أندريه صفير ـ زملر تخرج الفن الحديث من هامشيته في لبنان

فنون كزموبوليتية تهبط قرب المسلخ البيروتي في «الرحلة 405»

TT

كان لا بد لنا أن نتوه كثيراً، ونسأل قليلاً، قبل أن نهتدي إلى «غاليري صفير ـ زملر»، الذي افتتح حديثاً في قلب الحي الصناعي في بيروت، حيث تكثر الزواريب والوحول ويتصاعد الغبار والعفار. فهذه منطقة لا يرتادها الفنانون، ولا يأتيها السياح، وغالبية صالات العروض التشكيلية تختار راقي المناطق البيروتية لتتدلل في رخائها.

لكن هذه المغتربة المغامرة، العائدة بعد عشرين سنة قضتها مع فنانين عالميين في مركزها في هامبورغ، كان لها خيار آخر. ففي مبنى شيد أصلاً كمستودع للحديد، قررت أن تقيم صالتها الشاسعة، «لأن مواصفات هذا المكان تتناسب والمقاييس العالمية»، ثم «انه مكان محايد»، تضيف أندريه صفير: «مكان له طابع عربي ولبناني، ولا ينتمي لفئة من الناس. هذه المنطقة للجميع، وحي الكرنتينا الذي نحن فيه، اقيم في الأساس، لعزل المرضى وحماية الآخرين من عدواهم، ثم نسي الناس التاريخ وتعاملوا مع الحاضر كما هو».

الغاليري الجديد، الذي افتتح، فيما اللبنانيون يتوجسون خوفاً من المستقبل، هو مستقبلي بامتياز. والمعرض الحالي الذي يحمل اسم «الرحلة 405»، يكاد يكون عينة عن صيحات الفن الحديث، في كبريات عواصم العالم، بدءاً بنيويورك، وصولاً إلى طوكيو. والفنانون المشاركون، وهم كلهم من الشباب باستثناء الإيطالي ميكل انجلو بيستوليتو، اجتمعوا حول عنوان واحد هو «الهوية». وكل فنان في هذا المعرض المعولم، يبحث عن هويته على طريقته. الأب الروحي، وهو أكبرهم سناً واشهرهم، الإيطالي بيستوليتو، أتى بطاولة منخفضة الارتفاع، لأطرافها انحناءات خريطة البحر الأبيض المتوسط ومغطاة بمرآة، ومن حولها اصطفت مقاعد من أنواع مختلفة وضعت على سجاد وبسط. «انها الطاولة الحلم التي يفترض أن يجتمع حولها المتوسطيون»، تقول أندريه صفير. وهو عمل أنسب للبيع للمتاحف الكبرى منه إلى عرضه على الأفراد. انها القطعة الأغلى في المعرض على الأرجح، ويصل سعرها إلى 100 ألف يورو، لكن اللبناني أكرم الزعتري لا يقلّ ابتكارية عن زميله الإيطالي، فقد استفاد من أرشيف المؤرخ جبرائيل جبور مع المصور مانوغ، ولملم الصور الفوتوغرافية التي التقطها هذا الأخير في بادية الشام أواسط القرن الماضي، ليحولها إلى فيلم يتحرك. وهكذا ترى وكأنما دبّت الحياة في الصور البدوية من جديد. أحد اصحاب البنوك في لبنان أعجبته الفكرة، وقد اقتنى الفيلم الذي مدته 9 دقائق، وسعره 4 آلاف يورو، ليمتع زبائنه به اثناء انتظاراتهم القصيرة.

كيف تبتكر فكرتك الخاصة التي لا تشبه غيرها وتسحر بها الآخرين، هذا ما يسعى اليه الفنانون الجدد. والياباني هيرويوكي ماسوياما، استقل الطائرة من باريس إلى بيروت، والتقط من نافذته الصغيرة، صورة من الجو كل عشرين ثانية، وحين استخدم احدث التقنيات ليجعل صوره هذه مشهداً جوياً واحداً، حصل على لوحة فريدة وبديعة، نرى فيها التضاريس الطبيعية بين البلدين، على مدى عمل بالكاد يتسع له حائط. وقد استخدم هذا الياباني الشاب التقنية نفسها في تصوير الزهور والحدائق.

