الإدراك العربي بين السلطة الحاكمة والسلطة المعترضة

الهوية العربية ليست ظاهرة عابرة أو منقطعة عما قبلها أو ما يعاصرها كما يرى وفيق رؤوف

TT

هل ننتظر من الغازي المحتل أن يحمل رسالة حضارية تنتشل المغزو من أزماته الداخلية، في الوقت الذي تأكدت قابلية المغلوب طوعاً أو إكراهاً على الهزيمة ما دامت الحرب في النتيجة اختباراً يتجاوز جبهة المقاومة القتالية إلى ما هو أبعد، أي إلى الخطوط الخلفية الفكرية والعلمية والعقلية والثقافية؟.

يطرح الدكتور وفيق رؤوف في كتابه «إشكاليات النهوض العربي، من التردي إلى التحدي» الصادر أخيرا، مسألة كيفية استعادة الفكر القومي العربي لعافية الصدقية المتصدعة، في دراسة تواجه معضلة منهجية الحياد، في نقد المنظومة القائمة. في الوقت الذي يعتبر المؤلف نفسه جزءاً معنياً مباشرة بالعلة، ومنحازاً، ومنخرطاً في صلبها. فكان عليه للإتيان باستنتاج مستجد أن لا يكتفي بالتوقف عند المحطة النقدية لمادة الموضوع، بل أن يسعى إلى نقد النقد. لذلك ارتكزت دراسته على محورين، الأول: التنقيب في العيوب والنواقص المتوغلة في الفكر العربي منذ النشوء والتكوين. والثاني: توسيع آفاق الجزء الإشكالي إلى الكل الإجمالي الذي يتطلب الإحاطة بفضاء الأدب العربي الذي كان، ولا يزال، ركناً في تكوين الإنسان العربي الدراسي والتدريسي.

حدد المؤلف أسباب انتكاس النهوض العربي بخمس إشكاليات هي: العقل وإشكالية الذاكرة، والتفاعل، والتحول، والمحظور، وأخيراً العقل وإشكالية الاستدراك. كما حدّد لتقليب حيثيات الإشكاليات من أجل تحفيز العقل على الاستيعاب والاستقراء بخمس إدراكات هي: الإدراك ومراجعة الانقطاع، والإفاقة، والعلمنة، والاستقلال، والاضطراب.

ينطلق المؤلف من أسئلة مستهجنة: أين تقف الذاكرة العربية والتفكير العربي من دراسة الوضع الثقافي لأمة رسمت لنفسها، موطنها الأصلي، توهماً، في حالة انقطاع جغرافي معزول وأرض قاحلة؟، في حين توصلت الأبحاث إلى إثبات أن جنوب الجزيرة العربية كان منذ 8500 سنة خصباً، حيث ازدهرت حضارة متألقة. كانت طريقاً حضارية، متفاعلة مع الغير، تدخل إليها وتخرج منها وتمر عبرها البضائع والأفكار. فالإشكالية تبدو في نمط الحياة المتوزع بين النظام والتزامه والانفلات منه، بين الإقامة والترحل. وفي كلتا حالتي البادية والحاضرة كان الشعر هو المصدر الثقافي الأولي للعرب. فما وصلنا من نصوص الموزون المقفى كأشعار المعلقات هي أقرب إلى ملاحم الإغريق. ولو قلبنا القصيدة إلى صياغة نثرية، وجدنا أن النص، كناتج أدبي ثقافي، يظل محتفظاً بالجوهر، بأصل الأداء التعبيري، أي أن للعربي أدباً هو الابن الشرعي لثنائية العصر والبيئة.

وإذا نظرنا إلى موقف العرب المتلكئ حيناً والمتصدي حيناً آخر، نرى أن عامل التحفظ يواجه عامل التفاعل المفتوح، فيما عامل التمايز ينبري بالمقاومة. وفي تحليل هذه العوامل نستطيع أن نلمس معرفة العربي بالبنى الآيديولوجية التي يشاع افتقاره لمعرفتها. فقبوله بالإسلام كان قبولاً بالبعد الكوني للدين الجديد الذي لم يقتصر على شعب مختار.

