علي دَّشتي ترجم بتصرف كتاب الرصافي «الشخصية المحمدية» ولم يؤلفه

«23 عاماً في السيرة النبوية».. ترجم إلى الفارسية ثم عاد إلى العربية

TT

وقبل رمي تهمة السرقة على الأديب والدبلوماسي والسياسي علي دَّشتي علينا التأكد إذا كان قد قصد السرقة أم أنه أراد ترجمة النص وإصداره بالفارسية خالياً من اسم المؤلف؟ فهناك من الأدلة ما يؤكد تورط دَّشتي بسرقة الكتاب، وبالمقابل هناك ما يشير إلى دوره كمترجم حاول إبعاد اسمه من على غلاف الكتاب خشية مما يُرمى به من تهمة التجاوز أو تخطي الحدود في كتابة السيرة النبوية، على الرغم من أن «الشخصية المحمدية» كان كتاباً موقراً لشخصية الرسول، وليس فيه غير محاورة الروايات الواردة في سيرة ابن هشام، أو السيرة الحلبية.قبل الخوض أيضاً في قصة الكتاب نحاول تأكيد قضية أخرى، وهي ما يتعلق بحقيقة نسبة كتاب «الشخصية المحمدية أو حل اللغز المقدس» (كولون، منشورات الجمل 2002) إلى الشاعر العراقي معروف عبد الغني الرصافي (ت 1945). ما يؤكد نسبة الكتاب لمؤلفه أن نسخته المخطوطة محفوظة في مكتبة المجمع العلمي العراقي. قال نجدة فتحي صفوة: «ولعل أهم مؤلفات الرصافي المخطوطة وأخطرها كتابه الشخصية المحمدية. وهو بحث تحليلي لشخصية الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، كان حصيلة دراسة طويلة وعميقة لكتب السيرة النبوية، وفيه كثير من النظرات الجديدة والآراء الجريئة. وقد راودت الرصافي فكرة تأليفه عام 1929. وشغل عنها زمناً، ثم كتبه خلال إقامته في الفلوجة بين سنتي 1933 و1941. وتوجد نسخة مصورة منه عن النسخة، التي كتبها الرصافي بخطه، محفوظة في مكتبة المجمع العلمي العراقي ببغداد» (سلسلة الأعمال المجهولة معروف الرصافي، رياض الريس للكتب والنشر، ص 106). وذكر مخطوطة الكتاب ميخائيل عواد في فهرس «مخطوطـات المجمـع العلمي العراقي». وكتب الدكتور وليد محمود خالص مقالاً، تحت عنوان «كتاب الشخصية المحمدية للشاعر العراقي معروف الرصافي وقفة منهجية في قضية تحقيق النصوص ونشرها»، نشرته جريدة «الرأي الآخر» في عددها 147»، نقلاً عن بحث محمود العبطة المنشور في مجلة «المورد». قال: «يقع الكتاب في 43 كراسة. أودعه الرصافي بخطّه لدى صديقه المرحوم محمود السنوي. كما استنسخه مصطفى علي، واستنسخه كامل الجادرجي بخطّه، ويقع في أربعة مجلدات تضمّ 1154 صفحة، وعليه إجازة بخطّ الرصافي نفسه». جاء في كلمة الرصافي، التي حذف منها في الكتاب المطبوع اسم الجادرجي: «اطّلعت على هذه النسخة التي استنسخها صديقي الفاضل كامل الخيام (الجادرجي) على النسخة التي كتبتها بخطّي من كتاب الشخصية المحمدية فرأيتها صحيحة كاملة خالية من الأغلاط في النسخ. فلذا أجيز له روايتها، والنقل عنها، والاعتماد على ما هو مكتوب فيها قبل طبع نسخة الكتاب الأصلية. ونشرها، وبما أنّي أثق بثقافة كامل الخيام، وبصدقه وإخلاصه في مسائل العلم والأدب، كتبتُ هذا إعلاماً بذلك».