التكنولوجيا تفعل فعلتها في إغراء الفنانين بقدراتها على ترجمة مشاعرهم وأفكارهم، فالفنانة الفلسطينية أملي جاسر في مشروعها «رام الله ـ نيويورك»، وضعت شاشتين متجاورتين، في إحداهما نشاهد الحياة اليومية في مدينة فلسطينية، وفي الثانية مشاهد مشابهة، لكنها أميركية هذه المرة. اختارت هذه الفلسطينية المقيمة في مغتربها الأميركي، لقطات شديدة التشابه في المقهى وصالون الحلاقة والمكتب، حتى ان الأمر يختلط على المتفرج، فلا يدري هوية القابعين في الفيلمين، ولا مكانهم الجغرافي، انها طريقتها في التعبير عن عولمة تسكنها. ومن بين العرب الموهوبين المشاركين المصرية أمل قناوي، التي تفردت في جناح خاص نضح بحساسية انثوية متفجرة ومجروجة. فالشريط المصور والمشغول تكنولوجياً بمهارة عالية تحت عنوان «الغرفة»، تتداخل فيه اللقطات: هل نحن أمام شبكة عنكبوتية أم صندوق أم غرفة، ثم تنتبه إلى ان هذا كله، يتحول الآن سريراً أو زنزانة، تمتزج المشاهد وكأنها خدع بصرية. عنيفة هذه الفنانة الشفافة، والتضاد في عملها مربك. ففي واجهة زجاجية، وضعت ساقين نسائيتين، من شمع، وأوقفتهما على مخدة، وقد نبت فيهما الشعر بطريقة غريبة. وفي لوحة اخرى يصدمنا قلب بشري يكاد يخفق بين كفي عروس بالقفازات الدانتيل، انه قلب بالمعنى الفيزيائي الطبي، وليس قلب الشعراء والمتيمين. ما بين الإبر المغروسة في الجسد، وتلك السكين المشحوذة، وثوب العروس والسرير (وكلها مرسومة بسذاجة طفولية مؤثرة)، تحتج القناوي ببلاغة على الألم الأنثوي الطاغي في أعمالها.

وإذا كان الجنون فنون، فقد قرر الألماني ألغر أسر، أن يذهب بجنونه إلى أبعد مداه، ولوحاته الصفراء التي زنرت حائطين هي فارغة تماماً إلا من هامش في الأسفل، كتب فيه، أسماء مطاعم لبنانية. وإلى جانب هذه اللوحات المصطفة وكأنها بلا وظيفة تذكر، خريطة لبنان. وحين سألنا عن معنى هذا العمل، علمنا بأن ألغر أسر، جاء من جنوب افريقيا على الدراجة، وجاب لبنان طولاً وعرضاً، متنقلاً من مطعم إلى آخر متذوقاً أطايبه، مسجلاً اسماء هذه المطاعم، ليقدم لنا في النهاية خريطة لبنانية تخص المعدة وحدها، بأسلوبه الخاص. وبما ان الفنان الألماني لا يدل في لوحاته على الأشهى والألذ، ويكتفي بذكر الأسماء، فنحن معه ندخل فعلياً في حالة سريالية تجعلنا نسأل عن جدوى هذه الأساليب التعبيرية، التي لا تصل للمتفرج إلا بالشرح والسؤال والاستفسار. أندريه صفير تهز بكتفيها وتقول إن الشاب موهوب ومعروف، وله صيت كبير، ولا بد من الاعتراف ان بعض الأعمال الحديثة لا تفصح ببلاغة كافية عن ذاتها، واصحابها رغم الجهد الكبير الذي يقومون به لا يفكرون بالبيع أو تكاليف الإنجاز، إنما حسبهم انهم يعملون، ويقولون افكارهم على طريقتهم.

واللبناني وليد رعد الذي صور عمارات بيروت بعد الحرب، وعرف كيف يختار بينها تلك التي تتحلى بخصوصيات محلية، وقصّها وعالجها باللون، خرج عن التقليدية بفكرة بسيطة لا تخطر على بال الكثيرين. هذا الفنان له اليوم صيت عالمي، رغم ان كلاً منا يعتقد، حين يرى اعماله، انه وليد رعد وربما أهم.

أندريه صفير الآتية بزخم كبير، واحتراف مهني في سوق الفن، لتفتتح فرعاً لبنانياً لصالتها الألمانية، تريد ان تبني جسوراً بين الغرب ولبنان، وتود أن تروج للفنانين اللبنانيين الموهوبين الذين يستحقون دخول العالمية من أوسع أبوابها. الأمور لن تقف عند معرض أو اثنين، كما تخبرنا. فالعمل انطلق، وكبار الفنانين العالميين الحداثيين بات لهم موطئ قدم في بيروت، وسيستضافون من خلال اعمالهم، ومحاضرات وحوارات يشاركون فيها، وعروض ولقاءات.

انها محطة مفصلية، وأندريه تعلم ذلك، فالفن الحديث القائم على التجهيز والفيديو والمستفيد من عفاريت التكنولوجيا، لا يزال مهمشاً في لبنان، وأبطاله أو رواده لا يؤخذون بعين الجد. وما تفعله هذه المغتربة المغامرة سيجعل لهم مركزاً ومنطلقاً، يسهل فيه تحويل الأحلام إلى واقع.