد في المقابل مستويات التعبير عنه، لما يتميز به الواقع فيها من تعقيد وتعدد في صوره، ولما يطبعه كذلك من نسبية ومفارقات وتناقضات وتعقيدات، وذلك بمثل ما تتميز به موضوعات وقضايا رواياته من تعدد وتنوع، تخص أسئلة الإنسان والسلطة والهوية والانتماء والوحدانية، وتعرية المواصفات الاجتماعية، والكشف عن هشاشة الوضع الإنساني العام وزيف العلاقات فيه، وقضايا المرأة والجنس والإخفاق التاريخي للإنسان، وكلها أسئلة وهواجس ترتبط بالحاضر والمستقبل وبالراهن أيضا، في بعده الاجتماعي والثقافي والسياسي، كما هو الشأن بالنسبة لروايته «الأناقة»، وقد اتخذت من موضوع «حكومة التناوب» بالمغرب، وما يرتبط بها من قيم ومصائر ومفارقات وسخرية وأقدار، مجالا لتشييد المتخيل وصوغ أسئلة المرحلة وبناء الدلالات والمعاني، من خلال شخصية «المرأة» على وجه الخصوص، حيث يعتبر شغموم، في هذا الإطار، من بين أهم الروائيين المغاربة الذين أولوا اهتماما خاصا ومتزايدا للمرأة في رواياته، بمختلف تمثلاتها الاجتماعية والثقافية والنفسية والذهنية. فروايات شغموم عموما تهتم برسم صورة معينة لشخصية المثقف فيها، على مستوى ما تكابده هذه الشخصية من معاناة وبحث عن الذات وسط مجتمع منخور، هو المجتمع المغربي تحديدا، بما يعتمل فيه من أكاذيب ووعود وزيف في الشعارات والخطابات الرسمية.

أما على مستوى الشكل، فتتأسس روايات شغموم على خبرة كاتبها ووعيه بشروط الكتابة وتقنياتها وامتلاكه لأدواتها، عدا قدرته على ترسيخ ذوق خاص في الكتابة، له ارتباط جوهري بذاكرته ووجدانه وقراءاته وأبحاثه. فكما تتميز هذه التجربة بالتنوع على مستوى طرائق الكتابة والسرد فيها، تتميز كذلك بالمغايرة على مستوى الاشتغال على اللغة. فمن اللغة التراثية في الأعمال الروائية الأولى («الأبله والمنسية وياسمين» و«عين الفرس») إلى اللغة المفتوحة على سجلات الكلام والهجانة. ويعتبر شغموم في هذا الباب من أهم الروائيين المغاربة الذين يولون اهتماما خاصا ومتزايدا للغة العامية في رواياته، كما يدافع عنها في حواراته وأبحاثه، اعتبارا، على حد رأيه، لبلاغتها في استغراق الحميمية، وترجمة عدد من المواقف والحالات والأحاسيس التي لا تغطيها اللغة الفصحى، زيادة على أساليب السخرية وصيغ التهكم الخصبة والدالة التي تميزها.

من ثم، تبرز أهمية اللغة العامية في روايات شغموم كضرورة جمالية وضرورة إبداعية، وأيضا كضرورة للتعبير عن الذاكرة والواقع.

وكما تنفتح روايات شغموم على التنظير، تنفتح كذلك على اللعب الروائي من خلال لعبة المرايا والتنسيب وتعدد الساردين والمسرود لهم، وتنويع صيغ الحكي وتلغيم السرد، والتوسل بالسخرية والضحك، مما يساهم في تعديد وجهات النظر وتنويعها في نصوصه، بما يوازي ذلك من خلق لعوالم يطبعها التناقض والتنافر والتصادم والانسجام أيضا.

وإذا كانت هذه التجربة الروائية قد حظيت بتتويجها على مستوى جائزة المغرب للكتاب الإبداعي عام 2000، كما حظيت بتحويل أحد نصوصها إلى فيلم تلفزيوني ناجح، فقد أضحت اليوم مجالا نصيا متكاملا وملائما لإعادة القراءة وتجديد التأمل فيها، وعقد المقارنات وتتبع تطورها الشكلي والمضموني، بعد كل ما حظيت به هذه التجربة من اهتمام نقدي وتحليلي لافت بالداخل والخارج.