أواخر السبعينات منعت أفلام «الكاوبوي» لصالح «الكاراتيه»

السينما في سورية: فن لعنته أنه يقترب من الخطوط الحمراء.. ويتجاوزها

TT

غياب الجمهور السينمائي، إضافة إلى أزمات أخرى لها علاقة بالرقابة والتمويل وكسل المؤسسات والوزارات المعنية.... هي مواضع نقاش دائم في الندوات وحلقات البحث السينمائية والمقالات الصحافية، في سوريا.

بدأ التدهور مع قانون حصر الاستيراد في المؤسسة العامة للسينما، في حين كان القطاع الخاص حتى نهاية الستينات، يستورد أكثر من 200 فيلم في العام الواحد ويسوقها، انحسر العدد بعد صدور القانون إلى الثلاثين ثم إلى خمسة أفلام سنوياً. وبما أن مؤسسة السينما كغيرها من مؤسسات الدولة، تحولت إلى كتلة بيروقراطية كسول في استثمار احتكارها لتوريد الأفلام. كانت بالتالي سببا في تراجع الحركة السينمائية، وتردي وضع صالات العرض، التي هدم بعضها وهدد الآخر بالإغلاق، مما جعل السينما تجارة خاسرة لأي مستثمر. إضافة إلى الميزانية الضحلة المخصصة لمؤسسة السينما، وبدلا من إحضار الأفلام الحديثة أو إنتاج الأفلام، يتم اليوم تمويل مهرجانات لا ملامح لها أو طابع يميزها مثل مهرجان المحبة وغيره.. (سياحة، رياضة، مسرح، سينما، رقص شعبي، غناء..).

ويتفق الجميع على أن أزمة التمويل هي الأساس، متجاهلين السبب الحقيقي، وهو قرارات سياسية غير مكتوبة، فالسينما في نظرهم فن يقترب من الخطوط الحمراء ويتجاوزها أحيانا، فلا يمنعونه ولا يسمحون به بالمقابل، بل يختارون البدائل الأفضل بالنسبة لهم، مما كان له تأثيره أيضا على النادي السينمائي في دمشق، الذي لعب دورا هاما في التأسيس لثقافة سينمائية منذ أوائل الخمسينات، وتعطل نشاطه لأسباب عديدة. ويحاول المنتدى الاجتماعي اليوم عرض بعض الأفلام حسب توفرها. إلا أن الدور الأهم يتمثل في نشاط المراكز الثقافية، وبرنامجها المتضمن دائما أفلاما قديمة وحديثة، لدرجة تعاون مؤسسة السينما معها. وهكذا، بدلا من الاكتفاء بالأفلام التابعة لدولة المراكز يضاف إليها أفلام أخرى، وربما يعود هذا للانفتاح الثقافي أخيرا؟ والالتفات لضرورة معرفة الوجوه الأخرى للحياة.

وفي الحصيلة فإن التقاليد القديمة التي ارتبطت بالعروض السينمائية، وأخذ بعضها طابعاً طقسياً، اختفت جميعها وتكاد تندثر. وأسباب ذلك كما سردها الناقد بندر عبد الحميد عديدة.

فقد كان الناس يدخلون الصالة بألبسة السباحة في المدن الساحلية، ويدفع بعضهم سمكة ثمنا للبطاقة. وفي دمشق كانت تعتمد الأساليب الدعائية المباشرة، كإجراء قرعة على أرقام البطاقات وفوز الرابح بالجوائز، وتكليف مجموعة من الأطفال برفع لوحات إعلانية تحمل اسم الفيلم والصالة، يجوبون الشوارع ويهتفون باسم الفيلم وأبطاله. بعض الصالات كانت تسمح بدخول الزوجين ببطاقة واحدة، كما يدخل الصالة مجانا من كان له نفس اسم بطل الفيلم، وتقدم صالات أخرى روائع الأفلام في منتصف الليل كل يوم من أيام شهر رمضان، كما تجول فرقة موسيقية الشوارع وهي تعزف للترويج لبدء عروض أحد الأفلام المهمة ...».

