مشروع الأزهر بمثابة انقلاب على التقليدية

5 ملايين دولار أخرجت 42 ألف مخطوطة تراثية إلى العالم عبر الإنترنت

TT

الهدف من خزائن المخطوطات في العالم أجمع حفظ التراث، وإتاحته للباحث الجادّ الذي يسعى إلى تحقيق المخطوط ونشره.. هذا ما هو قائم في العالم، باستثناء معظم البلدان العربية! وعلى الباحث الذي يتعامل مع خزائن المخطوطات العربية، بعد أن يذوق المرّ، أن يَتمثّل بقول أبي تمام:

يَحتاجُ مَن يَرتجي نَوالكُمُ

كنوز قارون أن تكون له

إلى ثلاثٍ من غير تكذيب

وعُمْر نوح وصبر أيوب

فيا مُصبِّر القلوب.. ومَن يَسلَم مِن أكذوبة: الميكروفيلم متعطل، وكذلك آلات التصوير.. فلن يَسلَم مِن السرقة والمبالغة في قيمة التصوير!! وأقبح من ذلك المساومة التعجيزية التي تنتهجها بعض خزائن المخطوطات (مثل: المكتبة الظاهرية)، التي تطلب من الباحث أن يزوّدها بأكثر من عنوان من المخطوطات التي يمتلكها; لتختار ما يناسبها وتزوّده بنسخة من المخطوط الذي يريد عن طريق التبادل، شرط أن يتّفقا في الحجم والأهمية. وأقبح من هذا أن تكون المكتبة في المدينة التي أنت فيها، ولا تردّ على مراسلاتك ـ إنْ رَدَّتْ ـ إلا بعد أشهر طوال!

والسبب في كل هذا أنّ أمناء تلك الخزائن تحكمهم فلسفة العجائز التي تقضي بـ (وضع كل شيء في الصندوق)، ويَصدق على هؤلاء الأمناء ما صَدق من قبل على ابن الأغلب على لسان محمد بن مسلمة:

لو أنّ قَصْرَكَ يا ابن أغلب كلّه

وأتاكَ يوسفُ يستعيرك إبرة

إبرٌ يَضيقُ بهنّ رَحْب المنـزل

ليخيط قُدَّ قميصه لم تفعل

وإذا نظرنا إلى الدول الغربية وجدنا الوجه المُشْرِق في حسن التعامل مع الباحث وخدمته; لإدراكهم قيمة المخطوط، وأهمية تحقيقه، وأنه يجب ألاّ يظل مخطوطاً.. ولأن لأمناء تلك المكتبات (جامعات بحقّ) تخرّجهم، وقد سقتهم روح العلم، وضرورة خدمة الباحث والكتاب، وأن المخطوط ليس ملكاً للعجائز تبخل به إن شاءت أو تجود.

ومؤخراً تمّ تدشين موقع الأزهر الشريف على الشبكة العالمية للمعلومات (الإنترنت)، بكلفة بلغتْ خمسة ملايين دولار (5.000.000). وقد رعى المشروع وتحمّل جميع تكاليفه الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ـ ولي عهد دبي، ووزير دفاع دولة الإمارات العربية المتحدة ـ واستغرق العمل الذي بدأ سنة 2000م خمس سنوات.. ومما يضمّه الموقع: باب الفتاوى للإجابة عن الاستفسارات الدينية عبر البريد الإلكتروني، ومجلات الأزهر، ومائة وخمسة وعشرون ألف كتاب مطبوع (125.000) من أمّهات الكتب في مكتبة الأزهر الشريف، وأهم ما في الموقع ـ وهو قوام مشروع الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم لحفظ تراث مكتبة الأزهر الشريف ـ أكثر من اثنين وأربعين ألف مخطوطة (42.000).