وورد في مذكرات الرصافي: «ومنذ اختياري للفلوجة عزمت على تأليف كتابي الشخصية المحمدية، أجلو بها سيرة المختار، وفعلاً باشرت بتأليفه عندما وضعت قدمي في الفلوجة. وأنا إذ كان عملي ناقصاً فسببه قلة المصادر التي لديَّ، فأنا ألفت هذا الكتاب وليس لدي من أمهات المصادر سوى أربعة وهي: السيرة للحلبي، وسيرة ابن هشام، والتفسير للزمخشري ومعجم البلدان. وهذه الكتب الأربعة هي أيضاً ليست ملكي، وإنما استعرتها من مصطفى علي» (يوسف عز الدين، الرصافي يروي سيرة حياته، دار المدى 2004 ص110). وبدوري اطلعت على النسخة الأصلية المطابقة لنسخة منشورات الجمل، محفوظة في مكتبة هارفرد بكامبرج بالولايات المتحدة الأميركية في نوفمبر من العام الماضي، مطبوعة عام 1991 على الورق العادي، بلغت عدد صفحات ملازمها السبع 1154 صفحة. يضاف إلى ذلك لم يكن مثل هذا التأليف غريباً على الرصافي فمن غير أعماله المجهولة، التي نشرها نجدة فتحي صفوة في التاريخ والعقائد، له: «الآلة والدواة»، و«دفع المراق في كلام أهل العراق»، «الرسالة العراقية» في السياسة والدين والاجتماع، و«نفخ الطيب في الخطابة والخطيب» وغيرها. أوردنا هذا لأن هناك مَنْ شكك بنسبة الكتاب إلى مؤلفه الرصافي.

هناك عدة أمور تقود الباحث أو القارئ إلى الشك في حقيقة عمل المؤلف، منها الاهتمام نفسه، فمن النادر أن يصنف ناقد أدبي كتاباً في الأديان والمذاهب، أو يبرز ناقد سينمائي في كتاب حول طبقات الأرض مثلاً، وهذا ما قاد إلى فضح سرقتين على صفحات جريدة «الشرق الأوسط»، لفت تأليفهما خارج حدود اهتماميهما. وهذا ما يقود أيضاً إلى الشك في نسبة كتاب «23 عاماً دراسة في السيرة النبوية المحمدية» إلى علي دَّشتي، فهو لم يُعرف طوال حياته، في كتاب أو مقال، أنه من المهتمين في التاريخ. بل مؤلفاته في الشأن الأدبي والتصوف كوجدان لا كتاريخ. فمن مؤلفاته حسب مقدمة الكتاب: «نقش از حافظ» (دراسة في شعر حافظ)، و«سيري درديوان شمس» (الشعر الغنائي عند جلال الدين الرومي)، «درقلمرو سعدي» (الشاعر والناشر سعدي شيرازي)، «شاعري دير آشنا» (حول شعر الخاقاني»، و«دمى خيام (الشاعر عمر الخيام)، وبرده بندار (حول التصوف) ودرديار صوفيان» وغيرها. انتبه إلى هذه الحقيقة كاتب إيراني يعيش منفياً بالسويد. كتب بالفارسية في جريدة «نيمروز» التي تصدر بلندن: ان ما صدر باسم علي دَّشتي خال من الصحة، فالكتاب لمعروف الرصافي، وما دَّشتي إلا كان مترجماً. كان الدكتور محمد علي النجفي قد اطلع على نسخة من كتاب «الشخصية المحمدية»، قبل نشره في كتاب، مطبوع على الآلة الكاتبة، استعارها من وزير عراقي سابق، لم يسمح له بتصويرها، بل قرأها على عجل وأعادها له. لكن لم يلتفت أحد إلى ما نبه إليه النجفي، الذي كان يعرف علي دَّشتي وأفكاره عن قرب. لكن افتضح أمر الكتاب بعد ترجمته إلى العربية أخيرا.

وحسب مقدمة الكتاب، عاش علي دَّشتي بالعراق فترة طويلة من الزمن. وفد إلى كربلاء في أواخر العهد العثماني لغرض الدراسة الدينية. وكان يجيد اللغة العربية. لكن لم يحفل بالدراسة الدينية بل توجه إلى الكتابة في الأدب الفارسي، فأصدر جريدة «شفق سرخ (الفجر الأحمر). وكان قد سُجن في سنة 1919 بسبب موقفه ضد المعاهدة الإنكليزية الإيرانية. وبعد سنوات من التردد على السجون عُين سفيراً لبلاده بمصر ولبنان. ثم وزيراً للخارجية لمدة أسبوعين فقط. ثم عُين عضواً في مجلس الشيوخ الإيراني، وبقي في هذا الموقع حتى سقوط الشاهنشاهية بإيران 1979. بعدها سُجن في سجون الثورة الإيرانية، وتوفي سنة 1981 وقيل 1982 .

