افتقار شديد إلى ألف باء فن المسرح

العرض المسرحي المصري «امرأتان» على قاعة الغد بالقاهرة

TT

عندما لا يجد معلقو كرة القدم شيئا يقولونه للمشاهدين وقد فرغت حيلهم أمام مباراة فاترة تماما، يلجئون للتعبير الشهير«نحن الآن سيداتي وسادتي أمام فاصل من العك الكروي المحترم» من أجل تبرئة ساحتهم الإبداعية علانية. ومع العرض المسرحي المصري «امرأتان» الذي شاهدناه على قاعة الغد المسرحية، لم نجد خيرا من هذه الجملة الشهيرة مع استبدال تعبير «العك الكروي» بزميله العزيز «العك المسرحي»، لأن مهمتنا بمنتهى البساطة استقبال كل الإشارات والعلامات التي يرسلها إلينا كل فريق العمل المشارك في العرض. أما إذا كنا لا نجد ما نستقبله أصلا كطرف ثان لأن الطرف الأول لم يجهد نفسه في إرسال أي شيء إلينا، فنحن أيضا لن نكلف أنفسنا أكثر من طاقتها ولن نبتكر عرضا من بنات أفكارنا لتقديم قراءة تحليلية لحدث لم يحدث أصلا، ولن نلتمس أي عذر للمخرج محمد متولي أو كل المشاركين في العرض باستثناء المؤلف السيد حافظ لأنه مسؤول فقط عن النص المنشور، وليس عن هذا العرض الرتيب الذي تدخل المخرج في متن النص بتغييرات أضرته أكثر مما نفعته من باب التدخل فقط لا غير، كما أننا لن نتحدث عن الإمكانات الفقيرة لقاعة الغد بصفة خاصة ولا لكثير من العروض المسرحية المصرية بصفة عامة، لأن الميزانيات لم تكن يوما عائقا أمام الإبداع فقط إذا توافر المبدع ذاته كخيال وإمكانات بشرية ورغبة في الإبداع وكحب للمسرح واحترام عمله وجمهوره.

من المفترض أننا أمام نص مسرحي من النوع النفسي الذي لا يقوم على حدث جلل بعينه أو ربما عدة أحداث، لكن صراعه الدرامي يتمحور حول التركيبة الدرامية المركبة للشقيقة الكبرى بثينة (وفاء الحكيم) التي تنعكس بالتبعية على تركيبة الشقيقة الصغرى (ياسمين فراج). من المفترض أن بثينة تفرض على نفسها وعلى شقيقتها حالة كبيرة من العزلة التامة بعيدا عن المجتمع عامة والرجال خاصة، نتيجة تلقيها صدمتان قاسيتان من القدر من دون توقع عندما فقدت والديها وهجرها حبيبها الوحيد منذ خمسة عشر عاما. إذن نحن أمام أنثى مهزومة مجروحة في كبريائها ووجودها وكيانها كاملا، لهذا قررت عقاب المجتمع أو هكذا تصورت بترك عملها والانسحاب التام داخل شرنقتها التي صنعتها بيديها. لكن المسألة ازدادت تعقيدا عندما استعذبت الأنثى الجريحة لعق دماء جرحها والقيام وحدها بدور البطلة الشهيدة، وحاولت إيهام نفسها بأنها مازالت تمتلك القرار وتحاول إثناء شقيقتها عن التواصل مع المجتمع وتعمل على إخافتها المستمرة من حبيبها الوحيد حتى لا تتعرض لنفس مصيرها بمنطق الخوف عليها وحمايتها لتخبئ وراءه دافع الغيرة من صغر سن شقيقتها وتجربتها العاطفية واستمرارية صمودها في وجه الزمن وفي وجهها هي نفسها. هذه الصورة من الثنائية لا بد أن تضعنا على الفور على أول طريق العرض المسرحي ذي التركيبة النفسية في التعامل مع كافة المستويات والعناصر، لكن المخرج بدون سبب واضح تخلى عن الأساس البديهي لهذا العرض وقام بتحويله من دون سبب وجيه إلى عرض تقليدي بحت بعدما جرده من كل محتوياته الجوهرية. ثم جاءت الخطوة السلبية الثانية عندما لم يفلح المخرج في التعامل مع هذا العرض ولو بالمنطق التقليدي، فكانت النتيجة تحول العرض إلى عدة مشاهد مملة فاترة لا تحمل جديدا بعدما أخلت بثينة وفاضها من أسرارها بعد أول خمس دقائق، وهو ما يعنى أننا ظللنا بعدها طوال ساعة إلا خمس دقائق لا نجد ما نفعله. ويرجع السبب في ذلك إلى وقوع المخرج في سلسلة متوالية من الأخطاء لا يمر بها مخرج مبتدئ في واقع الأمر. أولا سوء اختيار الممثلين جميعا رغم قلة الأدوار، حيث تناولت وفاء الحكيم الشخصية من أبعد نقطة من السطح ولم تفهم من غضب الأنثى من المجتمع ومن ذاتها إلا الصراخ الظاهري الذي لا يعبر عن أي شيء، وحتى هذا الصراخ تعاملت معه على وتيرة واحدة فضاع هو الآخر ومعه الشخصية ركن العرض الأساسي في هوة الملل الرهيب. أما ياسمين فراج وإبراهيم الزهيري فالحقيقة أنهما لا علاقة بينهما وبين فن التمثيل أصلا، فالأولى مطربة شعبية ذات صوت جميل شاهدنا لها بعض المشاركات في عروض قاعة الغد، والغريب أن المخرج لم يستفد بها حتى في منطقة الغناء الخفيفة واستبدلها بصوت سهير حسين الذي أدت بشكل جيد كلمات جمال فرج وألحان خالد عبد الغفار، لكن إذا افترضنا جدلا حذف هذه المقاطع الغنائية الصغيرة من العرض فلن نجد أي تأثير على الإطلاق. أما الثاني إبراهيم الزهيري فهو في الأصل مساعد المخرج نفسه ولكنه الآن يقترف فعل التمثيل بفعل فاعل، وكانت النتيجة أن مشهد المواجهة بينه بوصفه الحبيب الغادر وبين بثينة الذي يترقبه الجميع تحول من مشهد قوي مؤثر إلى مشهد هزلي فج بعدما تسبب الأداء في إضحاك الكثيرين وفقد العرض لحظة هامة بيده وليس بأيدينا. أما حارس الفيلا (محمد عابدين) فمن المفترض أنه يلعب دورا حيويا على مستوى البناء النفسي في العرض وليس في النص الأصلي، فهو البوابة الوحيدة بين بثينة والعالم الخارجي وهو أيضا الحاجز المتين بينها وبين العالم الآخر وهو الرجل الوحيد الذي ما زالت تتعامل معه وتنفث فيه غضبها وحزنها وهزيمتها. لكن يبدو أن هذه الدلالات الهامة كانت مجرد أحلام في رؤوسنا نحن فقط، بعدما تفرغ الممثل الذي لا نعرفه أصلا لمحاولة بل استحلاف الجمهور القليل ليضحك على إفيهاته السخيفة وترحيبه علانية بالضيوف المهمين في القاعة من باب إقامة جسور العلاقات العامة هكذا عيانا بيانا على خشبة المسرح وكأنه يجلس على سطوح منزلهم، لكن أين المخرج وإدارة المسرح من هذه المهزلة لا أحد يعرف؟!