وبهذه المناسبة نتقدم بتحية إعجاب وإكبار للشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، لهذا المشروع العلمي الجبّار، الذي يُعدّ بداية لقلب واقع الخزانة العربية رأساً على عَقِب، وحفظ كنوز التراث العربي الخالد، وإتاحته لكل باحث. وللباحث ـ كائناً من كان ـ أن يدخل الموقع www.alazharonline.org ويُحمِّل ما يشاء من النسخ الخطية في مختلف أبواب المعرفة، دون تحكّم العجائز، ولا تكلفة مادية أيضاً.. وأسوق ها هنا لتسلية القارئ ومتعته، مقطعاً من نصّ مقامة بعنوان «السِّرّ المصون في مغازلة العيون» لمحمد الوهبي التميمي، كتبها مؤلفها سنة 1286هـ، وتحمل الرقم 312963 في موقع مخطوطات الأزهر الشريف، ولم يسبق طبعها على حدّ علمي، ولم أستغرق في تحميل المخطوطة أكثر من ثلاث دقائق، وساعة لنسخها، وهي ـ كما ذكرت ـ للمتعة والتسلية وحسب.

جزء من مقامة «السر المصون في مغازلة العيون» للتميمي

نشأتُ أعرف العيون: هي المقل التي تنظر الخبز والماء، والأرض والسماء، والبعيد والقريب، والعدوّ والحبيب، إلى يومٍ انكشف غيمُه وصَحا، وحُشرت فيه الناس ضُحى، وكان ذلك يوم (الزَّحْفَة)، وقد برزتْ كلُّ فَرِحَة وحزينة، وبزغتْ من منازلها الكواكب، للفُرْجَة على المواكب.

فبينما أخوضُ غمرات القَتَام، وأسبحُ في تَيّار الزحام، إذ لمحتُ غادة ذات نقاب، كأنها الشمس تحت السحاب، تختلسُ ببهجتها النفوس، وتزدهي ازدهاء الطاووس، وهي تُسِرُّ لحظاتِ التفرُّس، ولمحاتِ التحسُّسِ، فكاد البصر يَنهبُها، والنظر يَشربُها.. ولَمّا أحسّتْ بانتباهي، ورأتني غير مُتلاهٍ، وجّهتْ نحوي فلتات العيون ولفتات الجفون، حتى تلاقينا باللحظَيْن وأسرّت العينُ للعين، فَرُحْتُ وأنا سكران من خمرة الأجفان، وقلتُ: «إنْ هَذَا إلاّ سِحْرٌ مُّبِينٌ» وفتنة للعالمين! وتطلَّبتُ حَلَّ مُبهَمِ هذا الرمز، وفَكّ طُلسم ذاك الكنـز، وفَزِعْتُ إلى ذاتِ خِدْرٍ كنتُ ألوذُ بها لقربها، وأعوذُ بها لأدبها، كاملة حسناً وعقلاً، بارعة خبراً ونقلاً، تشتملُ بالتذكير على وصف ملّة إبراهيم عليه السلام، وبالتأنيث على شطر كنية إمام الإسلام.

فبعد قضاء سُنن التحية وفَرض السلام، تماسكنا بأهداب المقال وأردان الكلام، وخضنا في حديث المال والولد، والعين والحسد..

فقلتُ: أللعيون فنون؟

قالتْ: نعم، كما للجنون.

قلتُ: بالله أستعين من شرّ العين.

قالتْ: أيّ العيون تعني؟

قلتُ: كل عين تُضيء.

قالتْ: قصدت العين البيضاء، الزرقاء، الضيّقة، الجاحظة؟

قلتُ: أردتُ العينَ السوداء النجلاء الواسعة اللاحظة.

قالتْ: أبنْ لي الإضمار; فوراء قَدْحك نار.

قلتُ: أعندكِ للضيف إكرام؟

قالتْ: نعم، سوى الحَرام.

قلتُ: لا أطلبُ غير الاستفادة.

قالتْ: أتستفيدُ مِن غادة؟

قلتُ: العلم في الصدور لا في السطور.

قالتْ: لا تخرج عن الدستور.

قلتُ: والعافون عن الناس.

قالتْ: إذن، لا باس.

قلتُ: أتيتكِ سائلاً; والسائل لا يُنْهَر.

قالتْ: ليس كل سائل مُطهَّر!

قلتُ: ما هذه المواربة في المقال؟

قالتْ: الجواب على قدر السؤال.

