مصالح الدول المتقدمة.. هل تسمح بحوار بين الحضارات؟

TT

لا شك في أن فهم كل من الغربيين والعرب للطرف الآخر تحكمه منذ مئات السنين، إلى اليوم، مجموعة من الكليشيهات أو الأفكار المبتذلة التي عفّى عليها الزمن، والتي بات من المصلحة الآن تعديلها وإحلال المفاهيم السليمة مكانها، وفي ظني أنه ما دام ثمة توازن في القوى بين شعبين أو حضارتين يدفع كلا منهما إلى الاعتراف بقوة الآخر وإلى أخذه بعين الاعتبار والاهتمام، فإن الكليشيهات هنا إن نشأت فهي في العادة تنم عن الاحترام والتقدير، حتى مع الاعتراف باختلاف الطرف الآخر، سواء في القيم أو الدين أو أسلوب العيش. فهنا نجد الإقرار بالجوانب الإيجابية ومزايا أساليب الحياة لدى الآخرين، ونواحي القوة في معتقداتهم وقيمهم. من أمثلة ذلك إشادة كتب الأوروبيين في العصر الوسيط بحضارة المسلمين في الأندلس، ومدحهم صلاح الدين الأيوبي أو الظاهر بيبرس، وإعجاب المؤرخين المسلمين في نفس العصر بشخصية فريدريك الثان، إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة، وببلاطه في صقلية.

كل هذا يتغير متى اختل هذا التوازن في القوى، وأصبح ثمة طرف أقوى بكثير من الطرف الآخر، سواء من الناحية العسكرية أو الحضارية أو الاقتصادية. فهنا يصبح الطرف الثاني موضوع احتقار الأول، أو استهانته، وتضحي نظرة الأول إليه ليست فقط باعتباره «مختلفا»، ولكن أيضا باعتباره متخلفا، ولا مستقبل أمامه إلا إن هو تعلم من الأول وتبنى مفاهيمه وأسلوب عيشه ومظاهر حضارته. وهنا تنشأ لدى الطرف القوي حاجة إلى الحفاظ على ذلك الوضع من اختلال التوازن، لا بالوسائل العسكرية فحسب (فهي وسائل مكلفة، سواء بشريا أو ماديا)، وإنما أيضا عن طريق النشر المتعمد لمجموعة من الأفكار والكليشيهات الخاصة بأوجه الاختلاف بين الطرفين، وتصويرها على أنها ثابتة لا تتغير، وذلك من أجل إثبات حقه في استمرار هيمنته، وغرس الشك لدى الآخر، في ذاته وفي قدرته على التصدي بنجاح لمقاومة الطرف الأول، الذي ينتمي إلى جنس أرقى وحضارة أعلى.

حينئذ يهم الطرف الأقوى أن تشيع لدى الكافة، هنا وهناك، فكرة أنه الطرف المتحضر، وأن عليه عبء نشر الحضارة في الأقطار الهمجية المتأخرة، ومسؤولية إلحاق هذه الأقطار بركب الحضارة والمدنية، ولو في ذيل الركب. وربما كان من الأهداف الرئيسية لإنتاج مسلسلات تلفزيونية أميركية معينة، مثل «الجريء والجميلة» وغيره، وعرضها في دول العالم الثالث، إطلاع شعوب العالم الثالث على ما تتمتع به الشعوب المتحضرة من رخاء ونعيم عيش. وهو ما لن يحققه العالم الثالث ولو بعد ألف عام، «ما لم تبدأ شعوبه من الآن بإبداء الرغبة والاستعداد لاقتفاء أثرنا، وإطاعتنا طاعة كاملة». فعن طريق الأفلام والمسلسلات التلفزيونية وما شابهها يمكن إبلاغ هذه الرسالة بصورة غير مباشرة، ولكنها أكثر فاعلية، بالنظر إلى أنها تتسلل إلى العقل الباطن من دون أن تلقى مقاومة أو اعتراضا.

ولا يكتفي الغرب بإبراز الجوانب «الإيجابية» من حضارته هو، وإنما يعنى أيضا بإبراز الجوانب «السلبية» في المجتمعات التي يهيمن عليها، وذلك من أجل استئصال أي إحساس بالذنب أو تأنيب الضمير قد يشعر به المهيمنون من جراء استغلالهم أو استعمارهم لأقطار أخرى. فهو يصور شعوب تلك الأقطار على أنها في حاجة دائمة إلى مساعدة الغرب وتوجيهاته، بالنظر إلى عجزها عن مساعدة نفسها، ويحاول أن يخلق لدى تلك الشعوب استعدادا لقبول كل ما يقرر الغرب أنه مفيد لها وله. وعلى سبيل المثال، صحيح أنه لا يزال في العالم العربي حمير وجمال، ونخيل ورمال، وخيام وبدو، غير أن هناك اليوم أشياء أخرى كثيرة غير هذا. ولذا فإن الشركات السينمائية تكثر من إنتاج الأفلام التاريخية، أو المستقاة من قصص الكتاب المقدس، حتى ترسخ في أذهان المشاهدين هذه الصورة القديمة عن الشرق الأوسط، فإن تناولت الأفلام موضوعات حديثة، فهي عادة أفلام بوليسية أو أفلام مغامرات تظهر أهل المنطقة - عدا الإسرائيليين بطبيعة الحال ـ بنفس الصورة البدائية تقريبا. ولا يلاحظ المتفرجون عندنا إلا نادرا، أن هذه الأفلام تقدم عامدة خدمة كبيرة لمصالح ذوي النفوذ في الغرب، بخلقها مفاهيم وكليشيهات عن مدى تخلف أهالي الأقطار الأخرى.

.. وللحديث صلة.