وبعد الاتصال بالدكتور نجفي حول ما كتبه في «نيمروز» أصر أن دَّشتي لم يسرق الكتاب بل لم يضع اسمه على الطبعة الفارسية الأولى. لكن الاسم ظهر على غلاف واحدة من طبعات الكتاب، حسب ما توفر في مكتبة معهد الاستشراق البريطاني، وكانت في حياة دَّشتي. وأن مترجم الطبعة الإنكليزيةF.R.c. BAGLEY.. قال: إن دَّشتي طلب عدم نشر الكتاب إلا بعد وفاته، لكنه أنه لم يذكر أنه أوصى بعدم وضع اسمه على الكتاب، وقد نشر تحت عنوان TWENTY THREE YEARS) عام 1985 بلندن وسيدني وبوسطن. ومما يُذكر أن علي تقي منزوي، وهو نجل العلامة أغا بزرك الطهراني، «صاحب الذريعة إلى تصانيف الشيعة» كان من المتحمسين لنشر الكتاب، وهو أيضا من الذين ترددوا على سجون الثورة الإيرانية ليساريته، وتربطه علاقة صداقة بعلي دَّشتي. نفدت الخمسة آلاف نسخة داخل إيران، وأخذ الكتاب يصدر تباعاً في الثمانينات من دون اسم دار نشر، وبنسخ مصورة. وحسب النجفي أن الطبعة الأولى حملت اسم علي منزوي، إلا أنه سارع إلى نفي هذه النسبة. وما لم يعلمه نجفي أن الطبعة الفارسية، التي بين أيدينا، حملت اسم علي دَّشتي مؤلفاً للكتاب لا مترجماً. وربما يعلل هذا العمل أنه حصل من دون علم دَّشتي، فينقل عنه أنه صرح لمدير مجلة (ألمانية ـ فارسية): «بأنك لو وضعت اسمي (على غلاف الكتاب) فأنا سأكذبه». بطبيعة الحال لا يخلو ما كتبه الدَّشتي من بعد الآراء، ومن إضافة نصوص، واعتماد مصادر أخرى. وبغض النظر عن براءة أو تورط مؤلف كتاب «بيست وسه سال» أي «23 عاماً» أن الكتاب بمجمله هو محاكاة دقيقة لكتاب الرصافي «الشخصية المحمدية»، من ناحية الأسلوب والمعلومات والاستنتاجات، وأن التقديم والتأخير في فصول الكتاب، عما هو موجود في كتاب الرصافي لا تستر التشابه الشديد بين الكتابين. إن الأمر الأقوى الذي يضع كتاب المؤلف في محل الشك هو لماذا لم يضع دّشتي اسم الرصافي على الكتاب إذا كان قصده الترجمة وحسب، وعندها ينتهي التساؤل، فليس هناك مَنْ يبحث عن اسم المترجم. مات الرصافي ومات دَّشتي وظل السر مطوياً. ومَنْ يدري، فلربما أراد الرصافي، الذي أوصى بعدم نشر كتابه إلا بعد وفاته، لكتابه أن يكون بالفارسية، ففيه ما فيه ضد بلاد فارس وضد التشيع الصفوي عموماً، وهذا ما لم يظهره علي دَّشتي في «23 سال».

ختاماً، قد تقنع كلمة الناشر، التي وردت على صفحة الغلاف الأخيرة، غير المطلعين على كتاب «الشخصية المحمدية» في اعتبار علي دَّشتي مؤلفاً للكتاب لا مترجماً وناقلاً، لكنه لا يقنع القارئ من أن المؤلف «يقدم تصوره عن وصول الإسلام إلى بلاد فارس، وكيف استقبلوه فيها ولماذا أمنوا فيه». فلا دَّشتي ولا الرصافي بحثا في هذا الموضوع، والمصيبة أن يكون الناشر أو مَنْ كتب العبارة المذكورة لم يطلع على الكتاب، حتى يجعل مثل هذه المعلومة جزءاً من الدعاية للكتاب.