قلتُ: بعِزّة الجمال وسرّ العيون، وعصر الشباب وعهد الشجون، ما الذي تقوله العينُ للعين، إذا اتحدَ مركزُ اللحظَيْن؟

قالتْ ـ وقد ثَنتها أهواء الطرب، وحرّكتها نشوة الأدب ـ: سألتني عن النبأ العظيم والسِّرّ الكريم، فهل تُصان لديك الوديعة؟

قلتُ: نعم، وتُحفظ عندي الصنيعة.

قالتْ: سأنبئكَ بتأويل ما أوحتهُ إلينا الألحاظ، لا ما رَوَتهُ لنا الحُفّاظ.. فاعلم أن النفوسَ كامنة بها أهواء غريزية ساكنة بزواجر التكليف الديني والعقلي، وهو السِّرّ اللطيف الذي أتى لصيانته التكليف; فحرّم المدام، وأنكر على السماع حتى لا يُبتذل فتَمجّه الطباع; إذ هما يَتْرُكان تعريفَ التكليفِ نكرة، ويُبرزان الأهواءَ على أصلِ الفِطرة، والعيون بها مستودع ذاك السِّرّ، ومنبع هذا السِّحر; فإذا نظرتْ عينُ ذي حُسْنٍ إلى عينِ نفسٍ لطيفة الروح، وسَرَتْ بينهما مراسلات اللواحظ، ومغامزات البَوْح، تعارفا وائتلفا، وتحالفا على الوفا، وتذاكرا لَذّة الحديث في عالم الأرواح، وتشاكيا ألَمَ التكليفَ في عالَمِ الأشباح، وتواددا وتواعدا، وتعاهدا على الكتمان، والتعاونِ عند الإمكان، وتشاكلا في الهوى نفساً وروحاً، ويُوحى إلى كل قلب من الألحاظِ ما يُوحى.. وهذا الذي استفتيتني فيه، قد أطلعتكَ على خافيه.

قلتُ: بَخٍ بَخٍ لكِ من بارعة في هذه الفنون، وعالمة بمسائل العيون، فقد اتضح لي وبان، مما أبديتِهِ من التبيان، أن العيون هي وسائل اللذّات، ورسائل الذات.. فيا سبحانَ الله، ليس هذا الذي عرفناه، وعن الكتب أخذناه، فَمَبْلَغ علمنا أن لحاظ العيون هي سهام المنون، ومن أُصيبَ بها صار عيشه الهنيّ نكيداً، وعاد شقيّاً بعد أنْ كان سعيداً.فتبسّمتْ تبسُّمَ المفيد الملاطِف في وجه مستفيد المعارف، وقالتْ: هيهات، ليس من تأمل، وذاق كمن نظر في الأوراق، ولا يَعرِف قيمة الدُّرّ إلا مَن غاص عليه، لا مَن أُهدي إليه، وأنتَ قرأتَ أحرفاً مسطورة، وأسطراً مزبورة، فأعجبتكَ نفاسة الكلام، وبلاغة النظام، فطرتَ فرحاً، ومشيتَ مَرَحاً، وزعمتَ أن ذاك هو الغزل والنسيب، وعَدَدْتَ نفسكَ أديباً أريباً، ولم تميّز المقال المصنوع من الخيال المطبوع، فكنتَ كالآكل من الشجرة وهو يجهل أصل الثمرة، فليس الخُبْرُ كالخَبَر، ولا الإدراك بالسماع كالإدراك بالنظر، والعاقل الكامل من ترقّتْ هِمّته عن رُتَبِ الأخذ بالسماع إلى مقامات الكشف بالعيان، وتلقّى فنون الغَزَل عن عيون الحِسَان، وحدّث بما رأى لا بما روى، ودخل مدينة الرِّقَّة من باب الهوى، وإنْ صادفه من التصانيف ما رقَّ، وراق، واستَعذبتْ سلافته الأذواق، وكان مُعرِباً للمعاني، ومطرباً كالأغاني، بحثَ بفكرته عن أساس بانيه، ومدارك مبانيه، ليعثرَ خياله بأصل الخيال، ويذوق لذّة ذاك الجريال، وأنتَ إن عُجْتَ على مَوارِد الجمال تكن مشغول البال، وإن طالعتَ في كتاب تَمُرّ مَرّ السحاب، وهذا الذي أوهمك أن لحاظَ العيون هي سهام المنون; لأنك حفظتَ وما ذقت، وسمعتَ وما نظرت، وفاتك التأمل لما ورد عن عشّاق العيون، وكيف تراهم يَشْكُون ويشكرون، وإنْ أطالوا الشكوى من النحول والسهاد، رجعوا بالتعنيف على اللوّام والحُسّاد، وكيف حُسِدوا إذا لم يكن ذاك نعيم ومقام كريم، وإنك لَتَعْهَدُ أن خيرَ الناس مَن يُحسَد.. وأما ما تسمع من التهويل في الكلام، وتشبيه الألحاظ بالحسام، وسهام الحِمَام، فذاك للتذكير لا للنكير، وللترغيب لا للتحذير، وإنما غالَطَتْ بذلك الأذكياءُ ليُبْهِموا الأمر على الأغبياء; لأنه يَجلّ عن أن يذوقه ذليل لئيم، وقد أرشدتكَ فَـ (ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيم).