أما إشكالية التفاعل، فينبغي طرح السؤال، هل كانت الثقافة العربية ـ الإسلامية تمتلك البنى التحتية الراسخة التي تؤهلها لفاعلية الأخذ والعطاء؟، تتحدد هذه الفاعلية بالقدرة على نقل الفكرة الشفهية وتحريرها كتابياً، لأن الكتابة هي التي ترفع الناتج العقلي إلى العلنية الثقافية بمواجهة الذات والآخر. وفي تقدير المؤلف أن التدوين لم يستهل انطلاقته في منتصف القرن الثاني الهجري كما هو شائع، بل في العصر الراشدي بالذات، أي بتدوين النص القرآني الذي أثبت المصدر الجوهري كتابياً للشريعة، وألهم مهمة ضبط المصادر الأخرى كالحديث الشريف والسنة والتفسير. ودفع لاحقاً إلى البحث عن العقل الآخر في ترجمة «علوم الأوائل» وتعريب الدواوين، وقد بلغت الكتابات الإدارية في الدولة الأموية قدراً متميزاً قبل الوصول إلى العصر العباسي. الذي وضع الخطوط الأساسية للتفاعل من خلال حركة الترجمة التي أسقطت حركة انتقال الأفكار وتلاقحها من فوق العقبة اللغوية.

ولا شكّ أن من يصنع التاريخ هم الأشخاص الذين يهبُّون ليكونوا في مستوى لحظة التحول. وعلى هؤلاء أن يتحكموا في آن واحد بأرض الواقع وإطار التاريخ معاً، أي الجمع بين الصفتين القيادية والثقافية. ونرى أن العصرين الأموي والعباسي قد عملا على فرز الروحي عن الزمني، ورسما خطوط الشرعية للتعاطي مع العقلين المجاورين، الفارسي واليوناني. فالعصر العباسي هو دخول العرب ومساهمتهم في صنع الزمن الإنساني. وإن الذكاء الذي طمح إلى تخطي حدود الاحتكاك بذهن الآخر، عمل على توظيف التفاعل بهذا الذهن في أغراض هي في المحصلة لصالح الانفتاح الذي لم يكن فلسفياً بالتحديد بل كان جوالاً بآفاق ثقافية يجمع بين متناقضات تداخل الأدبي بالفكري، وتداخلهما بالملابسات السياسية القائمة.

أما إشكالية الاستدراك، فتتلخص بسؤال مركزي، متى يتأزم الوضع الحضاري؟، فإذا كانت الحضارة هي ذلك الكل المركب الذي يتضمن أفكاراً تمت المجاهرة بها وعادات متناغمة للإنسان المقيم في مجتمع، فذلك يعني أنه لا يمكن النظر إلى الشاخص الحضاري بمعزل عن المفهوم الجماعي في التكوينات الإنسانية. واختلاط مفهوم الكينونة الحضارية مع الثقافية يجعل التنوع الثقافي من المفاهيم التي تدعي الخصوصية، كما لو أن كل ثقافة وجدت ارتباطاتها بمعزل عن المجتمعات الأخرى. رغم أن المجتمعات ليست منعزلة أبداً حينما تبدو منفصلة، فالاستقلال الثقافي هو تنويعات على حضارة واحدة متداخلة.

والهوية العربية ليست ظاهرة عابرة أو منقطعة عما قبلها أو ما يعاصرها، وإلاّ فإننا نشير إلى أن مادة الحضارة العربية الإسلامية عبارة عن أداة من الممكن تحريكها بخفّة والتأثير فيها وتوجيهها. وما علينا سوى البحث عن مذنبين نلقي عليهم التهم.

