شجوا جبينه في المعتقل فتفجرت ينابيع الشعر

احتفالية مصرية بسبعين محمد عفيفي مطر

TT

محمد عفيفي مطر ليس مجرد شاعر بلغ سبعينه، ومن ثم فعلى أصدقائه أن يحتفلوا به، وعلى الشعراء أن يقيموا مأدبة لكبير بينهم، فبلوغ مطر السبعين أعطانا نحن قراء شعره لا هو، الفرصة لقطف ثمار المعرفة من مشروع شعري تكاملت أضلاعه مع امتداد عمر الشاعر.

فروائح بستان المانجو لا تزال في الثوب الشعري تفوح. أما مطر فقد حسم أمره، وصرح خلال آخر حوار صحافي أجري معه «أنا نجم في الشعر ولا تعنيني الشهرة الجماهيرية». ومع تمتع مطر أيضاً بالشهرة الجماهيرية، بعكس ما قال، وبعكس ما يظن البعض، يظل فريداً وغريباً بين الشعراء. فهو الشاعر الذي قد تختلف مع مدرسته الشعرية ومواقفه السياسية معاً، لكنه يظل لديك شاعراً كبيراً، فنصوصه المحكمة تقف دوماً حائلاً بين الغاضبين وبينه.

شهدت الحديقة الخارجية لأتيليه القاهرة، حشداً لم تعتده، فقد اجتمع بها مساء الثلاثاء الفائت عدد كبير من المبدعين، من شعراء وروائيين وقصاصين وفنانين، من أجيال مختلفة، بالإضافة للجمهور من محبي مطر، ليقيموا احتفالية بلوغه السبعين، التي بدأت في الثأمنة مساءً واستمرت لأكثر من ثلاث ساعات، وحفلت بالشهادات والدراسات، ورفاق شعر أهدوه قصائد للمناسبة، كالشاعر العراقي سامي مهدي. وتخللت الاحتفالية قراءات مطر للشعر، التي ربما كان يجب أن يزيد منها، مع الحد من عدد المتحدثين، الذين نقف على بعض مما قدموه.

بدأ الكاتب أسامة عرابي مقرر اللجنة الأدبية بالأتيليه مقدمته للاحتفالية بتهنئة مطر الجالس بهدوء إلى جواره داخل بنطال وقميص صيفي، مخيباً آمال البعض في قدومه لهذه المناسبة خصيصاً بالزي الفلاحي، الذي ظهر به في الفيلم التسجيلي الذي أنتجه التلفزيون المصري عن حياته، مؤكداً فيه على الاتساق بين القول والفعل، لا فقط على الاعتزاز بقرية رملة الأنجب بمحافظة المنوفية، التي ولد ويعيش فيها، ولم يرض عنها بديلاً، ولا أبعدته عنها دراسة الفلسفة بجامعة عين شمس، ولا سنوات ليست بقليلة قضاها في العراق، سخط فيها على السادات وحكمه، واقترب من حكم البعث آنذاك، ولا شقته القاهرية التي ينزل عليها ضيفاً أحياناً كأصدقائه الذين يحلون فيها.

وقد تحدث أسامة عرابي في مقدمته عن ملامح عامة في شعر مطر وشخصه، وقال عنه «احتفظ بمسافة نقدية من تراثه الشعري»،

وبهذه الجملة القصيرة يشير أسامة عرابي بدون تفصيل، إلى مدخل مهم لفهم الفاصل الشعري الذي وقف على عتباته مطر، الشاعر ذو الحس المعلقي ـ نسبة إلى المعلقات ـ والملحمي، والناقد بشدة في آن لآباء الشعرية العربية قديماً وحديثاً.

فلقد انتقد مطر سابقاً شعر المتنبي، وأكد أنه شعر غابت عنه اللغة الشعرية، وطغت عليه العقلانية. وهذا ليس بغريب على شاعر كتب في بداياته عام 1959 يقول:

دعوا التشطير والتخميس.. هذا الشعر أجداث/ وأوهام مخرقة وأضغاث/ دعوا الخيّام يشرب كأسه وحده/ ويلعن ظلمة الحفرة/ ويشكو قسوة الأقدار للندمان/ دعوا «شوقي» يسبح ربه السلطان/ ويلبس تاج مملكة مزيفة بلا تيجان/ دعوا الموتى.. فكم سفحوا محابرهم على الأعتاب ومدوا كفهم للرفد والخلعة/ ويا أسفاً.. مضوا.. تركوا حروفاً طرزت بالوشي والصنعة/ وليس بها عبير تراب.

وتحدث الناقد محمد برادة في مداعبة لمطر، عن عجز لغة النثر في التعبير عن الشعراء. كانت شهادته شخصية عن تعارفهما عن بعد ثم اقترابهما، الذي أدخله إلى كون مطر الشعري وخصاله الإنسانية، ومن أهم ما أشار إليه، حذر مطر التلقائي وتكتمه الطبيعي. وأكد على قدرة مطر في الانطلاق من تربة الأرض لأسئلة الوجود والكينونة، مما لا يجعل اللحظة الشعرية عابرة لديه، وهذا سر تفرده.

