الخرطوم «عاصمة الثقافة العربية 2005» تبتلعها السياسة

أصوات جديدة تنادي: أن نكون رأس أفريقيا أفضل من أن نبقى ذيلا عربيا

TT

بأمّية تفوق نسبتها 60%، وأمّية ثقافية تعلوها، تحتفل الخرطوم هذا العام بكونها «عاصمة الثقافة العربية». وبكتاب مدرسي لكل خمسة طلاب، وبمجلات تظهر لأسابيع وتنقطع لسنوات، وبمعارض كتاب موسمية تمتد اليد إليها لتتصفح وتمسك عن الشراء لغلائها، وبمسارح متهالكة تخشرج كل موسم بمسرحية أو اثنتين تفتقد الحضور والنص الجديد والفكرة العصرية. وسط كل هذا، أعلنت «الخرطوم عاصمة للثقافة العربية»، رغم أنها ظلت تشتكي لسنوات تجاهل العرب ومثقفيهم الذين لا يعرفون منها إلا الطيب صالح والراحل سيد خليفة، لتتصاعد أصوات أخيراً، تنادي بـ«الأفرقة»، وأن نكون رأس افريقيا أفضل من أن نبقى ذيلاً عربياً!..

ومنذ منتصف العام الماضي والخرطوم تعد لهذا المهرجان، وترمم المسارح بسرعة كما الشوارع، وتضيء القاعات والجسور، وتصدر النشرات التعريفية، وتسرع في طبع كتب ودوريات ظلت لسنوات على الأرفف تعاني البيروقراطية أو الكيد السياسي، هواجس تكلفة النشر والتوزيع والعرض، ونتساءل أخيرا عن جدواها في عاصمة باتت تبحث عمن يقرأ.

السياسة أولا وأخيرا!

معظم الكتب التي نشرت حديثا في السودان، هي عن السياسة المحلية في كل جوانبها، فهي باتت عشق السودانيين أو أن الحياة تبعث عليهم كل حين بجديد. صارت الأذهان مرتبطة بصورة تلقائية بالسياسة ورموزها، وتدور في افلاك أحزاب ثلاثة كبيرة، منذ خروج المستعمر وحتى الآن بنفس قادتها وبرامجها وديدنها في التشبث بالسلطة، أينما كانت، وكيفما جاءت.

وجاء الاحتفال بالعاصمة الثقافية متزامنا مع اتفاقية السلام في أول العام، لإنهاء أطول حرب أهلية في أفريقيا. والسودانيون رغم ما هو معروف عنهم من لطف وكرم وأريحية صدر، إلا أن الأزمات السياسية في بلادهم هي الأغزر والأكثف عربياً، ويظهر مثقفوها في الفضائيات الإخبارية وهم يتبادلون الاتهامات ويكيلون لبعضهم بعضا، لكن بطريقة أخوية طيبة ـ كما يحلو الوصف ـ فلا قسوة تمنع ولا لين يقبل بمشاركة الطرف الآخر، لتدور كل البلاد في حلقات متداخلة أشبه بالمتاهة.

ومنذ بداية العام، بدأت الفضائية السودانية ببث برامج ثابتة لنقل الفعاليات بافتتاح ضخم وكبير وحضور عربي ضعيف، ثم إجراء اللقاءات مع الضيوف والمثقفين المحليين الذين يروحون ويجيئون في فلك السياسة الذي قالت أبراجه للسودانيين أن لا مناص.

أن تقرأ صحيفة سودانية واحدة، يعني أنك قرأت بقية الصحف، فمن صفحتها الأولى الى الأخيرة في السياسة المحلية، وحوارات تجتر الأسئلة مع محللين ومفكرين وغيرهم كوجوه ثابتة تمر كل حين على صحيفة، والصحف الرياضية تصل الى عشر صحف يومية، تدور هذه المرة في فلك كرة القدم، الرياضة الأولى بالبلاد رغم كؤوس الهزائم، ولم يتم البحث عن نشاط رياضي آخر ربما يحالفنا الحظ فيه.. وصحف التسالي والكلمات المتقاطعة والإثارة الرخيصة، هي الأكثر جمهورا.

