هناك غير الحزن عند الكتابة.. لكنهم نادرا ما يعترفون

كيف يفرح المبدعون بكتاباتهم؟

TT

يدعي المبدعون الحزن ولا يتحدثون عن غيره، حتى نظن ان الكتابة هي مجرد عذاب لا يوازيه ألم. الكتّاب يعشقون الكلام من الاكتئاب والسوداوية، وكأنما لا شيء غير البؤس في أعمارهم. انهم نادراً ما اعترفوا بلحظات الفرح التي يعيشونها مع أبطالهم أو شخصياتهم أو حتى قصائدهم. إلا ان البهجة بالمواليد الأدبية، حين تكون أجنة، وبعد ان تبصر النور، هي أمر واقع.

كيف يعيش المبدعون أفراحهم الذاتية وبأي أمزجة يتعاطون معها، وهل تصحبها طقوس معينة؟ ثم هل ان الفرحة تتولد من الانتصار على العجز أم بفضل الهروب من اليومي والصغائر؟ في تحقيق صغير تحاول «الشرق الأوسط» استطلاع أفراح يتكتم عليها، عادة أصحابها، وهنا اجابات عدد من الكتاب:

البساطي: لا أستطيع مراجعة رواياتي وأعطي البروفة لأحد أبنائي

الروائي محمد البساطي يكون فرحاً بالعمل وقت الكتابة، لا بل يكون «طائراً» به، خصوصاً عندما تتولد فكرة لم تكن تخطر له على بال، أو تتولد شخصية جديدة، أو يخطر له مشهد موح. ويضيف البساطي: الكاتب يبدأ بما يشبه الهيكل العظمي للعمل، والأدعى للفرح هو ما يتولد بعد ذلك، مما قد يغير مسار العمل كله. هذا الفرح يلازمني حتى ينتهي الكتاب، وبعدها لا أطيق أن أراه.

ويبرر البساطي هذا بقوله: ربما لأنني أكون متهيباً أو خائفاً، أو ينتابني شعور أن ما أنتجته جاء مغايراً لما كان في ذهني، وربما أيضاً لأنني أشعر أن العمل فارقني وتحول إلى كائن حي، يخص الناس جميعاً. الروائي محمد البساطي لا يستطيع أن يراجع العمل بعد كتابته، لدرجة أنه يجعل أحد أبنائه يراجع البروفة، ويظل منفصلا عما كتبه، ولا يقترب منه لمدة تتجاوز السنتين، حتى لو صدر العمل خلال هذه الفترة فإنه لا يقرأه، ويندهش بشدة عندما يقول له أحدهم انه قرأ الرواية وأعجبته، ويظل يسأله ما الذي أعجبك فيها، ولكنه يسأله أكثر عما لم يعجبه، ويظل مندهشاً من كل ذلك، ويحاول ان يفهم، سبب إعجاب الآخرين بالرواية حتى يستطيع إقناع نفسه بأن العمل جيد.

ويقول البساطي إن الفكرة تأتي صغيرة، وتبدأ تطاردني، وأشعر أني أعيش بهجة شديدة خاصة وأنا أرى الرواية تتشكل في ذهني. الفرحة تكون أكبر عندما أدخل في الكتابة، لأنني أرى العمل يتجسد أمامي على الورق، أستطيع أن أتحسسه، وبالتالي لا أستطيع أن أفكر في شيء غيره. هذه هي أسعد أيامي، لكن بعد كل هذه الفرحة، وبعد الانتهاء من الكتابة ينتابني نوع من الخمود، والفتور، والإرهاق، وتذهب الفرحة، وتحل محلها عدم القدرة على النظر مرة أخرى إلى العمل. وحول ما إذا كان تشكيل العمل في ذهنه يحدث مثلما حدث لبطل روايته الأخيرة «الخالدية» يقول البساطي إن هيكل الرواية كان أساساً عن شخص يسرق، أما فكرة صناعة المدينة، وخلقها فجاءت أثناء الكتابة. ويرى البساطي انه ليس من الصحي التدخل في سياق الرواية أو أن نقول يجب أن تسير هكذا، أو في هذا الاتجاه، لأن الكاتب بهذا الشكل يخون عمله الأدبي، وفي «الخالدية» فرح جداً عندما تغير النص تماماً، فالكتابة تكون جميلة عندما يفاجأ بها صاحبها، ويخرج من بنات أفكاره ما لم يكن على باله.. يظل البساطي طوال فترة الكتابة مهموماً، يكتب صباحاً وليلاً، ويغلق الهاتف، ولا يخرج من البيت إلا نادراً، ويدون دائماً الملاحظات التي يخاف ألا يتذكرها.