هذه القابلية للتأثر التي تقود إلى التطويع الجماعي للذهن تنتزع من هذا الذهن بالذات القدرة على التبصر يتجه إلى تأسيس قاعدة لاستيعاب أزمة النكوص بإطلاق المبررات من خلال رؤية أحادية ذات بعد واحد هو الخارج، مما يؤزم المعضلة وتلتبس عملية استيعابها أولاً، وسوء إدارتها تالياً.

وباتجاه آخر يقوم البعض بجلد الذات وتحويل أسباب المعضلة بمجملها على وجه المسألة الآخر، أي الجانب الذاتي، من دون الكلام عن العامل الخارجي، مما يضع النظر على بعض الحقيقة وتغييب بعضها الآخر.

والأطروحة الدارجة، الأكثر تداولاً، في إشكالية النهوض العربي، تلقى على غلبة العنصر الغريب إضافة إلى تنحية الحضور العربي لنفسه أو بفعل المؤامرات الخارجية أو غيرها من الأسباب التي تضعنا أمام نتيجة هي باختصار إشكالية الانسداد النهضوي.

إن بروز مشكلة الاتكاء على هذا الاستنتاج ليس مستجداً على الأنماط الفكرية وطرق التحليل، بل يمكننا القول أنه موروث نلجأ إليه كلما واجهنا قوى الخارج، ونعبر عنه بالعداء التاريخي لخصوصيتنا الثقافية. فظاهرة إطلاق الأحكام متوارثة والقول الثابت دائماً أن اختراق الهوية الثقافية وانتزاع الحاكمية من القوم العربي وهم الأقلية التي سادت كمركز ثقل أساسي منذ القرن الأول الهجري وحتى أواخر الفترة العباسية، هذه الهوية كانت مستهدفة من السلاجقة والمغول والأتراك والفرس، نقول ذلك من دون أن نمحص وندرس وطأة العوامل الخارجية والداخلية المتشابكة، ومن دون أن نلحظ مفاصل القوة والضعف منذ النشوء والنمو، فإلى التألق والتفكك. ومن دون أن نرصد في سلّم التصور، الطابع الطاغي لهذا الادراك لماهية الغروب الحضاري للإمبراطورية العربية الإسلامية.

لقد واجهت النهضة العربية مشكلتها في تعويض النموذج المتأخر القائم كأمر واقع، بنموذج متقدم عليه. قادر على حل أزمة الهوية كون هذا الأخير بوعيه المتميز للأماني القومية فهو بلا شك مستجيب لإنجازها، فتم استبدال التتريك باحتلال الدول الاستعمارية، وجاء الإحباط على قدر التسرع في الاحتكام للأحكام المتسرعة.

وقع الإدراك العربي العام تحت وطأة المفارقات بين الثنائي: السلطة الحاكمة والسلطة المعترضة. أما السلطة الثالثة الممثلة في النخب الثقافية، فقد وجدت نجاتها إما في محاباة السلطة السياسية أو بمجاراة نقيضتها. فالفئات الثلاث تتضارب وتتناغم حسب متطلبات الآنية لجهة ترقيع الأسئلة الحقيقية المطروحة، والمشروع النهضوي لا يزال في حدود الأماني، وسيظل كذلك ما لم يتم التصدي للجهل المضاد للعلم، والتجهيل المضاد للمعرفة، وتجاوز الأمية الثقافية والحضارية.

والاستقلال الثقافي لا يعني الانقطاع عن الثقافات، بل الالتحاق بها والتفاعل معها على أساس الإغناء والاغتناء. ففرادة الهوية والتراث لا تعني انفراد الذات أو اقتياد الآخر، لا لأن الأول جزء من كل، بل لأن الثاني أيضاً بعضاً من هذا الكل.

علينا معرفة وجهتنا، وضبط بوصلتنا، فإذا كنا نجهل إلى أي ميناء ينبغي أن نتوجه، فمن المحال أن نعثر على ريح مؤات.