نعود مرة أخرى لاستكمال بنود هذا العرض الذي لا ينطبق عليه لقب عرض، فنجد أن ديكور وملابس محمد هاشم وقعا في براثن التقليدية الشديدة الخاليين من دلالة واحدة تستحق التفسير والتأويل تماما مثل تصميم الإضاءة والميزانين اللذين لم نستقبل منهما أي شيء. أضف إلى ذلك وقوع التناقض بين اللغة المنطوقة والصورة البصرية أمأمنا. فقد أخبرتنا بثينة أكثر من مرة أنها تعيش مع شقيقتها في فيلا كبيرة، لكن الحقيقة أن صورة الصالة التي شاهدناها لا تدل إلا على جزء مقتطع من شقة صغيرة خانقة جدا، وهو ما انعكس بالتبعية على أحد أبعاد الصراع الدرامي لأن الحالة الاقتصادية للشخصية لها دخل كبير في توجيه دفة الأحداث ومبرراتها وأهدافها. وقد حاول المخرج إضفاء دلالة سياسية تدعي الأهمية على العرض عندما علمنا أن خال الفتاتين الثري مقبل من أميركا وهو ما أعاد الحبيب الغائب لبثينة، لكن فجأة نعرف طبقا للعرض، ليس للنص الأصلي، أن الخال أو الحلم المقبل من أميركا مات، في تفنينة ساذجة لم ندرك مفهومها. أما أكثر مناطق العرض سذاجة وغرابة أيضا فهي استخدام صوت الممثلة حنان سليمان التي كان من المفترض أن تقوم ببطولة العرض قبل وفاء الحكيم في الفلاش باك لصوت بثينة. ونحن لا نعرف لماذا إصرار المخرج على صوت حنان المميز جدا ولا سبب إصراره على حبس العرض في حكى الماضي. والأكثر غرابة أن تسجيلات حنان سليمان لم تحمل صوتا مختلفا فقط، وإنما أيضا تناولا آخر تماما لشخصية بثينة فأصبحنا أمام «امرأتين» بالفعل بثينة الصوت وبثينة الصورة في دلالة مبتكرة لم تخطر على بال أحد.