جاءت الاحتفالات، وبدأت تقول إن الثقافة ليست كتابا ولا قصة ولا رواية أو مسرحية، بل هي حياة كاملة لشعب. وبدأت الفرق الموسيقية والغنائية والشعبية والمسرحية تؤدي بعض الأدوار في الحدائق وميادين الكرة، وكانت لا ترى إلا على التلفزيون أو عند زيارة رئيس دولة. وبدأت الفضائية بعرض أفلام سودانية قديمة، كفيلم «تاجوج»، الذي جاء بإنتاج كويتي في نهاية السبعينات، وكان يمكن أن يمثل انطلاقة جيدة للسينما، إلا أن عملية العرض سرعان ما توقفت. فالأفلام قليلة للغاية، وقد توقف الإنتاج السينمائي العام والخاص، منذ سنوات طويلة، والأفلام الهندية تملأ دور العرض القليلة جدا المنتشرة في العاصمة. ونسمع عن أفلام تسجيلية سودانية تفوز بجوائز مختلفة بالخارج، ويحتفى بها في المهرجانات الدولية كفيلم «حبل» في الثمانينات، وفيلم «الشلك حضارة النيل»، قبل أيام في مهرجان الجزيرة. إلا أن المواطن لا يرى معظمها، فبعد فوزها تركن على الأرفف وتنسى مع الزمن والتسويف والبيروقراطية المزمنة. أما المسلسلات التلفزيونية، فلا تخرج إلا في رمضان، وتقف متوارية خجلا أمام أخواتها العربيات، مفتقدة تقنيات العمل التلفزيوني الحديثة.. وأسواق الكاسيت هي الساحة الوحيدة النشطة، كمّاً لا كيفاً، إذا جاز التعبير. فكل يوم يظهر ألبوم لفنان جديد، يجتر في الغالب أغنيات قديمة غنيت منذ نصف قرن أو مقلدا لفنان كبير، مرددا أغنياته في ما يعرف بـ«الريمكس». وعملية التقليد للفنانين الكبار منتشرة بكثرة، بما لا تعرفه بلاد أخرى، مما يعكس الخوف من رفض الجمهور لأي جديد. كما أن التسويف والتأجيل، والعبارة الشائعة «الله يحيينا!» عند الشروع والتخطيط لأي عمل مستقبلي، تلعب دورها هنا أيضا.

دراويش لا يملكون سوى الدعاء

تحتفل الخرطوم وتستقبل كل حين وفوداً من دول عربية، يطاف بهم على ما يسمى «رموز الثقافة السودانية»، كمتاحف لأبطال عاصروا الفرعونية (معظم السودانيين لم يزوروها ولا يهتمون بالتعرف عليها إلا في رحلات مدرسية!)، ويسمعون عن أسماء قديمة تتفاخر بها المجالس ويغنيها المطربون الكبار في أناشيد حماسية، لكن ماذا فعل أولئك الملوك؟ ومتى عاشوا؟! القليل مَن يهتم بمثل تلك المعلومات.

وترتفع الدفوف والطبول و«الطارات»، مرددة مدائح عن الرسول الكريم في ساحة المولد الكبيرة بأمدرمان، محتفلة بمولد خاتم الأنبياء، تظهر اتساع الصوفية في البلاد والأضرحة العديدة، والدراويش يدورون ويدورون مرتدين الثياب الخضراء المرقعة، وينسب لهم الدور الكبير في طرد الحكم التركي من السودان، أما الآن فلا يملكون إلا الدعاء. أما المنتديات والمنابر الشعرية والأدبية والغنائية، فتقدم في مراكز ثقافية معدودة منتشرة بالعاصمة، لكن بصورة غير منتظمة. وكثيرا ما تسمع بمهرجان التشكيليين الأول أو مهرجان الشعر الأول أو الموسيقى الأول، إلا أن لا ثاني يعقبه! أما المعارض التشكيلية، فتقام على فترات غير منتظمة، وترعاها في الغالب المراكز الثقافية الأجنبية، التي توفر صالات عرض واسعة ومنظمة ومجانية للفنانين الناشئين أو الخريجين الجدد من كليات الفنون المختلفة.

وتحتفل الخرطوم بكونها عاصمة الثقافة، وتدعو أبناءها من المهاجرين الذين برع معظمهم في الخارج لزيارتها، ولو كانوا في البلاد لانخرطوا في السياسة. وبالأمس جاء الطيب صالح بعد ثمانية عشر عاما من الغياب، لكنه ظل يكتب وينشر من لندن، حيث تزوج ويقيم ويراقب من البُعد، السودانيين وهم يتشاكسون ليل نهار في منابر السياسة، ويقول لهم: «مساكين يا مَن أضعتم فرصكم في الحياة وغصتم في وحل السياسة ولم ترتفع رؤوسكم لتنظروا الى النجوم».. ومن الذين نجحوا وبرزوا في الخارج الفنان التشكيلي راشد دياب، بإسبانيا، وحسن موسى، وعبد الله بولا، بباريس، والمخرج السينمائي بمصر، سعيد حامد، والكاريكاتير الشهير بمجلة «العربي» الكويتية حاكم رحمة الله، والكاتب إبراهيم الشوش، الذي رأس تحرير مجلة «الدوحة» القطرية، وغيرهم.