قلتُ: لقد أفدتِ بما عزّ، وحَلَلْتِ طُلسمَ رَصْدِ هذا الكنـز، وأَبَنْتِ لَذّةً كانت خافية، وأَلَنْتِ فكرةً كانت جافية، ومَنَنْتِ عليَّ بالإفادة، فلك الحُسنى وأريدُ الزيادة.. فهل لا يُنكِر الحِسَانُ على نظرِ العيون إليهن، وهل لا يَنفِرنَ مِن ملاحظة الجفون لهن؟

قالتْ: أراكَ تريد الاطلاع على ما وراء القناع، فأنا كاشفة لك النِّقاب، ورافعة عنك الحِجَاب.. فاعلم أن لكل نفسٍ مَيلاً إلى الهوى بالطبع الغريزي، ولا يردّها إلا زاجر العقل أو الدين، وحَظُّ النساء فيهما قليل كما وَرَدَ عن التنـزيل، وجاء عن الأمين، فهن إليه أَمْيَلُ بالطبع اللطيف، وأَضْيَعُ عهداً لأمر التكليف، فأيّةُ خَوْدٍ رُزِقَتْ نصيباً من الجمال تميل لعرضه على أبصار الرجال; لتَختَبرَ حَظَّها مِن صُنع الله البديع الذي لم يوجده في الجميع، فإذا بَرزتْ الحسناءُ من خِدْرِها إلى مَسارح اللمحات ومَرامي اللحظات، أَرسلتْ رائد الطرف يَتوسّم الصور، ويَتفرّس نفوس البشر، فإن نَظرتْ فَظّاً غليظَ القلب لاهٍ عن دواعي الحبّ، صَرَفَتْ نظرها عن صورته ومرّتْ وتركته في غفلته، وإن لمحتْ متبصّراً نَقّاداً، ومتغزِّلاً منقاداً، وأَمِنَتْ عينَ عُتُلٍّ زَنيم، وهَمّاز مَشّاء بنَميم; تلطّفتْ في تعريض إشارات حسنها لدقيق لمحاته الخفيّة، ودقيق لحظاته السِّريّة، ومتى ما استشعرتْ باستحسانه المنحة، وأسرّ الهوى ما أسرّ في تلك اللمحة، تغازلا وتراسلا، واجتنيا لَذّة السِّرّ المصون من روض مغازلة العيون.. والغافلون عن ذاك المقام إن هم إلا كالأنعام!.

قلتُ: للهِ دَرّكِ، ما أطيب طيبَكِ ونَشْرَكِ، فأعلميني حكمة نفور ذوي الجمال من المشيب والإقلال، فقد تواترتْ بذلك الأخبار، ونطقتْ به الأشعار؟.

قالتْ: أهذا تجاهل عارف؟

قلتُ: بل تَطَلُّبَ مَعارِف.

قالتْ: وآهٍ، كيف يجتمع الهوى وداعي الوقار، والتصابي وشاغل الافتقار؟ ولكن ربما تشفَّع للإقلال الجمال البديع، وأما المشيب فليس له شفيع، وإن تشفَّع له شفيع الاضطرار، فباطن الحال إنكار.

تم سنة 1286هـ

* باحث سعودي