عرض متواصل

منذ أواخر سبعينات القرن الماضي، شددت الرقابة من قبضتها، واعتمد الأمر على أمزجة الموظفين القيمين وخلفياتهم الثقافية والسياسية والدينية... ومدى تعلقهم بذهنية المؤامرة ونظريات الغزو الثقافي، والخوف من خدش الحياء أو الفضيلة... ومع انحسار استيراد الأفلام، وتدني مستوى الصالات وعددها، ازدادت الرقابة وبدأت بإتلاف مشاهد ولقطات من الأفلام العالمية الكلاسيكية. ومنعت لفترة أفلام الكابوي الأميركية والإيطالية، والأفلام الهندية واستبدلت بأفلام الكاراتيه...

ومن أهم الظواهر الناتجة عن غياب الأفلام الجديدة هي لجوء بعض الصالات الشعبية إلى أسلوب «العرض المتواصل» وهو عبارة عن توليفة تجمع مقاطع من فيلم بوليسي، يليها مشهد من فيلم هندي وأغنية، ثم فيلم مصري قديم.. للتسلية والإثارة على حد تعبيرهم. اللافت هو استمرار هذه الظاهرة حتى اليوم، ورغم فرادتها إلا أنها غير صحية وتدل على مدى الانحدار الذي وصلنا إليه.

لكن مع تغير إدارة المؤسسة العامة للسينما وإلغاء قانون حصر الاستيراد، شرط دفع ضريبة محددة، بدأت الأمور تتحسن ببطء في البداية، وبوتيرة أسرع في الآونة الأخيرة، رغم ذلك ظل القطاع الخاص متخوفا سواء من تحديث صالات العرض رغم صدور قوانين تعفيهم من الرسوم الجمركية، كذلك من إحضار الأفلام الحديثة، فأحد لا يضمن عودة الجمهور، خصوصا مع تسرب أحدث الأفلام على CD أو شريط فيديو، ودون وجود قانون يحمي الفيلم، أو بالأحرى بسبب إيقاف تنفيذ القانون رغم صدوره.

كل ذلك جعل المؤسسة العامة للسينما الملاذ الوحيد، إضافة إلى المراكز الثقافية، لتنشيط الحركة السينمائية، من خلال تظاهرات سينمائية متنوعة (السينما الأوروبية، الأفلام المصرية، تظاهرة الأفلام التركية، الإيطالية...) بدأت خجلى عام 2003 وازدادت كما ونوعا في العامين الأخيرين لنرى على مدار العام الماضي حوالي 12 تظاهرة، و6 تظاهرات هذا العام تسبق مهرجان السينما، فلا نشعر بالقطيعة حتى موعد المهرجان. ساعد على ذلك توافر صالتي عرض جديدتين في «دار الأسد» للثقافة والفنون.

جهود فردية

تظاهرات مجانية تعود بالخسارة المادية على المؤسسة، وبالربح المعنوي من خلال حشود الجمهور المتدافع، وحضوره الدائم قبل بدء العرض بساعات أحيانا، لحجز كرسي في الصالة. مما دفع بعض رؤوس الأموال في حلب ودمشق إلى إحضار بعض الأفلام الحديثة. إلا أن النشاط الأساسي مرتبط بالمؤسسة، وعلى الأخص بنشاط إدارتها، وعلاقاتها الشخصية بالأوساط السينمائية في الخارج، والموزعين اللبنانيين. بالتالي ارتبط هذا النشاط والحراك السينمائي، بجهد فردي إلى حد كبير، بحاجة إلى دعم وتنظيم من مؤسسات أعلى إن وجدت النية في الاستمرار وعدم العودة إلى الوراء، وتخييب أمل الجمهور من جديد.

«أحدث أفلام الموسم» عبارة لم تزل مكتوبة على لوحات الإعلانات في الصالات الشعبية. وهي عبارة مثيرة للضحك لأنها بقيت صامدة في مكانها منذ الستينات والسبعينات رغم تغير الحال وانقلابات الظروف. ويبقى الرهان: هل سيتم استبدال الصورة بأخرى أحدث تتوافق مع ما كتب، وينتشر الفيلم الحديث في جميع الصالات؟ أم ستحذف العبارة مع الوقت ويبقى الحال كما هو عليه؟