وارتجل الناقد محمد عبد المطلب شهادته التي تمثل دراسة في شعر محمد عفيفي مطر، ناقضاً بذلك ما بدأ به، بأن هذه الحضرة تسكت اللسان لا تنطقه. شدد على مكانة مطر، التي حفرها بأسنانه ويديه، تحديداً منذ عام 1957عندما قدم قصيدته «فردوس بائعة المانجو»، فقد بنى مطر بتلك القصيدة منزله الشعري، من واقع اجتماعي محدد وواضح، مهملاً عن عمد إبداعات سابقة له، وناقداً نفسه بقسوة قائلاً «كان شعري الأول هراء يعيد إنتاج الهراء». قسم عبد المطلب شعر مطر إلى ثلاث غرف، الأولى أسماها غرفة الأعراف، وهي الغرفة الواقعية التي بدأها في مراحل تكوينه، فقد شاهد مطر الواقع في فلاحيته، ووظف لغته شعرياً لترتفع إلى أفق الشفافية. والغرفة الثانية هي غرفة العرفان، إشارة إلى الموقف العرفاني، من الرؤية إلى المشاهدة. تلك التجربة التي أدت بمطر إلى إدراك المادة الأولى للوجود، حيث الذات اختبرت الواقع المأزوم، واصطحبت معها الروح والجسد. ومن المهم في هذه النقطة أن نشير إلى تأكيد مطر نفسه في فعاليات مختلفة على التصوف كنزعة فكرية تظلله منذ بداياته، مثلما يؤكد على عروبته. أما ديوانه «أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت» الذي أهداه إلى الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم). أما الغرفة الشعرية الثالثة لمطر في شهادة محمد عبد المطلب، فهي غرفة النفس التي انفرد فيها الشاعر بأحاديث يجريها مع النفس والسلطة والآخر. ولأنه يأخذ معارفه من كل الأماكن، ويستحضر واقعه ثقافة حية تعيش في شعره، ويقدم لغة غير مسبوقة في شعره، فمطر حسب عبد المطلب ليس رائد جيل شعري بل رائد زمن شعري.

وجاءت شهادة الشاعر حلمي سالم لتوسع الدائرة والرؤية، حول العلاقة بين مطر وشعراء السبعينات في مصر، فيعود بنا إلى عام 1975، تحديداً إلى مجلة الشباب التي كان يصدرها الاتحاد الاشتراكي

آنذاك ويعمل بها مجموعة من شباب شعراء ذلك الجيل، يترأس عملهم الشاعر سيد حجاب، فاحتفلوا جميعاً بعيد ميلاد مطر الأربعين وقتها.

وكان من الغريب أن يتم الاحتفال بأربعينية شاعر، لكن الفرصة كانت سانحة في مناسبة كتلك للتعبير عن حب متبادل. وكانت هذه مقدمة جيدة للحديث عن الجفوة أيضاً، تلك التي تتمثل في ما يطلق عليه نظرية قتل الأب، فمن المعروف أن شعراء السبعينات في مصر تتلمذوا على شعر مطر، لكنهم هاجموه وانقلبوا على مدرسته، التي رأوا فيها تراثية قديمة تعوق حركتهم التي أرادوها شعراً حرا. فيقول حلمي سالم، إن هذا قدر الرائد، وهذا طيش الأبناء، لكن دروس مطر لا تزال متوهجة، تحديداً فيما يختص بقضية هامة تدور حول التزام الشعر. فقص سالم على الحضور واقعة حوار بين مطر ومجموعة من الشعراء في منتصف السبعينات، تدور حول التزام الشعر، وتعريف هذا الالتزام، ومدى ارتباطه بقضايا الواقع الاجتماعي القائم، وتأتي أهمية هذه النقطة من كون هذا الحوار دائراً باستمرار مع اختلاف الأجيال، حول الشعر تحديداً، وكانت إجابة مطر حول تلك القضية والتي لم ينسها سالم، بأن الشعر مُلزم لا ملتزم، حيث الآخرون ملزمون أمامه لا العكس، ملزم للقراء لتغيير آلياتهم، ملزم للنقاد لتحديث نظرياتهم، وملزم للشاعر ليحدد انتماءاته. وقد طبق مطر بشعره هذه المقولة منذ أن بدأ، فيشير سالم إلى رؤية كثير من النقاد لبدايات مطر، حيث اعتبروا شعره غامضاً، ومفارقاً للواقع، لكن ما حدث أن نظرة النقد لشعر مطر تغيرت، ولم يتغير مطر لأجل النقد.