تحتفل الخرطوم بمهرجان الثقافة العربية، وليست فيها مجلة ولا دورية منتظمة الظهور، معظمها يختفي بعد أعداد قليلة، ثم يعاود الظهور بمسمى آخر وشكل جديد. فالمجلة الوحيدة الثابتة، التي عمرها لا يزيد على عامين، هي مجلة «الخرطوم»، وتصدر كل أربعة اشهر! أما المجلات الخاصة بالأطفال، فقد برزت مجلة «الصبيان» الشهرية، التي انقطع صدورها منذ فترة، رغم أنها كانت تفخر بأنها أول مجلة عربية تصدر للأطفال، وظلت ثابتة في صورتها وهيئتها، برسوم تقليدية، رغم انها تقدم لأطفال يلعبون الـ«بلاي ستيشن»، واختفت من دون أن يفتقدها أحد. ومجلات أطفال أخرى غربت قبل أن تكمل العام كمجلة «مريود» و«هدهد» و«فنجاط». والآن مجلات الأطفال العربية تملأ المكتبات بأسعار مرتفعة، ليخرج جيل جديد لم يقرأ إلا الكتب المدرسية.

دارفور الاكتشاف التلفزيوني الجديد

أما عن دور النشر فلا توجد إحصائيات أو دراسات عن عمليات التوزيع من دور النشر أو (البيست سيلر)، ولا نقاد محترفون يتبنون مواهب صاعدة جديدة أو يرفعون الغث عن السمين، إلا أن بعض نسائم التحفيز للأجيال الجديدة هبت، حين تم أخيرا تخصيص جوائز سنوية للإبداع في بعض الأنشطة كجائزة الشهيد الزبير السنوية للإبداع العلمي، التي تضم داخلها الإبداع الأدبي.

تحتفل الخرطوم وأزمة دارفور متصاعدة على كل المنابر الدولية، والفضائية السودانية تبعث بمعظم طاقمها الى دارفور، لينقلوا لنا من ذلك المكان حياة أهله وثقافته، وينفضون الغبار عن أشرطة قديمة، لينفضوا عن الخرطوم تهمة الإهمال الثقافي والسياسي التي اشتكى منها سكان تلك المنطقة، ظانين أنهم الوحيدون ممن وقع عليهم الظلم، ولا يعلمون أن المواطن لا يعرف من بلده إلا حيث يسكن، ومعلومات قليلة يستقيها من برامج تسجيلية بتمويل أجنبي أو أجنبية الصنع، فالكاميرات القليلة مشغولة بنقل المنابر السياسية.

ووسط الأزمات السياسية والصعود والهبوط للآمال، بات الكل ينتظر مفتاح الفرج المتمثل في البترول، وخرجت أعمال درامية ومسرحية عديدة في العقدين الماضيين تستعجله بوصفه أنه أساس الحضارة، ويحدث النقلة السهلة السريعة للمجتمع، غافلين أن البترول تأتي معه أسماك القرش لتسبح في بحيراته، فها هي تنتشر تحت مختلف المسميات غربا وجنوبا.

تحتفل الخرطوم وحلم معظم الشباب بعد التخرج الاغتراب بدولة بترولية أو الفوز باللوتري الأميركي، والعيش في الخارج والعمل بأي وظيفة، ليقف في خانة المتفرجين عن بُعد، ويكون التواصل مع البلاد عبر منتديات الانترنت السودانية الكثيرة، التي يلتقي عبرها سودانيون يعيشون بهاواي وجزر القمر والفلبين وصحراء تشيلي.

تحتفل الخرطوم والتعريب قد حلّ على المقررات الجامعية منذ سنوات في حملة كبيرة بكتب من دول عربية تسلك ذات النهج، وباتت الإنجليزية تدرس في السنوات الدراسية الأولى للأطفال، إلا أن الخريج الجامعي لا يستطيع أن يكتب جملة إنجليزية واحدة من دون أخطاء، بينما ترتفع كل يوم يافطة لمطعم جديد عصري أو كافتيريا أو محل تجاري بأسماء أجنبية كبيرة، أسوة بالعادة العربية المعروفة في الأخذ بقشور الثقافات الأخرى وترك اللب المفيد.

والآن وبعد مضي حوالي أربعة أشهر من العام الثقافي للخرطوم، وبتحريك البركة الساكنة ورؤية الوضع العام في مرآة الآخر، ربما يكون حافزا لأن يتم تدارك كل الأخطاء الماضية وترميم آثار وهياكل المناحي الثقافية عامة، ونفخ الروح في الصور المهملة.. لكن.. بعيدا عن السياسة!