ميرال الطحاوي: الفرح بالعمل الأول لا ينسى

ترى الروائية ميرال الطحاوي ان الفرح بالعمل الأول لا ينسى لأنه يخلق للكاتب وجوده وذاته، وتضيف: في روايتي الأولى لم أكن أتخيل أن أنجز رواية، كنت أنظر إلى العمل الروائي على أنه يتطلب عقلية مركزة وجهداً كبيراً وليس سهلاً، وأعتقد أنني في المرة الأولى التي أنجزت فيها رواية كنت شديدة الفرحة لأنني استطعت التغلب على الإحساس بالعجز. بعد ذلك أصبح الفرح مرتبطاً أكثر بالنجاح. ولا أعتقد أن كاتباً يسعد لأن نصوصه لا تجد من يلتفت إليها، بالعكس قد يصاب باكتئاب، ومعياري الشخصي للنص الذي يفرحني هو الذي يتوافق مع نجاحه جماهيرياً.

وتشير الطحاوي إلى أن توني موريسون سألوها ذات مرة عن الكتابات النقدية التي كتبت بعد النص، وهل تشعرها بالاستياء أو الحزن إذا كانت سلبية، فقالت هي تشبه الاعتذار لطليقي، لأن ما حدث قد حدث، وأي نوع من العتاب ليس له معنى.

لم يتبق إلا الفرح بالكتابة، بالنسبة للطحاوي، لأن مناخنا الذي نحياه يخلق الكثير من الاحباطات. والكتابة من الأشياء القليلة التي لها مردود، ليس مردوداً مادياً، إنما رأي الناس في الكتابة هو المهم، لأن أي نشاط إنساني يهدف إلى التقاط ردود الآخرين والتواصل معهم، وهذا يشعر الكاتب بنوع من تحقيق الذات. انه شيء مفرح. لذلك فإن أصعب ما يواجهه الكاتب هو النضوب.

وترى الطحاوي أن مسألة الطقوس موجودة في الشعر أكثر منها في الرواية، فالكاتب يظل منذ البداية، وحتى النهاية قلقاً، حتى يتأكد أن كل أفكاره باتت في يده، وأنه التقط شيئاً شديد الخصوصية.

الكفراوي: صخب الشارع يدفعني إلى التركيز

ويشير الكاتب سعيد الكفراوي إلى ان لحظة الكتابة تتفاوت من مبدع لآخر، فالبعض يدخل على الكتابة وموضوعه معد وجاهز، والبعض الآخر يخضع لتيار الوعي، وتقوده مخيلته، وأحداث المفاجأة وما ينشغل به من أسئلة الإبداع. وأكثر ما يثير شهية الكفراوي للكتابة، هي الذكريات القديمة ومشاهد من الواقع، تنقله من لحظة آنية إلى لحظة متخيلة، ويظل بعدها في حالة من الحيرة، يحشد مشاعره ويغذي تلك اللحظة بقراءات متنوعة مثل الشعر وبعض نصوص الأدب، من قصة أو رواية، حتى لحظة البداية التي تمثل له ـ على حد قوله ـ أصعب ما في الموضوع، والتي ما أن يبدأ الجملة الأولى إلا وتتواتر الأحداث عبر لغة تصنع نفسها، وعبر خيال يفارق الواقع لكنه منه، وكلما تم إنجاز ما، تجسدت لحظة الفرح بالإبداع، وكأنها لحظة نبوءة أو سعي نحو المعرفة، «أو هي لحظة إجابة من خلالها مصاعب الحياة والموت». ويقول الكفراوي: ويكاد يكون كل ما كتبته من قصص هو ابن تلك اللحظة. وعن طقوسه الخاصة بالكتابة يقول الكفراوي: لا طقوس معينة، هي طول الوقت حيرة ودوران حول الإمساك بلحظة من زمن. أنا لا أكتب بالليل وإذا كان ثمة طقس فهو الكتابة بالنهار في الضوء، وأكتب أحياناً مع قدر من صخب الشارع أو ضجة النادي، فالصوت الإنساني يدفعني للتركيز، ولتكثيف الإحساس أيضاً، ولا أكتب على موسيقى وأعتبر الموسيقى فناً يأخذني مما أنا فيه.

* شهادات في متع الكتابة

* حتى ولو لم تبع لي أي نسخة من كتبي إطلاقا، إلا أني فعلت ما أردت فعله، حققت شيئا لنفسي أرغب فيه طيلة حياتي، أليس كافيا؟

جانيت فيتش ـ

* بينما كنت أكتب سكب طفلي الصغير عصير البرتقال على الطاولة التي كنت أكتب عليها، وأذكر أني ظللت أكتب والعصير من حولي، لأني فكرت بأن هذه الجملة الرائعة التي أنا بصدد كتابتها لن تعود إلي إذا ما توقفت عن الكتابة لتنظيف الطاولة..

توني موريسون

* يسألني الناس كيف يمكنك أن تنظمي عملك بهذه الطريقة؟ كيف يمكنك الجلوس لكتابة كل تلك الكتب؟.. لكنها بالنسبة إلي ليست موضوع تخطيط ونظام، إنها مسألة عاطفة، لا أشعر بأني سعيدة عندما لا أكتب، فلماذا لا أكتب كل يوم؟

مانيت أنسي

* أعتقد أن أقوى شيء يجذبني إلى الكتابة، هو أن أكون بعيدا عن نفسي وعن مشاكلي الصغيرة، لأعالج المشاكل الكبيرة التي تواجه شخصيات رواياتي..

روبرت مورغان