ثم قرأ مطر شعراً للمرة الأولى منذ بدأت الاحتفالية، وهنا تحول الرجل الهادئ المبتسم، الذي لم يتحدث حتى تلك اللحظة بكلمة، واكتفى بالاستماع للشهادات، إلى خطيب مفوه إن جاز التعبير، يتلو عليك خطبة موسيقية، لا قصيدة. كانت عضلات وجهه كلها تتحرك، في مساعدة لليد اليمنى الملوحة مع إيقاع الكلمات. مثل شعره الخاص، له بحة صوت خاصة. كان سعيداً وجمهوره سعيد به، يقرأ، ويشتد صوته بالقراءة، وتطول معه قصيدته بحسها الملحمي المعروف، فيطرب بها ولها.

وإذا كان الناقد د. فاروق دربالة قد تحدث عن إخلاص مطر للقرية وطميها، مما أدى لتفجر الحس الفلاحي في شعره، بمفرداته من أشجار مختلفة وأدوات فلاحة، فقد أضاف الناقد أيمن بكر البعد الميتافيزيقي الهام لتلك القضية، وهذه نقطة ينبغي التوقف عندها، فمطر الشاعر المراوغ العصي على النقد، يخلط طمي قريته بالفلسفة التي شربها طالباً ومريداً، فيقدم القرية في نسيج من الحكمة، على القارئ أن يتأمله ليدركه، أو بالأصح عليه أن يمتلك الأدوات لتفسيره.

أما القاص الحكاء سعيد الكفراوي، فقد تحدث للجمهور عن ذكرياته المشتركة مع مطر، منذ أن عرفه في أواخر الستينات في المحلة الكبرى وحتى اليوم، ماراً على جلسات مقهى ريش بالقاهرة، والتحلق حول نجيب محفوظ في مواقف طريفة. وتأتي أهمية ما يقوله الكفراوي، من كونه يمثل المعادل القصصي لشعر مطر في الأدب المصري، وهذا ما أشار إليه الكفراوي من خلال حديثه عن طقوس الكتابة المشتركة بينهما، من اهتمام بالقرية وقاموسها، وتأكيده على دور مطر في لفت انتباهه إلى ما أسماه بالمنطقة الغامضة في الوعي المصري. ثم قص الكفراوي على الحضور قصة البحث عن مطر حين اختفى عام 1991، الذي تبين فيما بعد إنه ليس باختفاء، وإنما اعتقال من قبل السلطات المصرية بتهمة سياسية تبين فيما بعد أن لا أساس لها، وكيف زاره في المعتقل بصحبة الناقدة فريال الغزول بعد رحلة البحث، ليشاهد صاحبه وقد شج جبينه حتى الأنف، وإن كان هذا فقط ما ظهر للكفراوي حينها من آثار التعذيب الجسدي الذي طال مطر. وما يعنينا أن نتوقف عنده في قضية الاعتقال تلك، أن الشجة التي طالت جبين مطر، كانت كفأس شجت تربة شعره أيضاً، فمطر كان قد توقف عن الشعر زهاء عشر سنوات، ثم جاءت حادثة اعتقاله، ليخرج منها وبعدها بما أكمل به مشروعه الشعري ولا يزال. وحقت عليه في تلك التجربة قصيدة كتبها عام 1959عن شاعر آخر كان سجيناً آنذاك في بلاد أخرى، وما هو سوى بدر شاكر السياب، الذي يقول مطر في مطلع القصيدة المهداة إليه: ماذا يقول بلبل حزين/ ماذا يغني في ضمير الليل شاعر سجين/ زواره: حكاية الدموع حين طهرت ملامح السنين. لكن الفارق الأساسي بين تجربة السجن لدى مطر، وتجربة السجن لدى مبدعين شباب، أن مطر أعتقل ناضجاً حكيماً ممتلكاً لأدواته، فأفادته التجربة الأليمة شعرياً إلى أقصى حد.

وتجدر الإشارة هنا إلى واحدة من أهم الدراسات التي قدمت عن محمد عفيفي مطر بشكل عام، وعن تجربة السجن لديه بشكل خاص، قامت بها الناقدة فريال الغزول التي حضرت الاحتفالية لكنها آثرت أن تعطي وقتها في الكلام لغيرها، ونشرت في عدد خاص عن الأدب والحرية من مجلة النقد الأدبي فصول، وكانت بعنوان «قصيدة السجن من البيان إلى البلاغ»، ونختتم بسطور منها تقول: «كتب محمد عفيفي مطر عن اعتقاله في 1991أربع قصائد في السجن قدم فيها مشاهد من تجربته الحية ومن تجارب الغير، ومنهم من شاركوه السجن في معتقل طرة وآخرون من التراث العربي والإنساني استحضرهم الشاعر رفقة وسنداً، فيهم من كابدوا السجن كسقراط، وفيهم من فضح محاكم التفتيش مثل جويا، وفيهم من كابد من أجل قضية ومبدأ مثل ابن رشد وابن خلدون. وتتميز هذه المرحلة بأنها حصيلة تجربة معاشة، فالسجن هنا لا يستمد صورته من جموح خيال أو تأمل فلسفي بل من واقع ملموس وقمع محسوس».